الإنسان في مواجهة الآلة: رؤية لمستقبل الذكاء الاصطناعي

منذ 6 ساعات

في عالم يسارع نحو "ذكاء خارق" قد "لا يحتاج للاستماع إلينا"، ربما يكون أعظم ما يمكننا فعله هو التمسك بما يجعلنا بشرا: الضمير لا الخوارزمية، الكرامة لا الكفاءة بمعناها الآلي

 

في أبريل ٢٠٢٥، وقف إريك شميدت، الرئيس التنفيذي السابق لجوجل، على منصة قمة الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية في واشنطن، ليعلن ما أسماه "إجماع سان فرانسيسكو": خلال ستة أعوام فقط، ستظهر آلات أذكى من مجموع البشر مجتمعين، آلات "لن تحتاج للاستماع إلينا بعد الآن". هذا التصريح ليس مجرد تنبؤ تقني، بل هو إعلان وجودي يعيد طرح السؤال الأزلي: ما قيمة الإنسان؟ وهل كرامته مشروطة بقدرته على الإنتاج؟

تتقاطع هذه التصريحات مع تحولات اقتصادية جذرية يصفها المفكرون ب"الإقطاع التكنولوجي"، حيث يتحول البشر إلى "طبقة عديمة الفائدة" في نظر النموذج الرأسمالي المادي. غير أن الرؤية الإسلامية تقدم نقيضا جذريا لهذا المنظور، إذ ترفض رفضا قاطعا ربط قيمة الإنسان بمنفعته الاقتصادية، وتؤسس لكرامة إنسانية مطلقة مصدرها التكريم الإلهي لا الجدوى السوقية.

نبوءات وادي السيليكون: الجدول الزمني المقلق

أعلن شميدت في خطابه الشهير سلسلة من التنبؤات التي أثارت جدلا واسعا في الأوساط العلمية والفلسفية. قال حرفيا: "نعتقد كصناعة أنه خلال العام القادم، ستستبدل الغالبية العظمى من المبرمجين ببرامج ذكاء اصطناعي"، مضيفا أن الذكاء الاصطناعي سيصل خلال عام واحد إلى مستوى "أفضل خريجي برامج الرياضيات العليا"، قادرا على "التفوق على العباقرة البشر باستخدام لغات البرهان الرياضي مثل Lean".

أما الأفق الأوسع، فيتضمن وصول ما يسمى ب**"الذكاء الاصطناعي العام" (AGI)** خلال ثلاث إلى خمس سنوات، أي نظام "ذكي بقدر أذكى رياضي، وفيزيائي، وفنان، وكاتب، ومفكر، وسياسي". ثم يأتي التنبؤ الأخطر: "الذكاء الخارق" (ASI) خلال ستة أعوام، وهو ما عرفه شميدت بأنه "آلات ليست أذكى من أي فرد بشري فحسب، بل أذكى من مجموعنا جميعا".

"إجماع سان فرانسيسكو" هو التسمية التي أطلقها شميدت على هذه التوقعات، معترفا بطرافة: "أسميه كذلك لأن كل من يؤمن بهذا موجود في سان فرانسيسكو. ربما يكون السبب في الماء هناك". لكنه أردف بتحفظ مهم: "أسميه إجماعا لأننا نتفق... لكن ليس بالضرورة أن يكون الإجماع صحيحا".

العبارة الأكثر إثارة للقلق جاءت حين قال: "يصبح الأمر أكثر إثارة بعد ذلك. لأن الحواسيب الآن تقوم بالتحسين الذاتي. إنها تتعلم كيف تخطط، ولن تحتاج للاستماع إلينا بعد الآن". هذا الكلام يطرح سؤالا جوهريا: إذا كانت الآلة قادرة على كل شيء ولا تحتاج للبشر، فما مصير الإنسان في هذه المعادلة؟

بين التشكيك العلمي والنبوءات المؤدلجة

-----------------------------------------------

لم تمر تنبؤات شميدت دون نقد علمي جاد. فقد وصفت مجلة MIT Technology Review في أكتوبر ٢٠٢٥ الحديث عن الذكاء العام بأنه "أخطر نظرية مؤامرة في عصرنا"، مستشهدة بالباحثة الأخلاقية شانون فالور من جامعة إدنبرة: "على عكس الحواسيب والإنترنت، الذكاء الاصطناعي العام غير موجود... ليس لدينا أي دليل عليه".

عالم الذكاء الاصطناعي غاري ماركوس من جامعة نيويورك عرض رهانا بمليون دولار على إيلون ماسك ضد وصول AGI بنهاية ٢٠٢٥، لكن ماسك رفض.

يقول ماركوس: "ليست عملية احتيال بالضبط، لكن الناس يحتالون بها. التكنولوجيا تقوم بعمل رائع في التحليل الإحصائي للعالم وتقريب الأشياء، لكن تقريب الأشياء ليس فهمها حقا". أما يان لوكون، كبير علماء الذكاء الاصطناعي في ميتا، فيعتبر أن الذكاء العام "كلمة قذرة" في مجتمع البحث.

استطلاع شمل ٨٥٩٠ باحثا في مجال الذكاء الاصطناعي وضع احتمالية ٥٠٪ لوصول AGI بين عامي ٢٠٤٠ و٢٠٦١، أي بعد ١٥ إلى ٣٥ عاما، لا ثلاث إلى خمس سنوات كما يدعي شميدت. هذا الفارق الكبير يكشف الهوة بين "إجماع سان فرانسيسكو" وإجماع المجتمع العلمي الأوسع.

لكن بصرف النظر عن دقة التواريخ، فإن الاتجاه العام واضح: ثمة سعي محموم نحو أتمتة كل شيء، بما في ذلك الوظائف التي اعتبرناها حكرا على العقل البشري. السؤال الجوهري ليس "متى؟" بل "ماذا سيحدث للإنسان حين يحدث؟"

الإقطاع التكنولوجي: عودة "الاسترقاق" في ثوب رقمي

-----------------------------------------------

يقدم الاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس، وزير المالية اليوناني السابق، في كتابه "الإقطاع التكنولوجي: ما الذي قتل الرأسمالية" (٢٠٢٣) تحليلا جذريا للتحولات الجارية. يرى فاروفاكيس أن الرأسمالية التقليدية قد ماتت، لتحل محلها منظومة إقطاعية جديدة يسيطر عليها "أسياد السحاب" (Cloudalists): بيزوس، زوكربيرغ، ماسك، وأمثالهم.

"رأس المال السحابي" هو المفهوم المركزي في تحليل فاروفاكيس، ويعرفه بأنه "آلة إنتاج وتعديل سلوك ضخمة: تنتج أجهزة مذهلة، وتنتج القوة لمالكيها للتحكم في البشر الذين لا يملكونها". في هذا النموذج، تحولت الأسواق إلى "إقطاعيات رقمية"، والربح إلى "ريع سحابي". أمازون مثلا لا تدير سوقا، بل هي السوق، وتستخرج نحو ٤٠٪ من كل معاملة ك"إيجار".

المستخدمون في هذا النموذج ليسوا عملاء بل "تابعين رقميين": يقدمون عملا غير مدفوع الأجر من خلال كل نقرة وتصفح وبحث، يدربون الخوارزميات التي تدربهم بدورها في حلقة لا نهائية. يقول فاروفاكيس: "لكي نمتلك عقولنا فرديا، يجب أن نمتلك رأس المال السحابي جماعيا".

"الطبقة عديمة الفائدة": كابوس هراري

-----------------------------------------------

يذهب المؤرخ يوفال نوح هراري أبعد من ذلك في كتابيه "الإنسان الإله" و"٢١ درسا للقرن الحادي والعشرين". يتنبأ هراري بظهور "طبقة عديمة الفائدة" ضخمة من البشر ليسوا عاطلين عن العمل فحسب، بل غير قابلين للتوظيف أصلا.

يقول هراري حرفيا: "في القرن الحادي والعشرين، قد نشهد ظهور طبقة ضخمة جديدة من غير العاملين: أشخاص مجردون من أي قيمة اقتصادية أو سياسية أو حتى فنية، لا يساهمون بشيء في ازدهار المجتمع وقوته ومجده. هذه 'الطبقة عديمة الفائدة' لن تكون مجرد عاطلة عن العمل—بل ستكون غير قابلة للتوظيف".

يستند هراري إلى ثلاثة مبادئ:

أولا، الكائنات الحية خوارزميات؛ ثانيا، الحسابات الخوارزمية مستقلة عن المادة (كربون أو سيليكون)؛ ثالثا، لا يوجد حاجز يمنع الخوارزميات غير العضوية من التفوق على البشرية.

ويضيف بجرأة مثيرة للقلق: "٩٩٪ من الصفات والقدرات البشرية زائدة عن الحاجة لأداء معظم الوظائف الحديثة".

السؤال المقلق الذي يطرحه هراري: "ماذا يجب أن نفعل بكل هؤلاء الفائضين عن الحاجة، حين تصبح لدينا خوارزميات ذكية غير واعية قادرة على فعل كل شيء أفضل منا؟" ويلمح إلى أن الجواب قد يكون "تهدئتهم" عبر الألعاب الافتراضية والمخدرات— وهو ما سيوجه "ضربة قاتلة للإيمان الليبرالي بقدسية الحياة البشرية".

رأسمالية المراقبة: تسليع الوجود البشري

-----------------------------------------------

تكمل شوشانا زوبوف، أستاذة هارفارد، هذه الصورة القاتمة في كتابها "عصر رأسمالية المراقبة" (٢٠١٩). تعرف زوبوف هذا النظام بأنه يدعي "التجربة البشرية كمادة خام مجانية لترجمتها إلى بيانات سلوكية". ما يفيض عن تحسين المنتج يحول إلى "فائض سلوكي" يغذي آلات الذكاء الاصطناعي لصناعة "منتجات تنبؤية" تتوقع ما سنفعله الآن وقريبا ولاحقا.

"الآخر الكبير" (Big Other) هو المصطلح الذي تستخدمه زوبوف لوصف هذه البنية الموزعة للمراقبة، التي تنفي الأشخاص فعليا عن سلوكهم ذاته. وتحذر بوضوح: "من الممكن أن تكون لديك رأسمالية مراقبة، ومن الممكن أن يكون لديك ديمقراطية. لكن ليس من الممكن أن يكون لديك كلاهما".

ثلاثة سيناريوهات مقلقة للمستقبل

-----------------------------------------------

يرسم المفكرون والخبراء ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل البشرية في ظل هذه التحولات، وكلها تحمل ملامح ديستوبية مقلقة.

السيناريو الأول: "الخبز والسيرك" الرقمي. في هذا السيناريو، يقدم الدخل الأساسي الشامل (UBI) كأداة "تخدير" للجماهير. يشير إيلون ماسك إلى هذا بقوله: "في سيناريو حميد، لن يكون لأي منا وظيفة. سيكون هناك دخل مرتفع شامل". لكن الناقدين يرون أن هذا "عنف رمزي" يخفي استمرار الهيمنة ويحرم البشر من المعنى والهدف الذي يوفره العمل. يقول الكاتب ت.ر. نابر: "الدخل الأساسي الشامل ليس منحدرا زلقا نحو مستقبل ديستوبي، بل هو المنحدر ذاته. إنه الآلية التي تتقلص بها الحكومة وتملأ الشركات المتضخمة الفراغ".

السيناريو الثاني: الإقطاع الرقمي وانفصال النخبة. يحذر محمد جودت، مدير الأعمال التنفيذي السابق لGoogle X، من "إقطاع رقمي بنخبة صغيرة من 'ملاك الآلات' وطبقة دنيا واسعة من المعتمدين اقتصاديا". في هذا السيناريو، تنفصل النخبة التقنية في "حصون تكنولوجية"، بينما يترك الباقون للعيش على الفتات. يتنبأ جودات ب"١٢-١٥ عاما من الجحيم قبل الجنة" قد تبدأ في ٢٠٢٧.

السيناريو الثالث: الإهمال الممنهج. في أقتم السيناريوهات، قد تقرر النخبة أن إعالة المليارات "عديمي الفائدة" مكلفة جدا. النتيجة: تقليص الخدمات الصحية والاجتماعية تدريجيا، مما يؤدي إلى "إبادة ناعمة" على الطريقة المالثوسية. هذا السيناريو يستحضر شبح الداروينية الاجتماعية التي بررت في القرن العشرين سياسات التحسين الجيني القسري وأفضت في ذروتها إلى فظائع النازية.

الداروينية الاجتماعية: دروس التاريخ المنسية

-----------------------------------------------

ليست هذه السيناريوهات جديدة في جوهرها. ففي أواخر القرن التاسع عشر، طبق هربرت سبنسر مفهوم "البقاء للأصلح" على المجتمع البشري، محاججا ضد مساعدة الفقراء لأنها تتدخل في "الانتخاب الطبيعي". أدى هذا التفكير إلى حركة "تحسين النسل" (Eugenics) التي أسسها فرانسيس غالتون، ابن عم داروين، زاعما أن دور الرعاية والملاجئ تتيح ل"البشر الأدنى" التكاثر أسرع من "المتفوقين".

النتائج كانت كارثية: ٣٢ ولاية أمريكية أقرت قوانين التعقيم القسري، وأكثر من ٦٤ ألف أمريكي عقموا قسرا. استلهم هتلر برنامج كاليفورنيا للتعقيم في سياساته العنصرية. المنطق كان بسيطا ومرعبا: من لا ينتج لا يستحق الحياة.

اليوم، حين يتحدث هراري عن "الطبقة عديمة الفائدة"، ألا يردد صدى هذا المنطق ذاته؟ حين يختزل الإنسان إلى "وحدة إنتاجية"، تصبح حياته قابلة للتقييم بمعايير الكفاءة والجدوى. وحين تصبح الآلة أكفأ، يفقد الإنسان—في هذا المنطق—مبرر وجوده.

الرؤية الإسلامية: كرامة لا تختزل

-----------------------------------------------

في مواجهة هذا المنطق المادي النفعي، تقدم الرؤية الإسلامية نقيضا جذريا. ففي القرآن الكريم، الكرامة الإنسانية ليست مكتسبة بالإنتاج أو الذكاء أو القوة، بل هي هبة إلهية مطلقة: ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾. لاحظ أن الآية تقول "بني آدم" لا "المؤمنين"، مما يدل على شمول هذا التكريم لكل البشر بصرف النظر عن دينهم أو عرقهم أو إنتاجيتهم.

يعلق الإمام الآلوسي في تفسيره: "هذه الآية ذات دلالة قطعية ومعنى عام... الطبيعة التوسعية تشير إلى أن الكرامة الممنوحة للجنس البشري لا حدود لها". هذه الكرامة لا تقبل المساومة أو القياس بمعايير السوق.

مفهوم الاستخلاف يعمق هذا الفهم. فالإنسان في القرآن ليس كائنا بيولوجيا عشوائيا تنتجه قوى الطبيعة العمياء، بل جعله الله خليفة في الأرض: ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾. هذا الاستخلاف يحمل الإنسان مسؤولية أخلاقية عظيمة، لكنه يمنحه أيضا مكانة وجودية لا يمكن لأي آلة أن تسلبها. قال النبي ﷺ: "الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون". المسؤولية هنا أخلاقية لا اقتصادية، والمعيار هو "كيف تعملون" لا "كم تنتجون".

مفهوم التسخير يكمل الصورة بعمق لافت. يقول تعالى: ﴿وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه﴾. الكون بأسره—بما فيه التكنولوجيا—مسخر للإنسان، لا العكس. لكن العلماء كالإمام الرازي يحذرون من سوء فهم هذا المفهوم: التسخير يعني أن الله سخر الطبيعة للإنسان، لا أن الإنسان يخضع الطبيعة بقوته الذاتية. هذا التمييز جوهري، لأنه يمنع النظرة الاستغلالية والمادية للعالم.

المعادلة الإسلامية إذن واضحة: الإنسان سيد، والكون خادم، والله وحده المعبود. أما في النموذج التقني المادي، فالآلة تتحول تدريجيا إلى سيد، والإنسان إلى خادم (أو فائض عن الحاجة)، والتكنولوجيا إلى معبود جديد.

العدل الاقتصادي الإسلامي في مواجهة تركز الثروة

-----------------------------------------------

يظهر تركز الثروة التقنية الهائل—حيث يمتلك بضعة أفراد ثروات تفوق ناتج دول بأكملها—التناقض الصارخ مع المبادئ الإسلامية. يقول تعالى: ﴿كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم﴾، ناهيا صراحة عن تكديس الثروة في أيدي قلة.

الإسلام يقدم منظومة متكاملة لمنع تركز الثروة وضمان تداولها. الزكاة ليست صدقة اختيارية بل فريضة إلزامية بنسبة ٢.٥٪ سنويا من الثروة المكتنزة. الميراث يوزع الثروة قسرا بين الورثة بنسب محددة، محطما التراكم عبر الأجيال. الوقف يحول الثروة الخاصة إلى ملكية عامة دائمة لصالح المجتمع. تحريم الربا يمنع تضخم رأس المال دون عمل حقيقي.

انتقد الإمام الغزالي قبل ألف عام تركز الثروة المفرط لأنه "يفسد التماسك الاجتماعي"، وطور ابن خلدون نظريات دورية تربط الازدهار الاقتصادي بالعصبية والتضامن الجمعي. هذه الرؤى تقدم بديلا جذريا للنموذج الذي يراكم "رأس المال السحابي" في أيدي حفنة من "أسياد السحاب".

نقد العلموية وتأليه التكنولوجيا

-------------------------------

إن الحداثة تعرف أساسا بإنكار المتعالي (Transcendent)، مما يؤدي إلى العدمية والتشكيك والمادية, أما العلم الحديث يفختزل الواقع إلى جوانبه القابلة للقياس والكم، متجاهلا الأبعاد الروحية والمعنوية. النتيجة هي "فراغ روحي يقنع بوفرة مادية". البديل هو إحياء "العلم المحيط" الذي يدمج المعرفة المادية والعقلية والروحية تحت مظلة واحدة، أي أن "العلم الحقيقي يجب أن يتوافق مع قضية الاستخلاف، لا المنفعة الدنيوية".

هذا النقد يسلط الضوء على الجذر الفلسفي للأزمة: حين يختزل الإنسان إلى خوارزمية بيولوجية—كما يفعل هراري—تصبح المقارنة مع الخوارزمية السيليكونية ممكنة ومشروعة. لكن الإنسان في الرؤية الإسلامية ليس خوارزمية، بل كائن شرفه الله بالنفخ فيه من روحه: ﴿فإذا سويته ونفخت فيه من روحي﴾. هذه النفخة الإلهية تجعل الإنسان مختلفا نوعيا لا كميا عن أي آلة، مهما بلغ ذكاؤها.

موقف العلماء المسلمين من الذكاء الاصطناعي

-------------------------------

يتعامل العلماء المسلمون المعاصرون مع الذكاء الاصطناعي وفق منهج متوازن يرفض الاعتماد الأعمى عليه والرفض المطلق معا. القاعدة الشرعية الأساسية هي: "الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ثبت فيه نهي شرعي".

لكن هذا الجواز مشروط بضوابط. أولا: لا يجوز طلب الفتوى من الذكاء الاصطناعي أو الوثوق بإجاباته الدينية، لافتقاره إلى فهم السياق والقدرة على تقدير المآلات. ثانيا: يجب أن يبقى الذكاء الاصطناعي أداة تحت إشراف بشري، لا سلطة مستقلة. ثالثا: يجب أن يتوافق مع مقاصد الشريعة في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

من العلماء من يحذر من أن الذكاء الاصطناعي الحديث—المتجذر في النماذج المادية الغربية—يطرح تحديات ميتافيزيقية وأخلاقية على التصور الإسلامي لطبيعة الإنسان والذكاء والنظام الإلهي، إذ قد يساهم في "تصنيع الواقع"، مستبدلا السلطة الخوارزمية بالاعتماد على الله ("الله الصمد").

الإنسان بين خدمة التقنية وتسخيرها

-------------------------------

الفرق الجوهري بين الرؤيتين يتجلى في سؤال بسيط: هل التكنولوجيا تخدم الإنسان، أم الإنسان يخدم التكنولوجيا؟ في نموذج "رأسمالية المراقبة"، يصبح الإنسان مادة خاما تستخرج منها البيانات. أما في نموذج "الإقطاع التكنولوجي"، يتحول إلى مُستَعبَد رقمي. في نموذج "الطبقة عديمة الفائدة"، يصبح فائضا يجب التخلص منه أو تخديره.

أما في الرؤية الإسلامية، فالإنسان هو الغاية والتكنولوجيا وسيلة. الأدوات تقيم بخدمتها للمقاصد الكلية، لا بكفاءتها المجردة. الذكاء الاصطناعي الذي يعزز كرامة الإنسان ورفاهيته مطلوب، والذي يهددها مرفوض—بصرف النظر عن براعته التقنية.

هذا لا يعني رفض التقدم التكنولوجي. الإسلام حضارة علمية بامتياز، أسهمت في تأسيس الجبر والكيمياء والطب والبصريات. لكن العلم في هذه الحضارة كان متسقا مع رؤية كونية متكاملة تضع الله في المركز والإنسان في موقع الخليفة المسؤول. أما العلموية الحديثة فتضع التقنية في المركز وتجعل الإنسان تابعا—أو زائدا عن الحاجة.

خاتمة: استعادة السؤال الصحيح

-------------------------------

إن تصريحات إريك شميدت وأمثاله تجبرنا على مواجهة أسئلة وجودية لا يمكن تأجيلها. لكن السؤال الحقيقي ليس "متى ستصبح الآلة أذكى منا؟"، بل "ما الذي يجعل الإنسان إنسانا؟" إن كان الجواب هو الذكاء والإنتاجية، فنحن فعلا في خطر. أما إن كان الجواب هو الكرامة المتأصلة، والمسؤولية الأخلاقية، والبعد الروحي، والقدرة على المحبة والرحمة والتضحية—فهذه أبعاد لا يمكن لأي خوارزمية أن تحاكيها.

الرؤية الإسلامية لا تقدم حلولا تقنية للتحديات التقنية، لكنها تقدم ما هو أهم: إطارا أخلاقيا يعيد الإنسان إلى مركز المعادلة، وميزانا قيميا يرفض اختزال البشر إلى أرقام إنتاجية، وأفقا روحيا يعطي للحياة معنى يتجاوز الاستهلاك والترفيه.

في عالم يسارع نحو "ذكاء خارق" قد "لا يحتاج للاستماع إلينا"، ربما يكون أعظم ما يمكننا فعله هو التمسك بما يجعلنا بشرا: الضمير لا الخوارزمية، الكرامة لا الكفاءة بمعناها الآلي، العبودية لله لا للآلة. فالإنسان الذي كرمه الله ونفخ فيه من روحه واستخلفه في الأرض لا يمكن أن يكون "عديم الفائدة"—مهما بلغت الآلات من ذكاء، ومهما روج "إجماع سان فرانسيسكو" لخلاف ذلك.

أحمد كمال قاسم

كاتب إسلامي