رحلة في محراب التأمل والتفكر
هل جرَّبتَ أن تسافر بعينيك قبل قدميك، لتشهد عظمة خلق الله؟ أحيانًا، لا تكون الرحلات مجرد انتقال من محطة إلى أخرى.
هل جرَّبتَ أن تسافر بعينيك قبل قدميك، لتشهد عظمة خلق الله؟
أحيانًا، لا تكون الرحلات مجرد انتقال من محطة إلى أخرى.
بل تكون عبورًا من ضجيج الدنيا إلى سَكينة الروح، ومن وجوه غريبة لا نعرفها، إلى ملامح الجمال التي صنعها الخالق، هي رحلة تأملٍ وتفكر.
هناك، خلف نافذة القطار، وجدت نفسي أتنقَّل بين عالمَين مختلفين؛ بين حكايات البشر المرسومة على وجوه الرُّكَّاب، وبين المشاهد البديعة التي أوجدتها قدرة الخالق على صفحة الطبيعة.
وكانت الرحلة أعمقَ مما توقعت، فلم تكن مجرد مشهد عابر، بل كانت حديثًا صامتًا بين قلبي والكون.
منذ عدة أيام، حملني القطار في رحلةٍ لم أخطط لها إلا بقلبي.
وكعادتي، اخترتُ المقعد الملاصق للنافذة، كمن يفتح شرفةً على بستانِ أحلامه، أو كطفلة أعادها الحنين إلى النظر من نافذة القطار.
تجوَّلت عيناي بين وجوه الركاب، وكأنني أتصفح كتابًا صامتًا كُتبت سطوره بلغة الملامح.
هناك من داعب الكَرَى معاقد جفنَيه، رأسه مائل إلى النافذة كغصنٍ مثقلٍ بنَدى الصباح.
وهناك آخر يقبض على أوراقه بعناية، كمن يخشى أن تتسرب أحلامه من بين أصابعه.
طفلة صغيرة، بجدائلها المتراقصة، تبتسم لي كلما التقت عيوننا، وكأن بيننا سرًّا خفيًّا لا يعرفه سوانا.
وفي الممر، يتنقل الباعة ببضائعهم، يحملون في خطواتهم لهجة الحياة البسيطة، وأصواتهم تختلط بصوت القطار كإيقاعٍ مكمِّل للرحلة.
لفتتني إحداهن، كانت تحمل سلَّتها بثباتٍ وإصرار، وحين اقتربت، ألحَّت عليَّ أن أشتريَ منها، فابتسمتُ بلطف شاكرةً، لكنها توقفت فجأة لتتأمل وجهي، ثم همست عن بشاشةٍ قرأتها فيه.
كلماتها انزلقت إلى قلبي بلا استئذان، فارتسمت ابتسامة غير إرادية على ملامحي لم أستطع منعها، ومددت يدي أشتري منها، ليس للبضاعة، بل لجبر خاطرها، وكأنني اشتريت معها لحظةً إنسانية لا تُقدر بثمن.
وكأنني حين فرغت من قراءة وجوه الركاب، فتحت صفحة أخرى من الرحلة، لكنها هذه المرة نافذةٌ على عالمٍ باهر من الجمال الرباني.
تركت الركاب كلًّا على حاله، وتحولت بقلبي إلى نافذتي الصغيرة.
اهتز القطار في انطلاقةٍ واثقةٍ، وتشبَّثت بنافذتي كطفلة ارتسمت على ملامحها فرحة لا تَخفى.
أطلقت بصري، فإذا بالأرض الخضراء تنبسط أمامي كسجادةٍ من سندس، نسجتها يد الخالق بمهارة لا يدرك سرها، إلا من وقف عند حدود التأمل والتفكر.
صفوف النخيل بأوراقها التي تتمايل برفق، بدت لي كندفٍ من السحاب علقَت بين الأرض والسماء، تُظلل المشهد وتبتسم لعابري الطريق، وقلبي يردد: {﴿ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ﴾ } [ق: 10].
على الجانب الآخر، كانت البحيرة تبتسم، مياهها الزمردية الشفافة تعكس أجنحة الطيور في سماء عالية، فيما الشمس تميل بخجلٍ، تمُد خيوطها الذهبية لتداعب نافذتي، فتلامس عيني وترسم على صفحة الماء قوس قزح صغيرًا، يتوارى بين تموجاته الهادئة.
تمنيتُ لو أن القطار يترفق بي قليلًا، ويتوقف لأرتمي في أحضان تلك الطبيعة الصامتة ذات السحر البديع، لأغرق بين سعف النخيل، وأتنفَّس بعمق هذا الهواء النقيَّ الذي حُرمنا منه نحن سكان المدينة، وأسبح باسم الخالق الذي أبدع في كل ما حولي.
هواء الصباح كان طازجًا كقطرة ندى، يزاحم أنفاسي ليغسل صدري من غبار الحياة وضجيجها.
مساحاتٌ خضراء تتوالى، يتخللها وجه دوَّار الشمس المشرق، يبتسم لي بألوانه الصفراء وعرقه الأخضر، كأنه ينحني ويلوح لي في خجل، شاكرًا ومسبحًا لله الخالق، وكأني بقلبي يرد سلامه بتسبيحات في خشوع: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!
ورغم أني لست من هواة الخروج من المنزل، فإن هذه اللوحة الربانية أخذتني من يدي، وأدخلتني في عالم آخر، عالم التأمل والتفكير في مخلوقات الله، وأخذتني إلى صلاة صامتة، يردد قلبي فيها: سبحانك ما أعظمك، ما أجملك، ما أبدعك!
ومع كل مترٍ يقطعه القطار، كان المشهد يبتعد، لكن قلبي يزداد اقترابًا؛ اقترابًا من الله، ومن حقيقة أن الجمال حولنا ليس إلا رسالة حبٍّ منه لعباده.
تركت النافذة ببطء، وكأنني أودع صديقًا عزيزًا، لكنني حملت معي تلك اللوحة الربانية مطوِيَّة في قلبي، أفتحها كلما ضاق صدري، فتتنفس روحي من جديد.
فاطمة الأمير
كاتبة أسعى للتغيير و الإصلاح، وهدفي الدعوة إلى الله، لدي بفضل الله العديد من المقالات وبعض الكتب منها: رمضان بداية حياة، هل يستويان؟!، حتى لا تغتال البراءة.
- التصنيف: