الأنبياء والليبرالية في القرآن!
منذ 2012-03-02
ربما يكون عنوان المقال صادماً للعديد من القراء.. إذ أنني في المقالين السابقين في هذه الصحيفة الموقرة قد أصّلت لفكرة: أن الليبرالية فلسفةٌ دخيلةٌ على العالم الإسلاميّ، ومفرداتها وجذورها الفكرية، ونواتجها العملية من نواتج تعرض بلادنا للاحتلال الغربي، والموجات المتتابعة من الاستشراق ..
ربما يكون عنوان المقال صادماً للعديد من القراء.. إذ أنني في المقالين السابقين في هذه الصحيفة الموقرة قد أصّلت لفكرة: أن الليبرالية فلسفةٌ دخيلةٌ على العالم الإسلاميّ، ومفرداتها وجذورها الفكرية، ونواتجها العملية من نواتج تعرض بلادنا للاحتلال الغربي، والموجات المتتابعة من الاستشراق ثم الاستغراب -أو التغريب- بعد ذلك، إلا أن الليبرالية لاتزال تشترك مع العديد من النسق الفلسفية القديمة في مبدأ هام للغاية ألا وهو: (إعطاء سلطة تحديد الصواب والخطأ للبشر) وهذا المبدأ نابعٌ من اعتبار أن العقل البشري قادر على الاستدلال على الحقائق المطلقة أو العليا، كما أوضحت في المقال السابق..
يخبرنا الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم عن العديد من المواقف التي حدثت في حضارات مختلفة، والتي توضح لنا أن هذا المبدأ كان موجوداً عند تلك الحضارات والثقافات بشكل أو بآخر، وتذكرنا تلك الآيات -علي الرغم من غياب الكثير من التفاصيل-: بأن الصراع دار دائماً بين الرسل والأنبياء من جهة وقومهم من جهة أخرى، عندما أصر هؤلاء القوم على الاحتفاظ بتلك السلطة ورفضوا التسليم لله عز وجل، وتصديق ما يخبر به أنبيائهم عن الحقائق العليا، كما يبلغهم الوحي الإلهي المعصوم..
أسعى في هذا المقال لاستعراض بعض هذه المواقف مع إدراج تفسير مختصر لها للربط بين الآيات ووضعها في سياق الموضوع، وقد اعتمدت على تفاسير: (الحافظ ابن كثير، والقرطبي) بشكل رئيسي بجانب تفسيريْ: (الألوسي، والسعدي).
يخبرنا الحق تبارك وتعالى عند التعرض لقصة شعيب -عليه السلام- وقومه (أهل مدين): عن الحوار الذي دار بين النبي وبين قومه، وقد أرسل الله عز وجل شعيب إلى قومه لأنهم ارتكبوا جملة من الأفعال التي لا يرضى عنها الله عز وجل، فقد أشركوا بالله فنهاهم شعيب -عليه السلام- عن ذلك: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84]. وظلموا الناس في شرائهم وبيعهم فنهاهم نبيهم عن ذلك أيضاً: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [هود: 85]. وقاموا بفرض المكوس على المارّين من خلال أرضهم وبلادهم، فبيّن لهم شعيب -عليه السلام- حرمة ذلك: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[هود: 85]. وقد قام شعيب -عليه السلام- ببيان الحق لهم، وأنه نبيٌّ مرسلٌ من الله لتقويم ذلك المجتمع والقضاء على تلك المفاسد فيه..
وما يهمنا هنا هو نظرة ذلك المجتمع (مجتمع مدين) إلى الأفعال التي كانوا يفعلونها واستحقت نهي الله تبارك وتعالى لهم عنها، وإرساله لشعيب -عليه السلام- لذلك الغرض، فيخبرنا الله تبارك وتعالى بأن هؤلاء القوم: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]. فيقولون له على سبيل التهكم: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ} لأنه -عليه السلام- كان كثير الصلاة، فهم في هذا الخطاب يتهكمون على صلاته ويتساءلون باستنكار: (هل يمكن أن تكون هذه هي نتيجة صلاتك؟) أنها تأمرك بأشياء مثل: {أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وهم بنسبة معبوداتهم الباطلة للآباء يعظمونها لأن: الإنسان بطبيعته يحترم ويقدس ما كان يفعل آباءه وأجداده، ويزيدون في استنكاره عليهم فيقولون: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} ولسان حالهم يقول: (هي أموالنا نحن وليست أموالك أنت، فإذا تراضينا فيما بيننا بالبخس فلم تمنعنا منه؟!) وأتموا قولهم الباطل بالسخرية منه بقولهم: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} وهو تعبير يراد به التعريض بالسب والاستهزاء كما قال المفسرون..
فالمبدأ الذي رجع إليه قوم شعيب في رفضهم لدعوة نبيهم هو نفس المبدأ الذي تقوم عليه الليبرالية: إذا تراضى المجتمع على أمر ما، فما الذي يعطي لأي أحد السلطة أن يلغي هذا الأمر أو حتى ينكره؟! حتى وإن كان ذلك الإنكار مبلَّغاً عن الوحي المعصوم كما كان حال شعيب، ويتجلى هذا المبدأ بوضوح شديد في قولهم -قبحهم الله-: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} فالتشابه بين قولهم وبين دعوى الليبراليين اليوم بتقنين: (زواج المسلمة من النصراني، أو تقنين الشذوذ الجنسي، أو تقنين الدعارة، أو ما إلى ذلك...) تشابه واضح كالشمس، لا يمكن أن يُخطأه عقل عاقل، ولا فهم لبيب..
مشهدٌ آخرٌ نقف عنده في إنكار الله تبارك وتعالى على من يظن في نفسه القدرة على تحديد ماهية (الصواب والخطأ، والخير والشر) بعيداً عن الوحي الإلهي المعصوم، هو مشهد قوم لوط -عليه السلام-: فلما فشا الشذوذ في أولئك القوم، وانتشرت فيهم تلك الفاحشة الكبرى، أرسل الله تبارك وتعالى لهم نبياً وهو لوط -عليه السلام-: فدعاهم إلى ترك تلك الفاحشة التي كانوا يستحلونها ولا ينكرونها فيما بينهم، فكانت بمثابة الكفر العمليّ الفعليّ، فقال لهم لوط -عليه السلام-: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ . إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 80-81]. فأرسله الله تبارك وتعالى لقومه وهم: (أهل سدوم وما حولها من القرى) يدعوهم إلى الله عز وجل، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من (المآثم والمحارم والفواحش) التي اخترعوها، لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم، وهو: (إتيان الذكور) وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه، ولا يخطر ببالهم حتى صنع ذلك أهل (سَدُوم) عليهم لعائن الله، فماذا كان رد قومه؟ أو بمعنى آخر: كيف كان قومه يرون فعلهم لتلك الفاحشة فيما بينهم؟
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82].
فهؤلاء القوم كانوا مقتنعين بما يفعلونه من الفواحش، لدرجة أنهم رأوا في (تطهر) لوط ومن آمن برسالته سبباً كافياً لنفيهم من بلادهم..! وهذا يدل -إن دلّ على شيء-: على درجة الاقتناع التي يمكن أن يصل إليها مجتمعٌ ما بشيء تعتبره الشريعة الإلهية من أكبر الفواحش، وفي هذا جواب علي من يقول: أن تحكيم الشريعة غير ضروريّ، لأن الناس مؤمنون بطبعهم ومنفذون لأوامر الشريعة بفطرتهم، فتلك الفطرة وهذه الطبيعة يمكن أن تفسد كما فسدت فطرة هؤلاء القوم إلى درجة اعتبارهم أن التطهر من الشذوذ سبباً موجباً للعقاب (القانوني) إن جاز التعبير وهو: النفي من البلاد..!
ويقول العلامة (الألوسي) في تفسيره تعليقاً على هذا القول من قوم لوط : "ومقصود الأشقياء بهذا الوصف السخرية بلوط ومن معه، وبتطهرهم من الفواحش، وتباعدهم عنها وتنزههم عما في المحاش والافتخار بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظوهم: أخرجوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد". وهذا يزيد في الدلالة على مدى تقبل المجتمع آنذاك لهذه الفاحشة الكبرى، وعلى هذا يدعو ليبراليو اليوم إلى: التخلص من كل من يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية بدعوى أنه: (عدو الحريات، ورجعي، وغير مؤمنٍ بالحداثة، وغير مؤمنٍ بالمساواة الإنسانية) وغير ذلك من الألفاظ المستوردة مع معدات الليبرالية الحديثة القادمة من الغرب...
والقصص غير ذلك كثيرة في القرآن مما لايتسع المقام لحصره، وكلها تُرينا: كيف كانت العديد من الحضارات السابقة تعتز بما وضعته لنفسها من سلطةٍ لتقرير: (الحق والباطل، والخير والشر، والصواب والخطأ) بمعزلٍ وبتضاد مع الوحي الإلهيّ، ولكن الله تبارك وتعالى قد أنزل لنا آية محكمة لا يزيغ عنها المؤمن الموحد، يقول تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. والعبرة من هذه الآية في قوله تبارك وتعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} فالمعروف والمنكر، والطيبات والخبائث: إنما تلك التي حددها الله تبارك وتعالى وفصلها وشرحها النبي صلى الله عليه وسلم..
وبالتالي فأي نظام اجتماعي يصيغه المسلمون، وأي نظام سياسي يضعه المسلمون يجب أن يقرر تلك الحقيقة الثابتة: أن النظم الأخلاقية ومعايير الصواب والخطأ، والخير والشر، بالنسبة للفرد والمجتمع المسلم هي: التي تحددها الشريعة الإسلامية وحدها، وما يتعارض ويتضاد مع تلك النظم: (الأخلاقية، والمعايير الربانية) التي تعلمتها الأمة الإسلامية من نصوص الوحي المعصوم يجب: أن يحاربها المجتمع بكل ما أوتي من قوة، امتثالاً لأمر الله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
د. خالد صقر
باحث زائر: (جامعة ماليزيا التكنولوجية).
khaledsaqr@gmail.com
المصدر: موقع جريدة المصريين
- التصنيف: