رحلة فرح الروح

منذ ساعة

روحُكَ كانت بينَ الصُّلبِ والترائبِ، ثم عاشَتْ أشهراً في ظلُماتٍ ثلاثٍ داخلَ الرحِمِ، تنتظرُ الخروجَ إلى عالَمِ الدنيا، لتَعبُدَ ربَّها كما أشهدَها، وها هيَ روحُكَ باقيةٌ في الدنيا، ومحفوظةٌ بحفظِ اللهِ، تَفرَحُ وتَسرَحُ، وتَتزكَّى وتَستيقِنُ، وتَهتدِي وتَستنِيرُ...

أيُّها المؤمنُ الموعودُ بالجنةِ: نريدُ الآنَ أن ننطلقَ سويَّاً في رحلةٍ جميلةٍ جليلةٍ، إنها رحلةٌ مفرحةٌ للروحِ، تَمُرُّ على سبعِ محطاتٍ، وفي كلِّ محطةٍ قصةٌ؛ نهايتُها جنةٌ طيبةٌ وربٌّ غفورٌ.

فلنبدأْ رحلةَ فرحِ الروحِ حين خُلِقَتْ في ظهرِ أبِينا آدمَ -عليهِ السلامُ- وهوَ في الجنةِ، فقد أُخِذَ عليها ميثاقُ الوحدانيةِ السماويِ فشهِدَتْ؛ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}[الأعراف: 172].

روحُكَ ألقَى اللهُ عليها من نُورِهِ وهيَ في ظُلمةِ ظهرِ آدمَ، فاهتدَتْ واستنارَتْ وقالَ ربُّها لها: خَلَقْتُ هَؤُلاَءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِيْ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ.

روحُكَ كانت بينَ الصُّلبِ والترائبِ، ثم عاشَتْ أشهراً في ظلُماتٍ ثلاثٍ داخلَ الرحِمِ، تنتظرُ الخروجَ إلى عالَمِ الدنيا، لتَعبُدَ ربَّها كما أشهدَها، وها هيَ روحُكَ باقيةٌ في الدنيا، ومحفوظةٌ بحفظِ اللهِ، تَفرَحُ وتَسرَحُ، وتَتزكَّى وتَستيقِنُ، وتَهتدِي وتَستنِيرُ، إلا عندَ النومِ فتموتُ مِيتةً صُغرَى.

روحُكَ ستتألقُ بجمالِها عندَ قبضِها، حيثُ ستُلبَسُ حريرةً بيضاءَ من الجنةِ محنَّطةً بحَنوطٍ من الجنةِ؛ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ}[فصلت: 30]، وسيقولونَ لروحِكَ الفرِحَةِ: صَلَّى الله عَلَيْكِ وَعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ، وسيأخذُكَ من السرورِ ما اللهُ به عليمٌ.

روحُكَ ستصِلُ بحفظِ اللهِ إلى السماءِ التي فيها اللهُ، وستراهُ -جلَّ في عُلاهُ- وستسمعُ صوتَهُ وهوَ يقولُ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ.

روحُكَ سترجِعُ إلى جسدِكَ في الأرضِ، وستفرحُ وهيَ محمولةٌ على الأعناقِ متجهةٌ إلى القبرِ، وستقولُ من فرَحِها: قَدِّمُوْنِيْ قَدِّمُوْنِيْ.

روحُكَ ستجِدُ تلاوتَكَ للقرآنِ وصلاتَكَ عندَ رأسِكَ، وصيامَك عن يمينِكَ، وزكاتَكَ عن شمالِكَ، وسائرَ أعمالِكَ الصالحةَ عندَ قدَمَيكَ؛ لتُحصِّلَ حصانَتَها من الفتَّانِ بالقبرِ.

روحُكَ ستُسألُ من الملَكَينِ بالقبرِ سبعةَ أسئلةٍ متقاربةٍ:

أولُهَاَ: مَنْ رَبُّكَ؟ والجوابُ: رَبِّيَ اللهُ.

ثانِيها: هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ؟ والجوابُ: مَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَرَى اللَّهَ!.

ثالثُها: مَا دِينُكَ؟ والجوابُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ.

رابعُها: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ والجوابُ: هُوَ مُحَمَّدٌ.

خامُسها: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ والجوابُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.

سادسُها: وَمَا يُدْرِيكَ؟ أَدْرَكْتَهُ؟ والجوابُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ.

سابعُها: وَمَا عِلْمُكَ؟ والجوابُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ.

ثم ستَخرُج لك نتيجةُ الاختبارِ، وستَنالُ أعظمَ جائزةٍ لصوابِكَ في جوابِكَ، وستسمعُ ربَّكَ ينادِيكَ: ‌صَدَقَ ‌عَبْدِي، أَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ.

روحُكَ لا خوفٌ عليها وهيَ تسمعُ نفخةَ الصعقِ لمجيءِ الربِ -سبحانَهُ-، ولا خوفٌ عليها وهيَ تقومُ من نفخةِ القيامِ لربِ العالمينَ.

روحُكَ مع جسدِكَ ستقترِبُ من عرشِ اللهِ؛ لتأخذَ مكانَكَ على منبرٍ من نورٍ، وتؤتَى كتابَكَ بيمينِكَ، وقد ظهرَ على جبهتِكَ نورُ السجودِ، وعلى رجلَيكَ نورُ الوضوءِ، والنورُ يسعَى مِن بينِ يدَيكَ ومِن خلفِكَ، وستنطلقُ تُنادِي بأعلى صوتِكَ: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[الحاقة: 20 - 21].

روحُكَ مع جسدِكَ ستأتي حوضَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فتشربُ منه شربةً لا تظمأُ بعدَها أبداً، ثم ستنضمُّ للصفوفِ الثمانينَ الأُولَى المتوَّجَةَ المتَوَجِّهَةَ للجنةِ؛ لتدخُلَها جسداً وروحاً، ثم سترَى في الجنةِ الربَّ الرحيمَ، وستسمعُ كلامَهُ قائلاً: خُلُوْدٌ فَلَا مَوْتَ، أُحِلُّ عَلَيْكَ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكَ أَبَدًا.

 

أما بعدُ: ونحنُ في رحلةِ سَيرِنا إلى اللهِ لنتفكرْ في قولهِ -تَعَالَى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر: 18]، ولْنسْأَلْ أنفُسَنا السُّؤَالَ التَّالِيَ: هَلْ أَنَا مُسْتَعِدٌّ لِلِقَاءِ اللهِ؟! وَهَلْ نَظَرْتُ مَا قَدَّمْتُ لِغَدٍ؟! قِيْلَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ» (ابن ماجه وصححه الألباني).

فلماذا صِرنا نَكرهُ الذي يذكِّرُنا بالموتِ، ونعتبرُهُ يُنكِّدُ عَيْشَنا؟! ألا نتعظْ بفراقِ أقرانِنا الذينَ مَضَوا قبلَنا؟! ألا نتفكَّرْ كيفَ أرمَلُوا نساءَهُم، وأَيْتَمُوا أولادَهُم، وخلَتْ منهم مساجدُهُمْ ومجالسُهُمْ، وأنْ ستكونُ عاقبتُكَ كعاقِبَتِهِمْ؟!.

ولْنعلمْ أنَّ الواحدَ منا هوَ مَنْ يَصنَعُ سِيرتَهُ، إما حسنةً تُرضِيْ اللهَ عنهُ، ويَترحَّمُ الناسُ عليهِ بها، وإما سِيرةً سيئةً تكونُ عليه وَبَالاً ونَكَالاً، فهل أنتَ مستعدٌ للرحلةِ؛ لتَلْقَى في الجنةِ أحبابَكَ الذينَ رحَلُوا قبلَكَ؟!.