مع سورة الحاقة

منذ ساعتين

سميت «سورة الحاقة» في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وباسم {الحاقة} عنونت في المصاحف وكتب السنة وكتب التفسير.

{بسم الله الرحمن الرحيم }

 

سميت «سورة الحاقة» في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وباسم {{الحاقة}} عنونت في المصاحف وكتب السنة وكتب التفسير.

ووجه تسميتها «سورة الحاقة» وقوع هذه الكلمة في أولها ولم تقع في غيرها من سور القرآن.

وقال الفيروز أبادي في «بصائر ذوي التمييز»: إنها تسمى أيضا «سورة السلسلة» لقوله: {{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ}} [الحاقة:32] وسماها الجعبري في منظومته في ترتيب نزول السور «الواعية» ولعله أخذه من وقوع قوله: {{وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}} [الحاقة:12]

وهي مكية بالاتفاق. وقد عدت هذه السورة السابعة والسبعين في عداد ترتيب النزول. نزلت بعد سورة تبارك وقبل سورة المعارج. واتفق العادون من أهل الأمصار على عد آيها إحدى وخمسين آية.

 

{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)}

{الْحَاقَّةُ} من: حق الشيء، إذا ثبت وقوعه..  والحاقةُ من أسماء يوم القيامة؛ لقب بذلك لأنه يوم محقق وقوعه، كما قال تعالى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى:7]، أو لأنه يَتَحقَّقُ الوَعدُ والوَعيد من قولهم: حق عليه الشيء، إذا وجب. فتحقق فيه الحقوق ولا يضاع الجزاء عليها، كما قال تعالى: {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77]

{مَا} اسم استفهام مستعمل في التهويل والتعظيم {الْحَاقَّةُ} من وضع الظاهر موضع المضمر، تفخيماً لشأنها، وتعظيماً لهولها، أو لقصد ما في الاسم من التهويل. ونظيره في ذلك قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27].

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} تأكيداً لتفخيم شأنها، حتى كأنها خرجت من دائرة علم المخاطب على معنى: أن عظم شأنها، وما اشتملت عليه، من الأوصاف، مما لم تبلغه دراية أحد من المخاطبين ولم تصل إليه معرفة أحد من السامعين، ولا أدركه وهمه، وكيفما قدر حالها، فهي وراء ذلك وأعظم. ومنه يعلم أن الاستفهام كناية عن لازمه، من أنها لا تعلم، ولا يصل إليها دراية دارٍ، ولا تبلغها الأفكار.

وقال الراغب: كل موضع ذكر في القرآن من قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد عقب ببيانه نحو {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:10-11]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:2-3]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} [الانفطار:18-19]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ}.

 

كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} بالساعة التي تقرع الناس بأهوالها وهجومها عليهم.

فالقارعة: اسم فاعل من قرعه، إذا ضربه ضربا قويا، يقال: قرع البعير. وقالوا: "العبد يقرع بالعصا"، وسميت المواعظ التي تنكسر لها النفس قوارع لما فيها من زجر الناس عن أعمال الشر.

قال الزمخشريّ: "ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع في الحاقة، زيادة في وصف شدتها. ولماّ ذكرها وفخمها أتبع ذكر ذلك من كذب بها، وما حل بهم بسبب التكذيب، تذكيراً لأهل مكة، وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم".

وقال ابن عاشور: "والآية استئناف، وهو تذكير لما حل بثمود وعاد لتكذيبهم بالبعث والجزاء تعريضا بالمشركين من أهل مكة بتهديدهم أن يحق عليه مثل ما حل بثمود وعاد فإنهم سواء في التكذيب بالبعث. وعلى هذا يكون قوله: {الْحَاقَّةُ} الخ توطئة له وتمهيدا لهذه الموعظة العظيمة استرهابا لنفوس السامعين.

وابتدئ بثمود وعاد في الذكر من بين الأمم المكذبة لأنهما أكثر الأمم المكذبة شهرة عند المشركين من أهل مكة لأنهما من الأمم العربية ولأن ديارهما مجاورة شمالا وجنوبا".

{فَأَمَّا ثَمُودُ} قوم صالح عليه السلام {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} بالصيحة المجاوزة للحد في الشدة.. صيحة أسكتتهم، وزلزلة أسكنتهم.. قاله قتادة واختاره ابن جرير

أو الطاغية: الصاعقة في قول ابن عباس وقتادة: نزلت عليهم صاعقة أو صواعق فأهلكتهم.

أو المعنى: بطغيانهم.. قال مجاهد: الطاغية الذنوب، وقرأ ابن زيد: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس:11].

وثمود أمة من العرب البائدة العاربة، وهم أنساب عاد. وثمود: اسم جد تلك الأمة، وكانت منازلهم في طريق أهل مكة إلى الشام في رحلتهم فهم يرونها، قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52]

{وَأَمَّا عَادٌ} قوم هود عليه السلام {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} شديدة العصوف والبرد، يكون لها صوت كالصرير {عَاتِيَةٍ} متجاوزة الحد المعروف في الهبوب والبرودة.. أي الشديدة العصف، وأصل العتو والعتي: شدة التكبر فاستعير للشيء المتجاوز الحد المعتاد تشبيها بالتكبر الشديد في عدم الطاعة والجري على المعتاد.

قال قتادة: عتت عليهم حتى نَقَّبت عن أفئدتهم.

{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} سلطها عليهم {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} متتابعات من حسمت الدابة، إذا تابعت بين كيّها. شبه تتابع الريح المستأصلة بتتابع الكيّ القاطع للداء.

المعنى الثاني: أن يكون من الحسم وهو القطع، أي حاسمة مستأصلة. ومنه سمي السيف "حساما" لأنه يقطع، أي حسمتهم فلم تبق منهم أحدا.

{فَتَرَى} خطاب لغير معين، أي فيرى الرائي لو كان راء، وهذا أسلوب في حكاية الأمور العظيمة الغائبة تستحضر فيه تلك الحالة كأنها حاضرة.

وقريب منه قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} [الشورى: 45]، وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20]

{الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى} هلكى {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} وعجز النخلة: هو الساق التي تتصل بالأرض من النخلة وهو أغلظ النخلة وأشدها {خَاوِيَةٍ} خالية مما كان مالئا له وحالا فيه. ووصف {نَخْلٍ} بأنها {خاوية} باعتبار إطلاق اسم "النخل" على مكانه والمعنى: خالية من الناس.

والمعنى: ساقطة مجتثة من أصولها كآية: {تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر:20] أي: تقتلع الناس من مواضعهم على الأرض فترمي بهم على رؤوسهم, فتدق أعناقهم, ويفصل رؤوسهم عن أجسادهم, فتتركهم كالنخل المنقلع من أصله.

وفي البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ).

{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} بقاء، أو نفس باقية، أو بقية.. بل بادوا عن آخرهم ولم يجعل الله لهم خَلفَا. والخطاب لغير معين.

والآية تفريع على مجموع قصتي ثمود وعاد، فهو فذلكة لما فصل من حال إهلاكهما، وذلك من قبيل الجمع بعد التفريق، فيكون في أول الآية جمع ثم تفريق ثم جمع وهو كقوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم:51]، أي فما أبقاهما.

 

وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)

{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} من الأمم المشبهين له المكذبة، كقوم نوح وإبراهيم.

{وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} قرى قوم لوط الثلاث، وأريد بالمؤتفكات سكانها وهم قوم لوط خصوا بالذكر لشهرة جريمتهم ولكونهم كانوا مشهورين عند العرب إذ كانت قراهم في طريقهم إلى الشام، قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138] وقال: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} [الفرقان:40].

ووصفت قرى قوم لوط بـ {الْمُؤْتَفِكَاتِ} جمع مؤتفكة، إذا قلبه، فهي المنقلبات، أي قلبها قالب فخسف بها، قال تعالى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود:82].

{بِالْخَاطِئَةِ} بالفعلة الخاطئة، وهي التكذيب بما أنزل الله. أو بالأفعال الخاطئة.

وجمع في الذكر هنا أمم تقدمت قبل بعثة موسى -عليه السلام- إجمالا وتصريحا، وخص منهم بالتصريح قوم فرعون والمؤتفكات لأنهم من أشهر الأمم ذكرا عند أهل الكتاب المختلطين بالعرب والنازلين بجوارهم، فمن العرب من يبلغه بعض الخبر عن قصتهم.

وفرع عنهم تفصيل ذنبهم المعبر عنه بالخاطئة فقال:

{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} وهذا التفريع للتفصيل نظير التفريع في قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] في أنه تفريع بيان على المبين.

أي: كُلّ كذّبَ الرسول المرسل إلى كل قوم من هؤلاء، وإفراد {رَسُولَ} مراد به التوزيع على الجماعات، أي رسول الله لكل جماعة منهم، والقرينة ظاهرة، وهو أجمل نظما من أن يقال: فعصوا رسل ربهم، لما في إفراد {رَسُولَ} من التفنن في صيغ الكلم من جمع وإفراد تفاديا من تتابع الجموع لأن صيغ الجمع لا تخلوا من ثقل لقلة استعمالها.

ومن كذب رسول الله فقد كذب بالجميع كما قال تعالى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14]، {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141]

{فَأَخَذَهُمْ} الأخذ: مستعمل في الإهلاك {أَخْذَةً} أي أخذنا كل أمة منهم أخذة. كما قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:42]

{رَابِيَةً} من ربا يربو إذا زاد، أي: زائدة في الشدة فهي عظيمة شديدة أليمة. أو والمراد بالأخذة الرابية: إهلاك الاستئصال، أي ليس في إهلاكهم إبقاء قليل منهم.

واستعير «الربو» هنا للشدة، كما تستعار الكثرة للشدة في نحو قوله تعالى: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:14].

 

إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)

{إِنَّا لَمَّا} في ذلك الوقت {طَغَى الْمَاءُ} كثر وتجاوز حده المعروف.. مستعار لشدته الخارقة للعادة تشبيها لها بطغيان الطاغي على الناس تشبيه تقريب فإن الطوفان أقوى شدة من طغيان الطاغي.

بسبب إصرار قوم نوح على الكفر والمعاصي، وتكذيبه، عليه السلام.

{حَمَلْنَاكُمْ} أسند الحمل إلى اسم الجلالة بناء على أنه أوحى إلى نوح بصنع الحاملة ووضع المحمول قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [المؤمنون:27]

{فِي الْجَارِيَةِ} صفة لمحذوف وهو السفينة التي تجري على وجه الماء. وقد شاع هذا الوصف حتى صار بمنزلة الاسم قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى:32] {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الرحمن:24].

فعَمّ أهل الأرض بالطوفان إلا من كان مع نوح في السفينة، فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته.

قال ابن جرير: خاطب الذين نزل فيهم القرآن، وإنما حمل أجدادهم نوحاً وولده، لأن الذين خوطبوا بذلك، ولد الذين حُملوا في الجارية، فكان حملُ الذين حملوا فيها من الأجداد، حملاً لذريتهم.

{لِنَجْعَلَهَا} تلك الفعلة التي هي إنجاء المؤمنين، وإغراق الكافرين {لَكُمْ تَذْكِرَةً} آية وعبرة تذكرون بها صدق وعده في نصر رسله، وتدمير أعدائه.

{وَتَعِيَهَا} تحفظها {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} حافظة، عقلت ما سمعت عن الله، متفكرة فيه.

قال ابن عاشور: "والمراد ب {إذن}: آذان واعية. وعموم النكرة في سياق الإثبات لا يستفاد إلا بقرينة التعميم كقوله تعالى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18].

والوعي: العلم بالمسموعات، أي ولتعلم خبرها إذن موصوفة بالوعي، أي من شأنها أن تعي. وهذا تعريض بالمشركين إذ لم يتعظوا بخبر الطوفان والسفينة التي نجا بها المؤمنون فتلقوه كما يتلقون القصص الفكاهية".

 

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} الصُّور: قرن ثور يقعر ويجعل في داخله سداد يسد بعض فراغه حتى إذا نفخ فيه نافخ انضغط الهواء فصوت صوتا قويا، وكانت الجنود تتخذه لنداء بعضهم بعضا عند إرادة النفير أو الهجوم.

والنفخ في الصور: عبارة عن أمر التكوين بإحياء الأجساد للبعث مثل الإحياء بنداء طائفة الجند المكلفة بالأبواق لنداء بقية الجيش حيث لا يتأخر جندي عن الحضور إلى موضع المناداة.

{نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} لخراب العالم.. لما أتم تهديدهم بعذاب الدنيا فرع عليه إنذارهم بعذاب الآخرة الذي يحل عند القارعة التي كذبوا بها كما كذبت بها ثمود وعاد، فحصل من هذا بيان للقارعة بأنها ساعة البعث وهي الواقعة.

قال أبو السعود: "هذا شروع في بيان نفس الحاقة، وكيفية وقوعها، إثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها".

وقال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن أهوال يوم القيامة، وأول ذلك نفخة الفزع، ثم يعقبها نفخة الصعق حين يُصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم بعدها نفخة القيام لرب العالمين والبعث والنشور، وهي هذه النفخة. وقد أكدها هاهنا بأنها واحدة لأن أمر الله لا يخالف ولا يمانع، ولا يحتاج إلى تكرار وتأكيد.

قيل: والتنصيص على {واحدة} للتنبيه على التعجيب من تأثر جميع الأجساد البشرية بنفخة واحدة دون تكرير، تعجيبا عن عظيم قدرة الله ونفوذ أمره، لأن سياق الكلام من مبدأ السورة تهويل يوم القيامة فتعداد أهواله مقصود، فحصل في ذكر {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} تأكيد معنى النفخ وتأكيد معنى الوحدة، والمراد أنها غير محتاج حصول المراد منها إلى تكررها كناية عن سرعة وقوع الواقعة.

{وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} ورُفعت الأرض والجبال عن أماكنها فكُسِّرتا, ودُقَّتا دقة واحدة.

والدك: دق شديد يكسر الشيء المدقوق، أي فإذا فرقت أجزاء الأرض وأجزاء جبالها.

وبنيت لأفعال: نفخت، وحملت، ودكتا للمجهول لأن الغرض متعلق ببيان المفعول لا الفاعل، وفاعل تلك الأفعال إما الملائكة أو ما أودعه الله من أسباب تلك الأفعال، والكل بإذن الله وقدرته.

وفي توصيفها بالوحدة تعظيم لها، وإشعار بأن المؤثر لدكّ الأرض والجبال وخراب العالم، هي وحدها، غير محتاجة إلى أخرى.

{فَيَوْمَئِذٍ} أي فيوم إذ نفخ في الصور إلى آخره حينئذ تقع الواقعة وهو تأكيد.

{وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} نزلت النازلة، وهي القيامة.. {الْوَاقِعَةُ} صار علما بالغلبة في اصطلاح القرآن على يوم البعث، قال تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:1-2].

وعبر عنه بفعل المضي تنبيها على تحقيق حصوله.

{وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ} انصدعت، والشق: فتح منافذ في محيطها، قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} [الفرقان:25-26].

{فَهِيَ يَوْمَئِذٍ} أي: أن الوهي طرأ عليها بعد أن كانت صلبة بتماسك أجزاءها.

{وَاهِيَةٌ} والوهي قريب من الوهن، أي: ضعيفة متفرقة متمزقة.

{وَالْمَلَكُ} أصله الواحد من الملائكة، وتعريفه هنا تعريف الجنس وهو في معنى الجمع، أي جماعة من الملائكة أو جميع الملائكة إذا أريد الاستغراق، واستغراق المفرد أصرح في الدلالة على الشمول.

{عَلَى أَرْجَائِهَا} جوانبها وأطرافها حين تشقق.. والمعنى: أن الملائكة يعملون في نواحي السماء ينفذون إنزال أهل الجنة بالجنة وسوق أهل النار إلى النار.

{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ} تأكيد لما دل عليه {يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} من الملائكة.

روى أبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ)

{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} على ربكم للحساب والمجازاة، فتعرضون على عالم السر والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر.

والعرض: أصله إمرار الأشياء على من يريد التأمل منها، مثل: عرض السلعة على المشتري، وعرض الجيش على أميره. وأطلق هنا كناية عن لازمه وهو المحاسبة مع جواز إرادة المعنى الصريح.

{لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} سريرة كانت تخفى في الدنيا بستر الله.

وتكرير {يَوْمَئِذٍ} أربع مرات لتهويل ذلك اليوم الذي مبدؤه النفخ في الصور ثم يعقبه ما بعده.

 

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)

{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} علامة لفوزه، فإيتاء الكتاب باليمين علامة على أنه إيتاء كرامة وتبشير.

{فَيَقُولُ هَاؤُمُ} تعالوا، أو خذوا.. وهو قول ذي بهجة وحبور يبعثان على اطلاع الناس على ما في كتاب أعماله من جزاء في مقام الاغتباط والفخار.. والخطاب للصالحين من أهل المحشر.

{اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} كتابي.. والقراء يستحبون أن يقف عليها القارئ ليوافق مشهور رسم المصحف، ولئلا يذهب حسن السجع.

{إِنِّي ظَنَنْتُ} في موقع التعليل للفرح والبهجة، أي: قد كنت موقنا في الدنيا أن هذا اليوم كائن لا محالة، كناية عن استعداده للحساب بتقديم الإيمان والأعمال الصالحة مما كان سبب سعادته.

 كما قال: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة:46]

والظن هنا على معنى «اليقين» وهو أحد معنييه. وعن الضحاك: "كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك".

{أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} جزائي يوم القيامة، فأعددت له عدته من الإيمان والعمل الصالح.

{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} ذات رضا، ملتبسة به، فيكون بمعنى: مرضية.

{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} والعلو: الارتفاع، وهو من محاسن الجنات لأن صاحبها يشرف على جهات من متسع النظر، ولأنه يبدو له كثير من محاسن جنته حين ينظر إليها من أعلاها أو وسطها مما لا يلوح لنظره لو كانت جنته في أرض منبسطة، وذلك من زيادة البهجة والمسرة، لأن جمال المناظر من مسرات النفس ومن النعم.

{قُطُوفُهَا} وهو ما يقطف من ثمرها، جمع قِطْف، وهو الثمر، سمي بذلك لأنه يقطف.

{دَانِيَةٌ} قريبة سهلة التناول.. قال البراء بن عازب: "قريبة، يتناولها أحدهم، وهو نائم على سريره".

{كُلُوا} يقال لهم: كلوا {وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ} والإسلاف: جعل الشيء سلفا، أي سابقا. والمراد أنه مقدم سابق لِإِبَّانِهِ [لأوانه] لينتفع به عند الحاجة إليه، ومنه اشتق السلف للقرض، والإسلاف للإقراض، والسلفة للسلم.

{فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} الماضية البعيدة في الحياة الدنيا مشتق من الخلو وهو الشغور والبعد.

وجاء الخطاب بالجمع لأنه موجه لكل الفريق بعد حلولهم في الجنة، كما يدخل الضيوف إلى المأدبة فيحيي كل داخل منهم بكلام يخصه فإذا استقروا أقبل عليهم مضيفهم بعبارات الإكرام.

يقال لهم ذلك؛ تفضلا عليهم، وامتنانا وإنعاما وإحسانا. وإلا فقد ثبت في الصحيح، عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ) قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (لَا وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ) [البخاري]

 

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)

{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} علامة على خسرانه، وهذا إخبار عن حال الأشقياء إذا أعطي أحدهم كتابه في العَرَصات بشماله، فحينئذ يندم غاية الندم.

{فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} لأنه علم من الاطلاع على كتابه أنه صائر إلى العذاب، فيتمنى أن لا يكون علم بذلك إبقاء على نفسه من حزنها زمنا، فإن ترقب السوء عذاب.

{وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} أي شيء حسابي {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} قال ابن جرير: أي: يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت هي الفراغ من كل ما بعدها، ولم يكن بعدها حياة ولا بعث. والقضاء هو الفراغ.

قال قتادة: "تمنى الموت، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه".

وهو تمن آخر ولم يعطف على التمني الأول لأن المقصود التحسر والتندم.

وجملة {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} من الكلام الصالح لأن يكون مثلا لإيجازه ووفرة دلالته ورشاقة معناه.. عبر بها عما يقوله من أوتي كتابه بشماله من التحسر بالعبارة التي يقولها المتحسر في الدنيا بكلام عربي يودي المعنى المقصود.

ونظيره ما حكي عنهم في قوله تعالى: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان:13] وقوله: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] وقوله: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} [الكهف:49].

{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} ما دفع مالي من عذاب الله شيئاً {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} هلاك السلطان: عدم الانتفاع به يومئذ

أي ما نفعني ملكي وتسلطي على الناس. أو ما نفعتني حجتي، فلا حجة لي أحتج بها.

أو: لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذابَ الله وبَأسه، بل خَلَص الأمر إليَّ وحدي، فلا معين لي ولا مجير. فما ظنك بحسرة من اتبعوهم واقتدوا بهم إذا رأوهم كذلك.

{خُذُوهُ} يقال لخزنة النار: خذوه بالعنف والقهر والشدة. والأخذ: الإمساك باليد.

{فَغُلُّوهُ} تضع الأغلال -وهي القيود- في عنقه وتضم يده إلى عنقه؛ إذ لم يشكر ما ملكته.

{ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} صلي بالنار معناه: أصابه حرقها.. أي: أدخلوه ليصلى فيها؛ لأنه لم يشكر شيئاً من النعم، فأذيقوه شدائد النقم.

وروى ابن أبي الدنيا في «الأهوال»: أنه يبتدره أربعمائة ألف، ولا يبقى شيء إلا دَقَه، فيقول: ما لي ولك؟ فيقول: إن الرب عليك غضبان، فكل شيء غضبان عليك.

{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ} حلقة منتظمة بأخرى، وهي بثالثة، وهلم جرّاً {ذَرْعُهَا} مقدارها.

{سَبْعُونَ ذِرَاعًا} عن ابن عباس، وابن جرير: بذراع المَلَكْ، قال القاشانيّ: والسبعون في العرف عبارة عن الكثرة غير المحصورة، لا العدد المعين.

 {فَاسْلُكُوهُ} فأدخلوه فيها. أي: لفُّوه بها، بحيث يكون فيما بين حلقها مرهقاً، لا يقدر على حركة. والمقصود تأكيد وقوع ذلك، والحث على عدم التفريط في الفعل، وأنه لا يرجى له تخفيف

قال ابن عباس: تدخل في استه ثم تخرج من فيه، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين يشوى.

روى الإمام أحمد -بسند حسن- والترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَوْ أَنَّ رَصَاصَةً [كل شيء فتاته وكسارتُه] مِثْلَ هَذِهِ -وَأَشَارَ إِلَى مِثْلِ جُمْجُمَةٍ- [وفي رواية: جمجمته]، أُرْسِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ خَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ، لَبَلَغَتِ الْأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَلَوْ أَنَّهَا أُرْسِلَتْ مِنْ رَأْسِ السِّلْسِلَةِ، لَسَارَتْ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ أَصْلَهَا، أَوْ قَعْرَهَا)

ثم علل سبحانه استحقاقه ذلك، على طريقة الاستئناف، بقوله:

{إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} المستحق للعظمة وحده، بل كان يشرك معه الجماد المهيمن.. جملة في موضع العلة للأمر بأخذه وإصلائه الجحيم.

ووصف الله بالعظيم هنا إيماء إلى مناسبة عظم العذاب للذنب إذ كان الذنب كفرانا بعظيم فكان جزاء وفاقا.

{وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} ولا يحث الناس في الدنيا على إطعام أهل الحاجة من المساكين وغيرهم، فضلاً عن بذله، لتناهي شحِّه.. وقد جعل عدم الحض على طعام المسكين مبالغة في شح هذا الشخص عن المساكين بمال غيره وكناية عن الشح عنهم بماله.

أي: لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته، ولا ينفع خلقه ويؤدي حقهم؛ فإن لله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا، وللعباد بعضهم على بعض حقّ الإحسان والمعاونة على البر والتقوى؛ ولهذا أمر الله بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقبض النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يقول: (الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [أبو داود وأحمد]

{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا} من ينقذه من عذاب الله {حَمِيمٌ} الحميم: القريب، وهو هنا كناية عن النصير إذ المتعارف عند العرب أن أنصار المرء هم عشيرته وقبيلته.

والمقصود منه أن يسمعه من أوتي كتابه بشماله فييأس من أن يجد مدافعا ويدفع عنه بشفاعة، وتنديم له على ما أضاعه في حياته من التزلف إلى الأصنام وسدنتها وتمويههم عليه أنه يجدهم عند الشدائد وإلمام المصائب. وهذا وجه تقييد نفي الحميم بـ {الْيَوْمَ} تعريضا بأن أحمائهم في الدنيا لا ينفعونهم اليوم كما قال تعالى: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22] وقوله عنهم: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} [لأعراف:53]

{وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} من غسالة أهل النار وصديدهم، عن ابن عباس قال: الغسلين: الدم والماء يسيل من لحومهم. وقال علي بن أبي طلحة عنه: الغسلين: صديد أهل النار.

{لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} الآثمون أصحاب الخطايا.. والتعريف للدلالة على الكمال في الوصف، أي المرتكبون أشد الخطأ وهو الإشراك.

 

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)

{فَلَا أُقْسِمُ} لا إما مزيدة للتأكيد، وتقوية الكلام، وقد عهدت زيادتها في كلامهم. وإما لا أقسم بتمامها صيغة من صيغ القسم، على ما ارتضاه بعض المحققين.

{بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} بالمشاهدات والمغيَّبات.. يقسم الله تعالى لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم كالروح والملائكة والجنة والنار.

وهذا القسم -كما قال الرازيّ- يعم جميع الأشياء على الشمول، لأنها لا تخرج من قسمين: مبصر وغير مبصر، فشمل الخالق والخلق، والدنيا والآخرة، والعالم العلويّ والسفليّ، وهكذا.

{إِنَّهُ} القرآن {لَقَوْلُ رَسُولٍ} محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كما يقتضيه عطف قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} [الحاقة:44]، وهذا كما وصف موسى بـ {رَسُولٍ كَرِيمٍ} في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان:17]. وقد أكد هذا المعنى بقوله عقبه: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

وفي لفظ {رَسُولٍ} إيذان بأن القول قول مرسله، يبلغه عن الله تعالى، لأن الرسول لا يبلغ عن نفسه.

{كَرِيمٍ} وصف الرسول بـ {كَرِيمٌ} لأنه الكريم في صنفه، أي النفيس الأفضل مثل قوله: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29] وقد أثبت للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الفضل على غيره من الرسل بوصف {كَرِيمٌ}.

{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} كما تزعمون، فإن بين أسلوبه وحقائقه، وبين وزن الشعر وخيالاته، بعد المشرقين.

{قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} تصدقون بما ظهر صدقه وبرهانه، عناداً وعتواً. والقلة كناية عن النفي والعدم.

{وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} كما تدعون أخرى بأنه من سجع الكهان {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} تتعظون وتعتبرون.

ونفى الإيمان في الأول، والذكرى في الثاني؛ لأن عدم مشابهة القرآن للشعر أمر بيّن بديهي، لا ينكره إلا معاند. إذ ليس فيه ما يشبه الشعر من اتزان أجزاءه في المتحرك والساكن والتقفية المتماثلة في جميع أواخر الأجزاء. فادعاؤهم أنه قول شاعر بهتان متعمد ولا عذر لقائله في ترك الإيمان، وهو أكفر من حمار.

وأما مباينته للكهانة، فيتوقف على تأمل؛ إذ قد يشبه في بادئ الرأي على السامع من حيث إنه كلام منثور مؤلف على فواصل وأسجاع مثناة متماثلة زوجين زوجين، ومعانيه ليست من معاني الكهانة الرامية إلى الإخبار عما يحدث لبعض الناس من أحداث، أو ما يلم بقوم من مصائب متوقعة ليحذروها، فيلتبس أمره على الحمقى لإخباره عن بعض المغيبات بكلام منثور، والكاهن يكذب كثيراً، ويأخذ جُعلاً.. فلذلك كان المخاطبون بالآية منتفيا عنهم التذكر والتدبر.

وإنما خص هذان الوصفان بالذكر «شاعر، وكاهن» دون قولهم: افتراه، أو هو مجنون، لأن الوصف بكريم كاف في نفي أن يكون كاذبا أو مجنونا إذ ليس المجنون ولا الكاذب بكريم، فأما الشاعر والكاهن فقد كانا معدودين عندهم من أهل الشرف.

و {قَلِيلاً} في قوله: {قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} مراد به انتفاء ذلك من أصله على طريقة التمليح القريب من التهكم كقوله: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:46]، وهو أسلوب عربي.. والمعنى: لا تؤمنون ولا تذكرون.

{تَنْزِيلٌ} منزل من رب العالمين على الرسول الكريم، ووصف بالمصدر للمبالغة.

{مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ممن رباهم بصنوف نعمه، ومنها ما نزله وأوحاه ليهتدوا به إلى سبل السعادة، ومناهج الفلاح. وهو تصريح بعد الكناية.

وعبر عن اسم الجلالة بوصف {رَبِّ الْعَالَمِينَ} دون اسمه العلم -الله- للتنبيه على أنه رب المخاطبين ورب الشعراء والكهان الذين كانوا بمحل التعظيم والإعجاب عندهم نظير قول موسى لفرعون {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:26].

 

وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)

{وَلَوْ تَقَوَّلَ} نسبة قول لمن لم يقله.. وهو تفعل من «القول» صيغت هذه الصيغة الدالة على التكلف لأن الذي ينسب إلى غيره قولا لم يقله يتكلف ويختلق ذلك الكلام.

{عَلَيْنَا} افترى علينا فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئا من عنده فنسبه إلينا.

{بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} تسمية الأقوال المفتراة: أقاويل تحقيراً لها، كأنها جمع أفعولة من القول، كالأضاحيك.

ومفاد هذه الجملة استدلال ثان على أن القرآن منزل من عند الله تعالى، وهو استدلال بما هو مقرر في الأذهان من أن الله واسع القدرة، وأنه عليم فلا يقدر أحدا على أن يقول عنه كلاما لم يقله، أي لو لم يكن القرآن منزل من عندنا ومحمد ادعى أنه منزل منا، لما أقررناه على ذلك، ولعجلنا بإهلاكه. ولذلك قال:

{لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} لأخذنا منه بالقوة منا والقدرة، أو لانتقمنا منه باليمين؛ لأنها أشد في البطش، أو لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه.

{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} عرق معلق به القلب ويسمى النياط، وهو الذي يسقي الجسد بالدم. وفي هذا تهويل لصورة الأخذ. وإنما يعني بذلك أنه كان يعاجله بالعقوبة، ولا يؤخّره بها.

قال الزمخشري: المعنى لو ادّعى علينا شيئاً لم نقله لقتلناه صبراً، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم، معالجة بالسخط والانتقام. فصوّر قتل الصبر بصورته ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده، وتضرب رقبته؛ وخص اليمين عن اليسار، لأن القاتل إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده، وأن يكفحه بالسيف، وهو أشد على المصبور، لنظره إلى السيف، أخذ بيمينه.

{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} وإن كان لفظه مفردا فهو في معنى الجمع، وهي من النكرات التي تستعمل منفية فيفيد العموم، أي كل واحد لا يستطيع الحجز عنه، قال تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] وقال: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32]. والمعنى: ما منكم أناس يستطيعون الحجز عنه.

{عَنْهُ حَاجِزِينَ} ففي تلك الحالة من أحوال التقول لو أخذنا منه باليمين فقطعنا منه الوتين، لا يستطيع أحد منكم أو من غيركم أن يحجز عنه ذلك العقاب.

 

وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

{وَإِنَّهُ} القرآن {لَتَذْكِرَةٌ} اسم مصدر «التذكير» وهو التنبيه إلى مغفول عنه. والمصدر للمبالغة في الوصف.

والمعنى: أنه مذكر للناس بما يغفلون عنه من العلم بالله وما يليق بجلاله لينتشلهم من هوة التمادي في الغفلة حتى يفوت الفوات، فالقرآن في ذاته تذكرة لمن يريد أن يتذكر سواء تذكر أم لم يتذكر، وقد تقدم تسمية القرآن بالذكر والتذكير في آيات عديدة منها قوله تعالى {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:3] وقوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [الحجر: 6]

{لِلْمُتَّقِينَ} لأنهم الذين أدركوا مزيته.. فهم عظة لمن يتقي عقاب الله بالإيمان به وحده، وما نزل من عنده.

لما أبطل طعنهم في القرآن بأنه قول شاعر، أو قول كاهن أعقب ببيان شرفه ونفعه، إمعانا في إبطال كلامهم بإظهار الفرق البين بينه وبين شعر الشعراء وزمزمة الكهان، إذ هو تذكرة وليس ما ألحقوه به من أقوال أولئك من التذكير في شيء.

{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} أي: مع هذا البيان والوضوح، سيوجد منكم من يكذب بالقرآن. إيثاراً للدنيا والهوى، فنجازيكم على إعراضكم.

{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ} الحسرة: الندم الشديد المتكرر على شيء فائت مرغوب فيه.

{عَلَى الْكَافِرِينَ} فالقرآن حسرة على الكافرين في الدنيا لأنه فضح ترهاتهم ونقض عماد دينهم الباطل وكشف حقارة أصنامهم، وهو حسرة عليهم في الآخرة لأنهم يجدون مخالفته سبب عذابهم، ويقفون على اليقين بأن ما كان يدعوهم إليه هو سبب النجاح لو اتبعوه لاسيما وقد رأوا حسن عاقبة الذين صدقوا به من المؤمنين.

{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} الخبر الصدق الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ولا ريب.

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن يسبح الله تسبيح ثناء وتعظيم شكرا له على ما أنعم به عليه من نعمة الرسالة وإنزال هذا القرآن عليه.

وتسبيح المنعم بالاعتقاد والقول، وهما مستطاع شكر الشاكرين، إذ لا يبلغ إلى شكره بأقصى من ذلك.. قال ابن عطية: وفي ضمن ذلك استمرار النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أداء رسالته وإبلاغها. وروي أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لما نزلت هذه الآية: (اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ) [أبو داود] .

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

 

 

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز