علّمتني الكتابة!

منذ 19 ساعة

ليست الكتابة مهنة القلم، بل رسالة القلب، وميدانُ تربيةٍ قبل أن تكون منبرَ تعبير.

ليست الكتابة مهنة القلم، بل رسالة القلب، وميدانُ تربيةٍ قبل أن تكون منبرَ تعبير.
ومن طال جلوسه على مائدة الفكر، علِم أن القلم يربّي صاحبه كما يُربّي العالمُ تلميذَه، وأن الكاتب الحقّ لا يكتب ليستعرض علمه، بل ليطهّر نفسه من فائض التجربة وحرارة الفكرة المتقدة.
فالكتابة مدرسةٌ عريقة، والكاتب في رحابها تلميذٌ صغير، ولعلّي أجوز لك في هذا التسطير بعض ما تعلمتُه منها:

علّمتني الكتابة أن من يكتب ليرضي الناس سيبقى أسيرَ قلقٍ لا ينقطع؛ لأن إرضاء الخلق غايةٌ لا تُدرك، فمَن أرضى أحدًا أسخط ولا بد آخر، ومن طلب القبول من الناس ضيّع صفاء قصده، وتاه في تقلب أمزجتهم.
أما من كتب لله، صادق النيّة، مخلص الوجهة، فإنه يعيش في ظلّ طمأنينةٍ لا تنطفئ، وسكينةٍ لا تُشترى، وسعادةٍ تمتدّ من سطور الدنيا إلى نور الآخرة.

وعلّمتني أن الخلاف مع العارفين لا يفسد الودّ، ولا ينقض حرمة العلم، فطالما اختلف العلماء وتداولوا الفكر أخذًا وردًّا، ولكن البلاء أن تدخل في حوار مع غير متأهلٍ للقول، أو متعصّبٍ لرأيه، أو من حاصر الحق في قبيله وأهل مذهبه، لا يرى من الوجود إلا ما يراه قومه، وما سواهم عنده باطلٌ أو جهل.

وعلّمتني أن الحق قليلٌ جامع، كما قيل: هو نقطةٌ وسّعها الجهّال، وبسطها أنصافُ المتعلمين، حتى صار كلٌّ يزعم امتلاك ناصيته. فصدق في الناس المثل: تزبَّب قبل أن يتحصرم! وهكذا قلّ الرسوخ، وشاع التعالم، واتسعت دوائر الخلاف، لأن الكثرة غلبت الجودة، والقول سبق الفهم.

وعلّمتني أن الصلاح وحسن النيّة لا يكفيان وحدهما لإدراك الصواب، فكم من مخلصٍ أخطأ الطريق لضيق علمه أو غلبة عاطفته. فسلامة الإدراك لا تُنال إلا بسعة المعرفة ورجاحة العقل، وحفظ النيّة لا يدوم إلا بصلاح القلب وتقواه.

وعلّمتني أن من الناس من عقله أكبر من علمه، فتجده رزينًا، وقورًا، متعلّمًا ما دام حيًّا. ومنهم من علمه أوسع من عقله، فتراه متعاليًا سريع الغضب، يظن أن ما حصّله قد رفعه فوق الخلق.

وعلّمتني أن العلم الحقّ يقود إلى التعلُّم، وأن العالم لا يزال تلميذًا ما دام حيًّا، فإذا قال: «بلغت»، فاحكم عليه ببداية الجهل أو الكِبر، فالعلم بابٌ لا يُغلق، ومن توهّم أنه بلغ آخره فقد وقف عند أوّله.

وعلّمتني أن القلم لا يُثمر إلا في تربة الصدق، وأن أجمل ما يُكتب هو ما خرج من قلبٍ محترقٍ بهمٍّ صادق، لا مما استُدرَّ بعَرضٍ أو مجاملةٍ أو تصفيق، فالكلمة التي تُكتب لوجه الله تبقى، وما سواها يذروه هواء النسيان.

وعلّمتني أن البلاغة ليست في كثرة القول، بل في موضع الكلمة وسلامة القصد. فالكاتب الصادق يزن كلمته قبل أن يطلقها، ويعلم أن الكلمة قد تفتح باب فتنة كما قد تفتح باب هداية.

وعلّمتني أن الفكر لا يزدهر إلا في بيئة التواضع، وأن الكِبر عدوّ القلم. فكلّ من ظن أنه أوتي من الحكمة آخرها، فقد بدأ طريق العُجب الذي يطفئ نور الفكر، وما رفع اللهُ عبدًا بعلمٍ إلا ورزقه التواضع.

وعلّمتني أن الصمت أحيانًا أبلغ من البيان، وأن من الكلام ما يُطفئ النور ولا يُشعله، وأن الكلمة إذا لم تخدم الحقيقة فهي خيانة لها وإن بدت جميلة.

وعلّمتني أن الحروف ليست أرخص ما في الوجود كما يظن أناس، بل هي أنفاسٌ يُتقرّب بها إلى الله أو يُتعرّض بها لسخطه، ومن علم هذا هاب القلم كما يهاب المؤمن سيفه، لأنه يعلم أن كل كلمةٍ مسؤول عنها يوم العرض الأكبر على الله سبحانه.

وعلّمتني أن الكاتب كلما ازداد صدقًا قلّ إعجابه بما كتب، لأن الكلمة الصادقة ما إن تُكتب حتى تصبح ملكًا للحق لا لصاحبها، والكاتب الصادق يرى في نصوصه فضلَ توفيقٍ لا برهانَ عبقرية، فيحمد الله على ما ألهمه ولا يزهو بما أبدعه.

وعلّمتني أن التوبة من الفكر كالتوبة من الذنب، فكما يتطهّر القلب من الغفلة، يحتاج الكاتب أن يطهّر عقله من الغرور وقلبه من الهوى. وما أجمل أن يختم يومه كما يختم المؤمن صلاته: أستغفر الله مما سطرت، ومما ظننت أني أحسنت.

وأخيرًا... علّمتني الكتابة أن الكلمة الصادقة لا تموت، وأن الله وحده هو الذي ينفخ فيها روح البقاء، فيجعلها جسرًا بين العقول والقلوب، ونسمةً في زمن الغبار، ونورًا يسري من قلمٍ صادقٍ إلى أمةٍ متعبة.

اللهم اجعل أقلامنا ناطقةً بالحق، وأعمالنا خالصةً لوجهك، وعلّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علمًا وبصيرة.
والله الهادي.