الرد الجميل المُجْمَل على شبهات المشكِّكِين في السنة النبوية

منذ 8 ساعات

هذه عشر قواعد نافعة كافية في رد شبهات المشكِّكِين في سنة النبي محمد عليه الصلاة والتسليم:

 

هذه عشر قواعد نافعة كافية في رد شبهات المشكِّكِين في سنة النبي محمد عليه الصلاة والتسليم:

القاعدة الأولى: أهمية السنة النبوية:

السُّنَّةُ النبوية هي المبينةُ للقرآن الكريم، ومِنْ حِفظِ الله للقرآن أن حفظ السُّنَّةَ التي تبين مجملَه، وتُفَصِّلُ أحكامَه، فحفظُ القرآن الكريم يستلزمُ حفظَ بيانِه وهو السنة، وقد أمرنا الله سبحانه في كتابه العظيم بطاعتِه وطاعةِ رسوله، وطاعةُ الله تكونُ باتباعِ القرآن، وطاعةُ الرسول تكونُ باتباع السنة، ولا يستغني المسلمُ عن الأخذ بالسنة النبوية، فقد أمرنا الله مثلًا في القرآن بإقامة الصلاة، ولم يبين الله لنا في القرآن كيفيتها وأحكامَها، وبين لنا ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بسنته؛ فبيَّن عدد كلِّ صلاة، وما يُقرأ في القيام، وما يُقال في الركوع والسجود والتشهد، وبيَّن صفتها وأحكامها وأنواعها ومستحباتها، وهكذا الصيام والزكاة والحج وغير ذلك من الأحكام، فلا غنى للمسلم عن السنة النبوية القولية والفعلية، قال الله سبحانه: {﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾} [الأحزاب: 21]، وهذه القدوة الحسنة مستمرة لكل المؤمنين في كل زمان، ويلزم من ذلك أن يحفظ الله سنة النبي صلى الله عليه وسلم لجميع الأمة أولها وآخرها، حتى يتمكنوا من الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام، وقد أخبر الله أن من أطاع الرسول فقد اهتدى فقال: {﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾} [النور: 54]، وقال الله تعالى: { ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾} [النور: 63]، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «((مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))» [رواه البخاري (5063) ومسلم (1401)] .

القاعدة الثانية: تكذيبُ الخبر مع احتمال صدقه ضلالٌ مبين:

أمرنا الله سبحانه في كتابه العظيم بطاعته وطاعة رسوله، وطاعة الله باتباع القرآن، وطاعة الرسول باتباع السنة، ولا بد أن يحفظ الله السنة النبوية إلى آخر الزمان كما حفظ القرآن الكريم؛ ليتمكن المسلمون في كل زمان من طاعة الله وطاعة رسوله، والحديث النبوي وحيٌ من الله، والسُّنة النبوية مبيِّنةٌ للقرآن الكريم، كما قال الله سبحانه لرسوله: {﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾} [النحل: 44]، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بيَّن للناس القرآن الكريم بسنته القولية والفعلية، فبيَّن لنا مثلًا أحكام الصلاة والزكاة والصيام والحج والبيوع والربا والنكاح والطلاق والدِّيات وغير ذلك مما ذكره الله في القرآن مجمَلًا، وبينه النبي عليه الصلاة والسلام في سنته مفصَّلًا، وقد أمرنا الله إن جاءنا فاسقٌ بنبإٍ أن نتبين خبره، لا أن نسارع بإنكاره وتكذيبه؛ لاحتمال صدق الفاسق في ذلك الخبر، فما بالُكم بما أخبرنا به الصحابة الذين نقلوا لنا القرآن الكريم والسنة النبوية، وبما أخبرنا به التابعون الذين تعلَّموا من الصحابة القرآن والسنة؟! فتكذيبُهم في أخبارهم - مع أن الأصل صدقهم - ضلالٌ مبين.

القاعدة الثالثة: خبر المتخصصين في أيِّ علمٍ لا يصحُ أن يرده الجاهلون بذلك العلم:

 قواعدُ أهل الطب لا يُقبَل ردُّها من الجاهلين بالطب، وقواعدُ النحاة لا يَرُدُّها الجاهل بالنحو، وهكذا ما صححه المحدثون من الأحاديث لا يُقبَل ردُّها بالظن، فإن الظَّنَّ لا يُغني من الحق شيئًا.

وأهل الحديث يجمعون طرق كل حديث بالأسانيد المتعددة فيتبين لهم حالُ الرواة في الحفظ والإتقان، فمن وافق من الرواة أصحابَه الذين يشاركونه في الرواية عن شيخهم تبين لهم ضبطُه وإتقانُه، فإن خالفهم بالزيادة والنقصان والخطأ في المتن أو الإسناد تبين لهم ضعفُ حفظِه، فإن أضاف إلى ذلك تفرُّدَه بروايات عن شيخهم الواحد لم يذكرها غيره من طلاب ذلك الشيخ تبين لأهل الحديث كذبُ ذلك الراوي أو اتهموه بالكذب بحسب إكثاره من التفرد وبحسب مروياته ومخالفته لأقرانه الذين يروون عن شيخ واحد، والمحدِّثون لا يقبلون الحديث إذا كان مخالفًا لكتاب الله تعالى أو لما ثبت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبعض منكِري السنة يُكذِّب بالحديث الصحيح لظنه معارضتَه للقرآن الكريم، مع أن العلماء أعلمُ بالقرآن الكريم، وأيُّ حديثٍ يخالف القرآن الكريم أو يخالف السنة الصحيحة فالعلماء هم أولُ من يبينون عدم صحتِه.

ويوجد حديث مكذوب يغتر به كثيرٌ من الناس، وهو: (اعرضوا الحديث على كتاب الله، فإذا وافقه فاقبلوه، وإذا خالفه فردوه)، قال الشوكاني رحمه الله بعد أن ذكر عدم صحة هذا الحديث: "في هذا الحديثِ الموضوع نفسِه ما يدل على ردِّه؛ لأنا إذا عرضناه على كتاب الله خالفه، ففي كتاب الله: {﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ } [الحشر: 7]، ونحو هذا من الآيات" يُنظر: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني (ص: 291). 

واعلم أن القول بعرض السنة على القرآن فإن وافقها قُبِلت، وإن خالفها رُدَّت، قولٌ لا يصدر إلا من جاهل بمنزلة سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا اللهُ في القرآن بطاعته واتباعه، وحذَّرنا من مخالفة أمرِه، وقائلُ هذا القولِ - إن كان عارفًا معنى كلامه وملتزمًا به -لم يُعظِّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم حق تعظيمِه، حيث سوَّى قولَه بقولِ غيرِه، ولم يُفرِّق بين قولِ الرسول عليه الصلاة والسلام وقولِ غيرِه!

ثم إنه لا يوجد أصلًا حديثٌ صحيحٌ يعارض القرآنَ الكريم، وإذا وُجِد حديثٌ صحيحٌ ظاهرُه يخالفُ القرآنَ فقد وجَّهَهُ العلماء، وبيَّنوا معناه، كما وجَّهُوا بعضَ الآيات التي يخالفُ ظاهرُها آياتٍ أخرى في كتاب الله.

فمثلًا: قال الله تعالى: {﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ﴾} [المرسلات: 35]، وقال سبحانه: {﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾} [الإسراء: 97]، وقال عز وجل: { ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾} [طه: 124، 125]، في هذه الآيات الكريمة أن الكفار لا ينطقون يوم القيامة ولا يبصرون ولا يسمعون، وقد جاءت آياتٌ أخرى تدل على أنهم ينطقون ويبصرون ويسمعون، كقوله تعالى: {﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾} [السجدة: 12]، فهذه الآيةُ تعارضُ في الظاهر الآيات السابقة، وقد بيَّن العلماءُ أنه لا تعارضَ بين الآيات، قال أهل العلم: القيامةُ مواطنُ كثيرة، ففي بعضِها ينطقون، وفي بعضِها لا ينطقون، وبهذا نُصدِّق بجميع النصوص، وكلُّها حق، ولا تُرَدُّ بعضُ النصوصِ ببعضٍ بدعوى التعارضِ كما هو منهجُ المشككين في السنة، فهذا جهلٌ عظيمٌ بمنهج العلماء، فإنهم لا يقولون بالتعارض إلا إذا لم يُمكِن الجمع، وأيُّ حديثٍ يخالفُ حديثًا صحيحًا فضلًا عن مخالفته لآيةٍ من كتاب الله فإن علماء الحديث يرُدونه ولا يقبلونه، ويُبيِّنون ما في متنِه مِن نكارةٍ وما في سنده مِن خَلَل.

وما أكثرَ المغرورين الجاهلين بالسنة النبوية الذين يجحدون جهودَ علماءِ الحديث المتخصصين، ويتعالمون ويتطاولون على أئمة الحديث الراسخين، ويُظهِرون أنفسهم علماء مميِّزين للصحيح من الضعيف، ويَدْعُون الناسَ إلى عرضِ الأحاديثِ صحيحِها وسقيمِها على القرآن الكريم، ويُريدون بذلك ردَّ الأحاديثِ النبوية بأهوائهم، ويتناقضون حين يستدلون بالحديث إذا كان يوافق أهواءهم ولو كان حديثًا ضعيفًا أو موضوعًا، ويَرُدُّون ما لا يوافق أهواءهم ولو كان حديثًا صحيحًا أو متواترًا!

 وسببُ هذا التخبطِ العلمي أنهم لا يرجعون إلى تمييز صحيحِ السنة من سقيمها إلى أهل الحديث المتخصصين، فيخبِطون خبطَ عشواءَ في الاستدلال والرَّدِّ والقَبول، وسأذكر مثالين يتبين بهما تناقُضهم:

المثال الأول: يقول الله تعالى: {﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾} [الأحزاب: 56]، وفي حديثِ الصلاة الإبراهيمية: «((اللَّهُمَّ صَلِّ علَى مُحَمَّدٍ، وعلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كما صَلَّيْتَ علَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ علَى مُحَمَّدٍ وعلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كما بَارَكْتَ علَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ))» رواه البخاري (4797) ومسلم (406)، فلو عرضنا هذا الحديث على القرآن لرددناه؛ لأن الله لم يذكُرْ في الآيةِ القرآنية الصلاةَ على الآل، بل أمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقط من غيرِ ذكرِ آلِه، ولا شك في مشروعية الصلاةِ الإبراهيمية لورودها في السنة النبوية الصحيحة، وإن لم تَرِدْ في القرآنِ الكريم.

المثال الثاني: يقول الله تعالى: {﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾} [الأنعام: 145]، يُفهَم من هذه الآية المكيةِ أنه لا يحرُم من المطعومات غيرُ ما ذُكِر فيها من الميتة والدَّمِ المسفوحِ ولحمِ الخنزير وما أُهِل لغير الله، وقد ثبت من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحُمُر الإنسية رواه البخاري (4216) ومسلم (1407)، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير رواه مسلم في صحيحه (1934)، فمن يؤمن بالقرآن الكريم والسنة النبوية فإنه يُحرِّم بدلالة السنة النبوية أكل الحمير الإنسية، والأُسود والنُّمور والذئاب والقِطَط ونحوها من ذات الأنياب، والصقور والنُّسور والغِربان ونحوها من ذات المخالب التي تتقوى بها في افتراسها، ويؤمن بتحريمها وإن لم يَذكر الله تحريمها في القرآن الكريم، فإن السنة وحي من الله، وتلك الآيةُ المكيةُ نزلت قبل الهجرة، ثم في المدينة حرَّم النبي صلى الله عليه وسلم - بوحي من الله - أكلَ الحمير وحرَّم أكل ذوات الأنياب والمخالب، وما حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرَّم الله.

القاعدة الرابعة: إذا تعارض نصان ثابتان يُجمَع بينهما ولا يُكذَّب أحدُهما:

إذا تعارض نصان ثابتان سواء كانا آيتين أو آية وحديثًا، أو كانا حديثين، فإن العلماء يجمعون بينهما، فإن لم يُمكِن الجمعُ ينظرون في الناسخ والمنسوخ، فإن لم يُعرَف المتقدِّمُ من المتأخِّر يُرجِّحون بينهما، فإن لم يُمكِن الترجيحُ يتوقفون، ولا يجزمون بإنكار خبر يحتمل الصدق، والأحاديث التي يضعفونها يتوقفون في صحتها، ولا يجزمون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقلها؛ لاحتمال صحتها في نفس الأمر، ولذلك كتبوا الأحاديث الضعيفة حتى لا يضيع شيءٌ من السنة النبوية، والأحاديث الموضوعة المكذوبة هي التي يجزمون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقلها، فهذه طريقة أهل العلم قديمًا وحديثًا، أما طريقةُ أهل الأهواء فالتكذيب والرد لما يظنونه مخالفًا لعقولهم المغرورة! وطريقتهم هذه مبتَدَعة ومتناقضة، وقد توصِلُهم إلى الكفر إن أعملوها في نصوص القرآن الكريم، وإن لم يُعملوها في القرآن وأعملوها في السنة تناقضوا؛ فإن القرآن والسنة الصحيحة كلاهما وحيٌ من الله، وكلاهما حق، وإن صدَّقوا ببعض الآيات القرآنية وإن لم يفهموا معناها أو حقيقتها فلماذا لا يقبلون بعض ما في السنة مما لا تستوعبه عقولهم؟!

وهذا التناقض الواضح يكفي في بيان بطلان منهجهم، فإن في القرآن العظيم أشياءَ تُحيِّر العقل، ويجب الإيمان بها وإن لم تستوعبها عقولنا، وسأذكر ثلاثة أمثلة من سورة واحدة وهي سورة الكهف:

1.   قصة أصحاب الكهف العجيبة، فإنه لا يمكن لأحد أن يعيش مدة طويلة نائمًا أو مستيقظًا من غير غذاء، ولكننا نؤمن به لأن خبر الله حق لا ريب فيه.

2.   قصة موسى مع الخضر عليهما الصلاة والسلام، وفيها عجائبُ كثيرة، منها أن الله أحيا الحوت بعد موته، واتخذ طريقًا في البحر، وصار في البحر نفقٌ في مكان دخول الحوت البحر! وهذا شيء عجيبٌ جدًا كما قال فتى موسى: {﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾} [الكهف: 63]، فهل يدخلُ هذا العقل؟! نعم يدخل عقول المؤمنين، ولو كان هذا في حديث صحيح لآمنَّا به، والله على كل شيء قدير.

3.   قصة ذي القرنين، وبنائه الردم على المكان الذي كان يخرج منه يأجوج ومأجوج، وهذا أمرٌ عجيبٌ جدًا يُحيِّر العقول، ونحن نؤمن بهذه القصة التي أخبرنا الله عنها، ولا نشك فيها، ومن شك فيها وقال: هذا من أساطير الأولين فقد كفر، ولو كانت هذه القصة في حديث صحيح لسمعنا بعضَ أهلِ الزيغ يسارع بقوله: هذا من خرافات الأولين! هذا لا يدخل العقلَ ولا يمكن أن نصدقه أبدًا! أما المؤمنون فيصدقون به، سواء قاله الله أو قاله رسوله صلى الله عليه وسلم.

القاعدة الخامسة: باجتماعِ النقلِ الصحيح والعقلِ الصريح تُدْرَكُ الحقائقُ الشَّرعيَّةُ:

شريعة الإسلام توافق العقلَ الصريح، وتهتم به، وترفع منزلتَه ومكانتَه، وتصرِف طاقتَه فيما يفيد، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو إلى التفكر واستعمال العقل، كقوله تعالى: {﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ } [الأنعام: 32]، وباجتماعِ النقلِ الصحيح من القرآن والسنة والعقلِ الصريح تُدْرَكُ الحقائقُ الشرعيَّةُ؛ فلا النقلُ وحده يُفِيدُ فاقدَ العَقْلِ، ولا العقلُ وحده يُفِيدُ فاقدَ النَّقْل، فلا بد من اجتماعهما، وبنقصِ واحدٍ منهما تَنْقُصُ المعرفةُ بالحَقّ، وليس في القرآن والسنة ما يخالف العقل أصلًا.

وإن تعارض النقل والعقل في الظاهِرِ قُدِّمَ النَّقْلُ على العقلِ؛ لأنَّ النَّقْلَ عِلْمُ الخالِقِ الكامِلِ والعَقْلَ عِلْمُ المخلوقِ القاصِر، وهذا التعارض يكون بحسب الظاهر لا في حقيقة الأمر؛ فإنه لا يمكن أبدًا حصول تعارض بين النقلِ الصحيح والعقلِ الصريح، وإذا وُجِد تعارضٌ فإما أن يكون النقل غير صحيح أو العقل غير صريح، والعقل كالبَصَر، والنقل كالنُّور؛ لا يَنتفِعُ المُبْصِرُ بعينِهِ في ظلامٍ دامِس، ولا يَنتفِعُ العاقلُ بعقلِهِ بلا وَحْي، وبِقَدْرِ النَّورِ تَهْتَدِي العَيْن، وبقدرِ الوحيِ يَهتَدِي العَقْل، وبكمالِ العقلِ والنقلِ تَكتمِلُ الهدايةُ والبصيرة؛ كما تَكتمِلُ الرؤيةُ حِينَ الظَّهِيرَة، فالمؤمنون أبصرُ الناس بالحقائق الشرعية؛ لجمعهم بين النقل الصحيح والعقل الصريح.

القاعدة السادسة: يجب اتباعُ الوحي وعدمُ الاستغناءِ عنه بالعقل وحده:

يجب اتباع الوحي وعدم الاستغناء عنه بالعقل وحده، ومَنْ قال: إِنَّهُ يَهتَدِي إلى الله بعقلِهِ المُجرَّدِ بلا وحيٍ فهو كمَنْ قال: إنَّهُ يَهْتَدِي إلى طريقِهِ في الظلام بعينِهِ بلا نور! فلا هداية إلا لمن اتبع الوحي، ومن لم يتبعه فقد ضل ضلالًا مبينًا.

وقد ضلَّ مَنْ يقول: لا أُصدِّق بأيِّ حديث إلَّا إذا أدرَكَهُ عقلي، وما لا يُدْرِكُهُ عقلي لا أُؤمِنُ به؛ فإنَّ هذا قَدَّمَ العقلَ القاصرَ الناقصَ الذي يجهلُ أكثرَ مما يعلمُ على الحديث الصحيح الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم من أشياء يُصدِّق بها العقلاء وإن كانوا لا يدركونها بعقولهم، حتى في أمور الكون وطبيعة الإنسان، مثل تثاؤب الإنسان حين يثاءب شخصٌ بجواره، فإن هذا يُحيِّر الأطباء وعلماء الطبيعة، ولا يعرفون سببه إلى الآن، ومع هذا يصدق العاقل بوقوعه وإن كان لا يُدرِك عقلُه سببه.

 فالمؤمن العاقل يُقدِّم الحديث الصحيح على كل عقل، فما لا يُدرِكُهُ العقلُ لا يَعْنِي عدَمَ وجودِهِ، ولكنَّهُ هو غيرُ مُدْرِكٍ له، فللعقلِ حَدٌّ يَنتهِي إليه، كما أنَّ لِلْبَصَرِ حَدًّا ينتهِي إليه، لا ينتهي الكونُ والوجودُ بنهايتِهِ، وللسمعِ حَدٌّ لا تنتهِي الأصواتُ بنهايتِهِ؛ وللنَّمْلَةِ صوتٌ لا يُسْمَع، وفي الكونِ كواكبُ لا تُرَى، ولا ينكر العاقل وجود صوتٍ للنملة لكونه لا يسمعه، ولا يُنكر وجود كواكب بعيدة لأنه لا يراها، ومن أنكر وجودَ روحٍ للإنسان لكونه لا يُدْرِكُ الروح بعقله فليس من العقلاء.

ومعلومٌ أن النصوص الشرعية منها ما يفهمه غالب الناس، ومنها ما لا يفهمه إلا العلماء، وواجب المسلم العمل بالمحكَم، والوقوف عند المتشابه، ومن المتشابه ما لا يعلم معناه إلا الراسخون في العلم، ولا يجوز التشكيكُ في المحكمات بضربها بالمتشابهات، فهذا سبيل أهل الغي الذين في قلوبهم زيغ، يقول الله سبحانه: {﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾} [آل عمران: 7]، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده (6741) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( «مَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ» ))، والعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح بحال، ومتى توهم متوهِمٌ أن نصًّا من النصوص الشرعية الثابتةِ مخالفٌ للعقل فليتَّهم عقْلَه هو، والشريعة الإسلامية - بحمد الله- تأتي بما تحارُ فيه العقولُ، ولا تأتي أبدًا بما تُحِيله العقولُ كما قرر ذلك علماء الإسلام، بمعنى أن الشريعة لا تأتي بما تعُدُّه العقولُ السليمة أمرًا مستحيلًا.

ويجب التسليم للنقل الصحيح أخبارًا وأحكامًا سواء عَرَفْنا العِلَّةَ أو لم نَعْرِفْها، ويجب على المسلم أن يُقدِّم قول الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم على كل قول، وعلى كل قياس، وعلى كل ذوق، وعلى كل استحسان، قال الله تعالى: {﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾} [الحجرات: 1]. 

القاعدة السابعة: تشابُهُ طريقةِ الطاعنين في القرآن الكريم وطريقةِ الطاعنين في السنة النبوية:

مِنْ مَكْرِ المستشرقين وخُبثِهم عندما يُنَفِّرُون الناس من القرآن الكريم أنهم يُظهِرون للناس أنه كتابٌ مليءٌ بالخرافات وبما يخالف العقول، فيذكرون لهم مثلًا قصة يأجوج ومأجوج والردم الذي بناه ذو القرنين، ويذكرون آية إتيان عرش بلقيس إلى النبي سليمان عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلام، ويذكرون آية الدَّابةِ التي ستخرج من اﻷرض وتُكَلِّم الناس آخر الزمان، ويقولون: أين يأجوج ومأجوج؟! وكيف يُمكن مجيءُ عرش بلقيسَ من اليمن إلى الشام في ثوانٍ معدودة؟! وكيف تُكَلِّمُ الناس دابة؟! وبأي لغة تخاطبهم؟!

والمؤمن يعلم أن ما أخبر الله به صدقٌ لا ريب فيه، ونحن لا نعلمُ تفاصيل ما غاب عنا مما أخبر الله به ورسوله، ونؤمن أن الله على كل شيء قدير، لكن بهذا المكرِ والخداعِ يَفْتِنُ المستشرقون مَنْ لا يعرفون القرآن، ويُوهِمونهم أنَّ آياتِ القرآنِ كلِّه مثلُ هذه اﻵيات التي يؤمن بها المسلمون، وإن كانوا لا يعرفون تفاصيلها، ولو أنَّ مَن لا يعرف القرآن قرأ القرآن الكريم الذي هو أكثر من (6000) آية؛ لَتَبَيَّنَ له مكرُ المستشرقين وخبثهم، حيث تركوا كل آيات القرآن الواضحة، واختاروا تلك اﻵيات التي لا يفهمها بعض الناس؛ لِيُنَفِّرُوا الناس عن القرآن كله!

ولو سأل الجاهلُ بالقرآن أهلَ العلم من المفسرين؛ لوجد الجوابَ عن كل آيةٍ أَشكَلَت عليه.

وهكذا نجد الطاعنين في السنة يشابهون الطاعنين في القرآن، ويقتدون بهم في طريقتهم الماكرة الخبيثة؛ لِيُنَفِّروا الناس من السنة النبوية، فيُوهمون الناس -مثلًا- أنَّ صحيح البخاري مليءٌ بالخرافات، وبما يخالف العقل والشرع، فيبحثون فيه عن بعض اﻷحاديث التي لا يفهمها العوام، وهي قليلة جدًا، ويُهَوِّلُون الكلام حولها، مثلُ تهويل المستشرقين حول تلك اﻵيات القليلة المعدودة، فيَفتنون بذلك مَن يسمعهم مِن العوام وغيرِ المتخصصين في علم القرآن والسنة، والله المستعان!

ولو أنَّ من لا يعرف صحيح البخاري قرأ صحيح البخاري – وعددُ أحاديثه (2500) حديث تقريبًا من غير تكرار - لَتَبَيَّنَ له مكرُهم وخُبثُهم؛ حيث تركوا كل أحاديث صحيح البخاري، واختاروا تلك اﻷحاديث القليلة التي فيها إشكالٌ فيُدندِنون حولها؛ لينفروا الناس عن السنة النبوية كلها!

ولو سأل غيرُ المتخصص في الحديث علماء الحديث المتخصصين؛ لوجد الجوابَ الشافي عن كلِّ حديثٍ مشكِل كما أجاب المفسرون عن كل آية في معناها إشكال، وقد ألَّف العلماء التآليف الكثيرة في بيان اﻷحاديث التي فيها إشكال، وأزالوا الإشكال عنها، والحمد لله رب العالمين.

القاعدة الثامنة: خطورة الظن السيء بالعلماء الراسخين

قال الله تعالى: {﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾} [الحجرات: 1] لم تظهر العقائد الضالة والمذاهب الباطلة إلا من الظنون الكاذبة، ومن ذلك الظن السيء بعلماء الأمة، ونقلةِ القرآن والسنة، والظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، يُنظر: التحرير والتنوير لابن عاشور (26/ 251، 252).

والواجب على المسلم أن يعرف قدر العلماء، فقد رفع الله منزلتهم في القرآن، وعلى المسلم أن يسأل المتخصصين في كل علم عمَّا يُشكِل عليه منه، كما قال تعالى: {﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ } [الأنبياء: 7].

وإن من الضلال المبين أن يسيء المسلم الظن بأهل الحديث الذين أفنوا أعمارهم فيه، ويظن هذا المتعالم المغرور أنه أعلم من أولئك العلماء أجمعين! فليحذر الذين يطعنون في كتب السنة النبوية، ويتطاولون على أئمة الحديث وعلماء الأمة أن يكونوا ممن ذمهم الله بقوله: {﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾} [النجم: 23]، وندعو كل الطاعنين في كتب السنة النبوية، المحتقرين لعلماء الأمة، إلى التوبة من مخالفة كتاب الله فيما نهى عنه من الظن السيء بعلماء الأمة الراسخين الذين نقلوا لنا العلم النافع، من القرآن الكريم وقراءاته وتفسيره والسنة النبوية وشرحها والفقه والسيرة النبوية والتاريخ واللغة والنحو والأصول وغير ذلك من العلوم النافعة التي حفظها الله لنا بجهود العلماء الراسخين، وأقسم الله بالقلم وما يسطرون إشارة إلى أهمية القلم في حفظ العلوم.

القاعدة التاسعة: إنصاف علماء الحديث

كان رواة الحديث رحمهم الله يكتبون اﻷحاديث النبوية عن كل صحابي وعن كل تابعي وعن كل أتباع التابعين وتابعيهم، ويحرصون على كتابة العلم عن كل من له رواية، سواء كان عربيًا أو عجميًا، وسواء كان ثقة أو ضعيفًا، ثم بعد جمعهم لطرق الأحاديث ومقارنتِهم للروايات بعضِها ببعض يتبين لهم أحوالُ الرواة، فيعرفون الصادق والكاذب، والحافظَ المتقن وضعيفَ الحفظ، ويميزون بين صحيح الروايات وسقيمِها.

وقد روى أهل الحديث رحمهم الله عن الرواة من أهل بيت النبوة كلَّ ما وصل إليهم من أحاديثهم، ولم يُفرِّطوا في شيء منها، ولو نظرت في مسند أحمد بن حنبل فستجد أنه روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أكثر مما روى عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم مجتمعين، فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه 818 حديثًا، بينما روى عن الخلفاء الراشدين الثلاثة 561 حديثًا، وهكذا روى المحدثون ما وصل إليهم من أحاديث الحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي بن الحسين الملقب الباقر وزيد بن علي بن الحسين وغيرهم من آل البيت.

ويزعم بعض الجهلة أن المحدثين جاملوا بني أمية فرووا أحاديث تُرضيهم، وأعرضوا عن رواية الأحاديث التي لا تُرضيهم، وهذه دعوى باطلةٍ لا دليل عليها، ومما يدل على بطلان دعوى مجاملةِ أهل الحديث لبني أمية أن دولة بني أمية انتهت سريعًا سنة 132 هجرية، وفي هذا التاريخ كان لا يزال بعض التابعين الذين رووا عن الصحابة مباشرة أحياء، مثل هشام بن عروة بن الزبير المدني وحُمَيد الطويل البصري وسليمان بن طَرخان التَّيمي ويحيى بن سعيد الأنصاري وأبي حازم سلَمة بن دينار وزيد بن أسلم وغيرهم، فهؤلاء التابعون طالت أعمارُهم حتى أدركوا الدولة العباسية، وقد عاش أيضًا في عهد الدولة العباسية بعضُ أبناء الصحابة مثل التابعي الجليل سعد بن طارق بن أَشْيَم الأشجعي المتوفى سنة 140 هجرية، وكان العلماء يروون في مساجدهم وفي بيوتهم الأحاديث النبوية بالأسانيد من قبل زوال دولة بني أمية ومن بعد زوال دولتهم، ولم يمنعهم من روايتها أحدٌ من الملوك والأمراء، لا في عهد الدولة الأموية، ولا في عهد الدولة العباسية.

وقد روى المحدثون أحاديث فيها ذمٌ لبني أمية، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال «: (إِذَا بَلَغَ بَنُو أَبِي الْعَاصِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا كَانَ دِينُ اللَّهِ دَخَلًا، وَمَالُ اللَّهِ دُوَلًا، وَعِبَادُ اللَّهِ خَوَلًا) » رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده (6523) موقوفًا، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (744) مرفوعًا بطرقه وشواهده، ورواه أيضًا أحمد بن حنبل في مسنده (11758) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا، وضعفه الأرناؤوط، وبنو أبي العاص هم بنو أمية مثل: مروان بن الحكم بن أبي العاص، وعبد الملك بن مروان وأولاده الذين كانوا ملوكًا وأمراء، فلو جامل أهل الحديث بني أمية لجاملوهم في ترك رواية هذا الحديث المختلف في صحته.

وروى المحدثون أحاديث كثيرة في فضائل آل البيت، ومن ذلك:

حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فينا خطيبًا بماءٍ يُدعى خُمًّا بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر، ثم قال «: ((أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، فإنَّما أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُما كِتَابُ اللهِ، فيه الهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا به، وَأَهْلُ بَيْتي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أَهْلِ بَيْتي))» رواه مسلم في صحيحه (2408)، فأوصى النبي عليه الصلاة والسلام أمته بالاستمساك بكتاب الله، ثم ذكَّرهم بحق أهلِ بيته، وكرر ذلك ثلاث مرات للتأكيد، وليس المرادُ الغلو فيهم، ودعوى عِصمتِهم، بل المقصودُ محبتُهم، ومعرفةُ فضلهم وحقهم، وتركُ ظلمهم.

والمحدثون رحمهم الله لا يحابون أحدًا، لا قريبًا ولا بعيدًا، ولا حبيبًا ولا بغيضًا، والعبرةُ عندهم في قبول حديث الراوي بالحفظ والعدالة وترك المخالفة؛ ولذا نجدهم يُضعِّفون أحاديث بعضِ أهل السنة من الصالحين والزهاد والقُرَّاء الكبار والفقهاء الأجلاء لكونهم لم يضبطوا الأحاديث التي رووها، أو رووا ما لم يتابعهم عليها متابعٌ من أقرانهم عن شيوخهم، وكثُر تفردُهم بأشياء لا يُتابَعون عليها عن شيوخهم، ولا عن شيوخ شيوخهم، فظهر للمحدثين كثرةُ أغلاطهم في الأسانيد أو في المتون فضعَّفوا أحاديثهم، وإن كانوا يُحبونهم ويُجِلُّونهم؛ لصلاحهم وفقههم، وهذا مما يدل على إنصافهم، كنُعَيم بن حمَّاد الخُزاعي المَروزي رحمه الله، كان إمامًا في السنة، يحبه أهل السنة ويجلونه، ومع هذا ضعَّفه كثيرٌ من المحدثين، ولو حابَوا أحدًا لحابَوه، قال عنه النسائي: ليس بثقة، كثُر تفرُّدُه عن الأئمة المعروفين بأحاديثَ كثيرةٍ فصار في حدِّ من لا يُحتجُّ به، وقال الذهبي: نُعَيم من كبار أوعية العلم، لكنه لا تركنُ النفسُ إلى رواياته، لا يجوز لأحد أن يحتجَّ به، وقد صنَّف كتاب الفِتَن فأتى فيه بعجائبَ ومناكير.

ومن إنصاف علماء الحديث أنهم قبِلوا روايات الشيعة الثقات، فكان أهل الحديث يروون الأحاديث عن كل من حفظها وكتبها ورواها عن شيوخه، وكانوا يكتبون الحديث الواحد من جميع طرقِه بالأسانيد المتعددة، ثم يميزون بين الروايات، ويُصحِّحون أحاديث الثقات ولو كانوا من الشيعة، ويُضعِّفون أحاديث الضعفاء والمتروكين ولو كانوا من أهل السنة، لا يُحابون أحدًا، قد يُضعِّفون مَنْ يُجلِّونه إذا كان لا يحفظُ حديثه، ويوثِّقون مَن يحفظُ حديثه الذي سمعه مِن شيوخه ولو كان يخالفهم في مذهبه، فمقصدُ المحدثين حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتمييزَ صحيحِها مِن سقيمِها، وفرَّغوا أنفسهم لحفظ السنة بمتونِها وأسانيدِها، وأتعبوا أنفسهم في جمع طرقِ الأحاديث وتمييزِ رواياتِ الرواة، والميزانُ عندهم في نقد الرواة هو الحفظُ والإتقان والعدالة، وعدمُ الخطأِ والمخالفةِ والشذوذ، من غير محاباةٍ لأحد، والناظر في كتب الجرح والتعديل يجد كثيرًا من رواة الشيعة المتقدمين وثَّقهم أهلُ الحديث رحمهم الله لصدقهم وضبطهم لما رووه، وينبغي التنبه إلى أن تشيع أولئك الرواة ليس كتشيع متأخري الشيعة الذين كثُرت ضلالاتهم، وعظُم غُلُوُّهم، مثل الذين يدعُون  غير الله، ويزعمون العِصمة لغير رسول الله، ويؤمِنون بغِيبة المهدي المنتظَر، ويُجيزون نكاح المتعة، ويَدينون بالتَّقِية، وغيرِ ذلك من العقائد الفاسدة، وإنما كان تشيعُ بعضِ المحدثين من الرواة هو تقديمهم علي بن أبي طالب على عثمان بن عفان رضي الله عنهما، والأمرُ في هذا سهل، والغالي المفرِط منهم كان يُقدِّمه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وبعضُهم كان عنده غلوٌ أشد من هذا لكن لم يكن كتشيع الشيعة المتأخرين، ومن أولئك الرواة: عَديُّ بن ثابت الأنصاري، قال عنه الذهبي: "عالِمُ الشيعة وصادقُهم وقاصُّهم وإمامُ مسجدهم، ولو كانت الشيعةُ مثلَه لقلَّ شرُّهم. قال المسعودي: ما أدركنا أحدًا أقول بقول الشيعة من عَدي بن ثابت. وثَّقه أحمد، والعِجلي، والنسائي"، ومنهم: مُحَمَّد بن فُضَيل بن غزوان الكوفي، روى عنه جميع أصحاب الكتب الستة: البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه مع كونه شيعيًا؛ لأنه كان ثقة، يحفظ حديثه، ولا يكذبِ على شيوخه، وثَّقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو زُرْعة، وذكره ابنُ حِبَّان في كتاب الثقات وَقَال: "كان يغلو في التشيع". 

القاعدة العاشرة: كلُّ حديثٍ في صحيح البخاري معروفٌ بين العلماء قبل أن يولد البخاري:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّم الصحابة القرآن والسنة كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الجمعة: 2، 3]، وكتَبَ الصحابةُ القرآن الكريم بأمر النبي عليه الصلاة والسلام مُفرَّقًا بحسب نزوله في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، ثم بعد موته عليه الصلاة والسلام جمع الصحابة القرآن في المصحف في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان بعض الصحابة يكتبون بعض الأحاديث التي يسمعونها من النبي عليه الصلاة والسلام، مثل علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسمُرة بن جندُب، وابن عباس، وأنس بن مالك رضي الله عنهم، وكان اعتمادهم على الحفظ لا على الكتابة، وقد رغَّبهم النبي عليه الصلاة والسلام في حفظ سنته وتبليغها، وبعد موت النبي عليه الصلاة والسلام كان الصحابة يُعلِّمون التابعين القرآن والسنة، وكثُر في عهد التابعين الاهتمام بكتابة السنة النبوية وإن كان غالب التابعين يعتمدون على حفظهم، ثم تتابع العلماء في كل جيل على كتابة السنة النبوية بالأسانيد المتعددة، وممن كان لهم شرف تدوين السُّنَّة في مصنفات قبل أن يُولد البخاري:

همَّام بن مُنبِّه الصنعاني المتوفى سنة (131هـ)، والزبير بن عَدي الهمداني الكوفي المتوفى سنة (131هـ)، وابن جُرَيج المكي المتوفى سنة (150هـ)، ومَعْمَر بن راشد البصري ثم الصنعاني المتوفى سنة (153هـ)، وسعيد بن أبي عَروبة البصري المتوفى سنة (156هـ)، وسفيان الثوري الكوفي المتوفى سنة (161هـ)، ومالك بن أنس المتوفى سنة (179هـ)، وإسماعيل بن جعفر المدني المتوفى سنة (180 هـ)، وعبد الله بن المبارك المروزي المتوفى سنة (181هـ)، وإبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني المتوفى سنة (184هـ)، والمعافى بن عِمران الموصلي المتوفى سنة (185 هـ)، وأبو إسحاق الفزاري الشامي المتوفى سنة (188 هـ)، وهؤلاء كلهم كتبهم الحديثية مطبوعة، وبعضهم من التابعين الذين سمعوا الصحابة، وغالبهم من أتباع التابعين، وكلهم دوَّنوا الحديث النبوي قبل أن يولد البخاري رحمه الله، فإن البخاري وُلِد سنة 194، فالبخاري لم يكن أول من كَتَبَ وصَنَّفَ في الحديث النبوي، لكنه أول من جمع أصح الأحاديث في كتاب، فتميّز كتابه بأنه أنقى كتب الحديث وأصحِّها، فالأمّة لم تنتظر البخاري حتى يجمع السنة، بل جمعها العلماء قبله حفظًا في الصدور وفي السطور منذ وقت الصحابة، واستمر العلماء في كتابة الحديث وروايته جيلًا بعد جيلٍ، ومن أشهر من دوَّن الأحاديث من شيوخ البخاري: أحمد بن حنبل المتوفى سنة (241 هـ) الذي جمع كتابه المسنَد وفيه أكثر من 27 ألف حديث، وابن أبي شيبة المتوفى سنة (235 هـ) الذي جمع كتابه المصنَّف وفيه أكثر من 37 ألف حديث وأثر عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن الصحابة والتابعين، فهذان اثنان فقط من مشايخ البخاري جمعا في كتابين أكثر من 60 ألف رواية! وعدد أحاديث صحيح البخاري نحو 2500 حديث فقط من غير تكرار، ومن أشهر شيوخ شيوخ البخاري الذي سمع البخاري الحديث عن تلامذتهم: عبد الرزاق الصنعاني المتوفى سنة (211 هـ) الذي جمع كتاب المصنَّف وكتاب التفسير وفي كتاب مصنَّف عبد الرزاق أكثر من 20 ألف حديث وأثر عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن الصحابة والتابعين، وفي كتاب تفسير عبد الرزاق أكثر من 3700 رواية، ومن مشايخ مشايخ البخاري: الأعمش وابن جُرَيج والأوزاعي وشُعبة وسفيان الثوري والليث بن سعد ومالك بن أنس وإسماعيل بن جعفر وعبد الله بن المبارك وإبراهيم بن سعد وعبد الله بن وهب ووكيع بن الجراح وسفيان بن عُيَينة وغيرهم من كبار المحدثين المشهورين الذين روى البخاري أحاديثهم عن بعض تلاميذهم، فلو لم يخلق الله البخاري فالأحاديث التي في صحيح البخاري محفوظة في كتب غيره من علماء الحديث الذين كانوا قبله أو كانوا في عصره، فكل حديث في صحيح البخاري تجده في غيره من كتب الحديث المشهورة، فالحديث الذي يرويه البخاري تجد أنه رواه مسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه والنسائي وأحمد بن حنبل أو بعضهم، ثم جاء بعض المحدِّثين بعد زمن البخاري فرووا نفس أحاديث صحيح البخاري حديثًا حديثًا بأسانيد أخرى من غير طريق البخاري، وهم أصحاب كتب المستخرجات على صحيح البخاري، فيروون الحديث الذي في صحيح البخاري من طريق شيخ البخاري أو شيخ شيخه، فلو لم يؤلف البخاري كتابه الصحيح لما ضاعت السنة النبوية، فكل الأحاديث التي في صحيح البخاري موجودة في كتب غيره من المحدثين، والله حافظ كتابه ودينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

محمد بن علي بن جميل المطري

دكتوراه في الدراسات الإسلامية وإمام وخطيب في صنعاء اليمن