الغش بمعناه الواسع، وبمعناه الضيق (خطبة)
العناصر الأساسية: العنصر الأول: من سنة التدافع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. العنصر الثاني: من غش فليس منا. العنصر الثالث: هلاك أهل مدين بسبب الغش. العنصر الرابع: اتساع رقعة الغش وسوء مصير الغشاش.
أما بعد فيقول رب العالمين سبحانه: {{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلَا يَظُنُّ أُولَـٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}} [سورة المطففين] .
وفي الصحيح من حديث أبِي أُمَامَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ "، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ : " وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ "» .
أيها الإخوة الكرام : قبل أسبوع كنا نتكلم عن سنة من سنن الله تعالى الثابتة في خلقه وهي سنة التدافع..
وعرفنا أن سنة التدافع تعني: أن يجاهد أهل الحق أهل الباطل وأن يقفوا في وجوههم ردعا لهم وكفا لشرهم وإحقاقا للحق وإزهاقا للباطل..
{{ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}}
وانتهينا في الحديث إلى أن التدافع بين قوى الخير وبين قوى الشر أصله بالسيف، لكنه لا يكون بالسيف فقط، فقد يكون التدافع بكلمة حق تقولها من غير أن تخشى في الله أحدا، ومن التدافع أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بيديك إن استطعت، وإلا فبلسانك إن استطعت، وإلا فبقلبك وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل..
من هنا كان حديث يومنا هذا عن حديث القرآن الكريم والسنة النبوية عن حرمة الغش..
في الصحيح وعند أصحاب السنن يَروي أبو هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَرَّ على صُبْرَةِ طَعامٍ، والصُّبرَةُ: هي الكَومةُ مِنَ الطَّعامِ، مِثلُ القمحِ أوِ الشَّعيرِ، يَعرِضُها التَّاجِرُ ليَبيعَها، فأدخَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدَه في جَوفِها، فوَجَد بَللًا في أسفلِ الطَّعامِ، فقالَ: ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ قالَ أصابَتْهُ السَّماءُ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: أفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعامِ كَيْ يَراهُ النَّاسُ، مَن غَشَّ فليسَ مِنِّي.
وفي روايةِ أبي داودَ: «أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَرَّ برُجلٍ يَبيعُ طعامًا، فسألَه: كيفَ تَبيعُ؟
فأخبَرَه..
فأُوحيَ إليه: أنْ أَدخِلْ يدَك فيه، فأَدخَلَ يدَه فيه، فإذا هو مَبلولٌ»، فكانَ إدخالُ يدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بوَحيٍ منَ اللهِ سُبحانَه، فسألَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟
فأخبَرَه التَّاجرُ أنَّه قد سقَطَ عليه المطرُ فبَلَّلَه، وهذا يَعني أنَّه جَعَل الجافَّ الصَّحيحَ ظاهرًا، والمبلولَ الرَّديءَ في الأسفلِ، فقَبِلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عُذرَه، ونبَّهَه إلى ما يَنبغي أن يَعمَلَه في هذه الحالةِ، فقالَ: «أفَلا جعلتَه فوقَ الطَّعامِ» بأن تُخرِجَ الحَبَّ المُبتلَّ من أسفَلَ إلى أعلى؛ حتَّى يَراه النَّاسُ المُشترُونَ، ويَكونُوا على بَيِّنةٍ ويَعلموا بحالِه وما فيه مِنَ العَطَبِ، وقد كانوا يَتبايَعون بالصُّبرةِ كاملةً دونَ النَّظرِ إلى ما فيها، وقد عدَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَمَلَ هذا التَّاجِرِ غِشًّا، فقالَ:
««مَن غشَّ فليْس مِنِّي»» ،
أي: مَن خَدَعَ النَّاسَ بأيِّ صُورةٍ فليس على هَديِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسُنَّتِه وطَريقتِه..
«مَن غشَّ فليْس مِنِّي»
هذا الحديث أصل من أصول الزَجرٌ الشَديدٌ منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أكل أموال الناس بالباطل..
««مَن غشَّ فليْس مِنِّي»» ،
في هذا الحديث تَهديدٌ ووعيد لمَن تَمادى في الغِشِّ بأن يَخرُجَ عن طَريقةِ وهدي النَّبيِّ محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
«مَن غشَّ فليْس مِنِّي»،
في الحديثِ: أن على البائع أن يبين عيوب سلعته للمُشتَري.
وفي الحديث أيضا : أن لولي الأمر أن يسعى بين الناس فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر..
أيها الإخوة الكرام: كل أمة من الأمم التي هلكت في الزمان الأول عُرفت بخصلة أو خصلتين من خصال الشر..
أما قوم نوح فعرفوا بالسخرية والاستهزاء بالناس..
وأما قوم فرعون فعُرفوا بالتبعية والتقليد الأعمى وفساد الرأي..
وأما عاد وثمود فعُرفوا بالكبر والإعجاب بالنفس..
وأما قوم لوط فعرفوا بقطع الطريق والوقوع في الشهوات التي ما سبقهم إليها أحد من العالمين..
وأما بنو إسرائل قوم موسى فعرفوا بالعناد وحجود الحق..
ومن بين الأمم ( أهل مدين) قوم سيدنا شعيب عليه السلام
وقد فشا في (أهل مدين) الغش والتطفيف في المكيال والميزان..
رحمةٌ ونعمةٌ من الله تعالى لأهل مدين قوم سيدنا شعيب أرسل الله تعالى إليهم أخاهم شعيبا، رسولا منهم يعرفونه، ويعرفون نسبه، وصدقه وأمانته..
أرسله الله تعالى إليهم هاديا إلى الحق، ومبشرا لمن استجاب له وآمن به، ونذيرا لمن خالفه وعصى أمره..
وكان أهل مدين يغشون الناس ويطففون المكيال والميزان، ويبخسون الناس أشيائهم..
قال الله تعالى:
{{ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ }} [ سورة هود] .
سمع أهل مدين دعوة شعيب عليه السلام، سمعوا أمره ونهيه، وحضروا وعده ووعيده، لكنهم لم يستجيبوا له، بل إنهم سخروا منه، وتهكموا به {{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}} [سورة هود] .
قال أهل مدين لشعيب عليه السلام {{ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}} قالوها من باب السخرية والاستخفاف بسيدنا شعيب عليه السلام..
أهل مدين لم يكتفوا بالكفر، لم يكتفوا بالغش والتطفيف في المكيال والميزان، لم بكتفوا أنهم يبخسون الناس أشيائهم، لم يكتفوا أنهم يأكلون أموال الناس ظلما وعدوانا، لم يكتفوا أنهم سخروا من نبيهم، بل إنهم سعوا في قتله عليه السلام {{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} }
فلما قالوا ما قالوا: عتب عليهم سيدنا شعيب عليه السلام: {{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ۖ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} }
ثم إنه توعدهم بعذاب الله تعالى فقال { وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ۖ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}
وبهذا أنذر شعيب عليه السلام آخر إنذار، ورغم ذلك لم يرتدعوا.. فحضر عقاب الظالمين، وكانت النجاة للصالحين..
{ولَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ۗ أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ }
سورة هود.
هذا الذي فعله أهل مدين من الغش والتطفيف في المكيال والميزان، ومن أكل أموال الناس بالباطل، والذي استحقوا بسببه الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، هو ما يقع فيه الكثير من الناس اليوم، في ظل الوسائل الحديثة، والتكنولوجيا الحديثة أصبح السلب والنهب والخداع والغش أسهل من السهل ..
والسؤال لكل من كانت هذه صفته {( إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ )}
السؤال لكل من يخدع الناس، لكل من يغش الناس في أقواتهم
، لكل من يأخذ حق غيره باليمين الكاذبة، لكل من يقبل على نفسه وعياله المال الحرام {( أَلَا يَظُنُّ أُولَـٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )}
أكل أموال الناس بالباطل هو صورة من صور أكل الحرام، وصورة من صور البغي الذي يعجل لصاحبه عقابها في الدنيا قبل الآخرة
يحسب الغشاش أنه بالغش يوسع على نفسه، وأنه يغتني، وأنه يتربح ويُحرز ما يكفيه، ولكن تأتي رياحه بغير ما يشتهيه..
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : " « يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ : وعد منهن قوله: وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ» .
كل من فتح الباب للحرام يَملأ به بيته، يُعامل بسوء نيته، هذا المال الحرام يكون سبب خراب بيته، هذا المال يكون سبب ويلاته في ددار الدنيا، ودار البرزخ، والدار الآخرة..
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكفينا بالحلال عن الحرام إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير
الخطبة الثانية
ورد فيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلّم قوله ( «إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته» ..
بقي لنا في ختام الحديث عن الغش وحرمته وشؤمه على صاحبه، وأنه سبب في خراب البيوت، وسبب لضياع حسنات العبد وويلاته في الدنيا والآخرة، بقي لنا أن نقول:
إن الغش في المكيال والميزان ما هو إلا صورة واحدة فقط من صور الغش، وإلا فإن للغش معان واسعة، وللغش صورا كثيرة وكلها حرام بنص القرآن والسنة..
قال الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«" مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ، وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ "» .
قد يغش الإمام رعيته حين يجور عليهم ويحكمهم بالحديد
قد يغش الرجل زوجته، بإهماله لها، وسكوته عن السوء فيها
قد تغش المرأة زوجها، حين تعانده، وحين تمنعه حقه..
وقد يغش الابن والديه، حين يقدم عليهما ماله وولده..
وقد يغش الخادم سيده، حين يتلف ماله، ويضيعه..
وقد يغش المعلم طالب العلم..
وقد يغش الطبيب..
وقد يغش المزارع..
أبواب لا حصر لها يدخل من خلالها الغش والفساد إلى دنيا الناس..
وفي الأخير: كل إنسان فقيه نفسه، والحلال بين والحرام بين.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: " « أَيُّمَا رَاعٍ اسْتُرْعِيَ رَعِيَّةً، فَغَشَّهَا ؛ فَهُوَ فِي النَّارِ » ".
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا جميعا من الزلل، وأن ينجينا برحمته من سوء العمل.
------------------------------------------------------------------------------
جمع وترتيب : الشيخ / محمد سيد حسين عبد الواحد.
إمام وخطيب ومدرس أول .
إدارة أوقاف القناطر الخيرية.
مديرية أوقاف القليوبية . مصر
محمد سيد حسين عبد الواحد
إمام وخطيب ومدرس أول.
- التصنيف: