كيف تنطق بالحكمة؟
إن الحكمة كلمات موجزة ذات معنى عميق، وهي تتجاوز حاجز الزمن، وحواجز المكان، وتلامس الإنسان والمجتمع، وتسير في إهاب من المسؤولية والتواضع، معرضة عن حاضر اللحظة، ناظرة إلى ما بعدها؛ وذلكم من أسرار الذيوع والخلود.
لو وقفت الرسائل اليومية المتداولة عبر وسائل التواصل في صف لما وسعتها الأرض من كثرتها على اختلاف أنواعها ومحتواها، الذي يرتقي أحيانًا ويسمج أخرى، على حسب المرسل والمناسبة وسبب اجتماع المرسل إليهم، وغير ذلك. وقد ألقيت على أعضاء مجموعة وتسية أتفاعل معها -وهم كرام قلة- سؤالًا بعد ورود رسالة من أحدهم فيها محتوى مرئي مليء بالحكمة، ونصّ السؤال: كيف ننطق بالحكمة؟ هذا المقال سوف يستعرض أبرز الطرق جوابًا عن هذا السؤال، وهو جواب تشاركي بينهم وبين راقمه.
فمن البدهي أن من وعى الحكمة سوف ينطق بها أو يكاد، وما أسعد من أوتي الحكمة بما فيها من جواهر ودرر، ولا شك بأن رأس الحكمة يكمن في طاعة المولى سبحانه وخشيته. ولأهمية نيل الحكمة حرصت العرب على أن تروي أبناءها الشعر والخطب والأمثال، واهتمت الأسر العريقة بفتح المجالس، واستضافة النبلاء والحكماء، وتعاظمت الوصية بكل ما من شأنه تحصيل حكمة، أو نشرها، أو صناعتها.
هذا الوعي المأمول بالحكمة يحصل للمرء بأمور منها -على تداخل بينها-:
القراءة، وكلما ارتقى مقروء الإنسان ارتفعت حكمته المستودعة في عقله، والظاهرة عبر قلمه أو لسانه. وإذا كانت الكتابة قابلة للتعلم بمحاكاة ما كتبه الآخرون عقب صياغتها بألفاظنا؛ فمثلها الحكمة يمكن أن يعاد إنتاجها بما يتوافق والقائل الجديد، والمحيط به، والحال الذي يعيشه. ولست بحاجة للتأكيد على أن القرآن العظيم، ثم السنة النبوية المطهرة، هما منبع الحكم الخالصة الصائبة التي لا يدانيها شيء.
السماع، وبابه واسع، ومما قد يهمل الاستماع لكبار السن ومن لا يؤبه لهم بسبب الفقر أو المظهر أو نقص الفصاحة؛ فكم لدى الشيخ الأشمط، والعجوز الهرم، والحرفي، والأشعث الأغبر، ومن عركته الدنيا، والعيي، والفقير، من تجارب يقود سماعها إلى حكمة خالدة.
تتبع التجارب، وقد تكون شخصية للمرء نفسه، أو لآخرين مبثوثة في السير والتاريخ، أو جماعية مشتهرة لجيل أو بلاد أو أمم أو حضارات. هذه التجارب جمعت في أمثال البلدان والشعوب والحضارات وتاريخها، وما أكثر ما تكتنزه من دلائل وإشارات.
المعايشة والصحبة، للناس أو للأحداث أو الأحوال، فكم من ملازمة أو رحلة أو رفقة أو صداقة أو حوادث تصقل المرء وتنقله من حال الغفلة أو الذهول أو الاقتناع بشيء، إلى فيوض من الحكمة والتعقل الذي يطرب له السامع، ويأسر القارئ.
إعمال الخيال والتصور، ولا شيء يمنع من ذلك البتة، وهذا الخيال أو التصور هو فعل استباقي يجعل الإنسان حاضر البديهة وعلى استعداد لأي مفاجأة. يعتمد الخيال إما على النشاط الذهني للفرد، أو على تجهيز النفس لما ستلاقيه حتمًا أو على الأغلب، وهذا سيفتح الباب على مصراعيه لصناعة الحكمة، وتجهيز الأجوبة المسكتة.
محاولة فهم النفس البشرية، فسلوك الأنفس من أعجب ما يقابلنا في حياتنا، وما أصعب التفسير إلّا على مسدّد تدارس علومًا عدة، وله في هذا الباب إلهام ومشاركات.
الحرص على معرفة طبائع المجتمعات والأجيال، وهذا باب عزيز من علم الاجتماع، ومن أمسك بخيوطه فاق أقرانه فيما يقوله أو يشير إليه.
النظر في مسالك أصحاب المهن والحرف والصناعات والأعمال، ومثله التبصر بأحوال الأمم المخلوقة الأخرى غير البشر، سواء التي نراها ونعلم عنها، أو تلك المغيبة عن شهودنا لها، فكم فيها من معتبر يعين على بناء نماذج من الحكمة الخالدة.
إدامة النظر في سنن الله بالكون والناس، وفي فطرته التي فطر الناس عليها، فهي منفذ أكيد للحكمة المتصلة بالسماء، وأي شيء أشرف وأسمى وأجل؟
تعميق الصلة باللغة والأدب وما فيهما؛ ذلك أن الحكمة مستودعة بهما، وأن منطوق الحكمة لا مناص له من المرور عليهما، فهما مصدر من جهة، وأداة من جهة أخرى، ولا مفر منهما لمن ابتغى قطع هذا الدرب الحكيم.
التأمل والتفكير إن فيما سلف من مقروء أو مسموع أو تجربة أو معايشة أو خيال وتصور أو فهم، أو في غيرها. إن التفكير وتقليب المسألة يلين للواحد قيادها؛ حتى يصيغها بأفضل معنى وأجمل عبارة.
اعتماد منهج الاختصار والاقتصاد اللغوي؛ فهذه الطريقة سوف تدفع “الحكيم” إلى جمع شتات العبارة والرأي في أقل عدد من الكلمات مع منحها شيئًا من الرونق والبهاء. إن جوامع الكلم هبة ربانية منحت للنبي الأكرم -عليه الصلاة والسلام-، لكنها لم تحجب كلية عن غيره، والموفق من احتشد لها، والأكثر توفيقًا من سك مصطلحًا أو عبارة لم يسبق إليها.
ثمّ قبل أن تصدر عنك حكمتك، راجعها، تأكد منها، اجعل ألفاظها من مادة لسانك وقلمك، واجعل نَفَسها ملائمًا لعصرك، وروحها متوافقًا مع ثقافتك وأصولك. هذه العمليات بما فيها من إضافة وحذف وتحوير واختصار لا تنفي نسبة الفضل لأهله ولو بإجمال، وهو معروف ومتوقع ولا نكير فيه حتى بدون اعتراف؛ ولذلك بالغ نقاد في البحث عما يرونه “سرقات” أدبية لأدباء أكابر مثل “المتنبي”، وبعضها وقع حافر على حافر، وبعضها نتيجة مدخلات كثيرة، ولا يمنع أن يكون أبو الطيب قد أجرى إبداعه البارع على شيء من إنتاج غيره؛ فهذه سنة مطروقة معهودة.
كما يناسب أن تكون ألفاظ الحكمة بعيدة عن التكلف، ومفهومة لدى أهل العصر، خالية من الاستعلاء المعرفي، سليمة من الحشو أو الزيادة التي قد تفسدها؛ فالعبارة الحكيمة قصيرة غالبًا، تشبه المعدن النفيس، الذي تزداد قيمته بتنقيته من الشوائب أو مما ليس من مادته. والحكمة كذلك رأي واستشراف، وليست معلومة أو ثقافة مجردة، فهي مرآة كاشفة عن زوايا خفية أو بعيدة، لا مرآة تنقل ما تشاهده أمامها فقط. إن الحكمة كلمات موجزة ذات معنى عميق، وهي تتجاوز حاجز الزمن، وحواجز المكان، وتلامس الإنسان والمجتمع، وتسير في إهاب من المسؤولية والتواضع، معرضة عن حاضر اللحظة، ناظرة إلى ما بعدها؛ وذلكم من أسرار الذيوع والخلود.
- التصنيف: