لولا بنو إسرائيل
«لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزْ اللَّحْمُ، وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ»
{بسم الله الرحمن الرحيم }
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزْ اللَّحْمُ، وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ»
وفي رواية مسلم: «(لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْبُثْ الطَّعَامُ، وَلَمْ يَخْنَزْ اللَّحْمُ، وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ)»
وهذا حديث صحيح، لا مطعن فيه؛ تلقاه أهل العلم بالقبول، وأوردوه في مصنفاتهم، من غير نكير بينهم .
قوله (لولا بنو إسرائيل) هم أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل -عليهم الصلاة والسلام.
قال الملا علي القاري -رحمه الله-: "(لولا بنو إسرائيل) أي: في زمن موسى عليه الصلاة والسلام".. أي: لولا عقوبة الله لهم، أو لولا معاصيهم.
«(لم يَخْبُثِ الطعام) » أي: لم يتغير ريحه وطعمه.. قال العلماء: أنَّ بني إسرائيل لما أنزل الله عليهم المنَّ والسلوى نُهوا عن ادخارهما، فادَّخَروا، ففسد وأَنْتَنَ، واستمر من ذلك الوقت، والله أعلم.
كما قال في كتابه: {{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}} [البقرة:57] فكان المنُّ يسقط عليهم في مجالسهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، كسقوط البلح، فيؤخذ منه بقدر ما يكفي ذلك اليوم، إلا يوم الجمعة فيأخذون منه للجمعة والسبت، فإن تَعَدَّوا إلى أكثر من ذلك فسد.
قال قَتَادَةَ: كَانَ السَّلْوَى مِنْ طَيْرٍ إِلَى الْحُمْرَةِ يَحْشُرُهَا عَلَيْهِمُ الرِّيحُ الْجَنُوبُ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَذْبَحُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يَكْفِيهِ يَوْمَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا تَعَدَّى، فَسَدَ وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يوم سادسه، ليوم جَمَعْتُهُ، أَخَذَ مَا يَكْفِيهِ لِيَوْمِ سَادِسِهِ وَيَوْمِ سَابِعِهِ؛ لأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ عِبَادَةٍ لَا يَشْخَصُ فِيهِ لِشَيْءٍ وَلا يَطْلُبُهُ.
وروى أبو نعيم في «الحلية» عن وهب بن منبه قال: وجدت في بعض الكتب عن الله تعالى: لولا أني كتبت النتن على الميت لحَبَسَه أهله في بيوتهم، ولولا أني كتبت الفساد على الطعام لخزنه الأغنياء عن الفقراء.
«(ولم يَخْنَزِ اللحم)» : يقال: خَنِزَ اللحم يَخْنَز: إذا أنتن وتغيَّر.
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: المراد أن بني إسرائيل لما نهوا أن يدخروا فخالفوا، فسد اللحم، واطَّردت الحال فيه عند كل مدخر.
فلم يكن اللحم يخنز كالحب حتى مُنع بنو إسرائيل عن ادخاره فلم ينتهوا عنه، فأسرع الخنز إلى ما ادخروا؛ عقوبة لهم.
وهو الادخار الناشئ من عدم الثقة بالله، قال الله تعالى -جل شأنه-: {{إِنَّ اللهَ لَاْ يُغَيِّرُ مَاْ بِقَوْمٍ حَتَّىْ يُغَيِّرُوْا مَاْ بِأَنْفُسِهِمْ}} [الرعد:11]، ثم استمر النتن من ذلك الوقت؛ لأن البادئ للشيء كالحامل للغير على الإتيان به، أو لأن يعْتَبِر غيرهم بهم؛ فيتركوا المخالفة، قال تعالى: { {فَاعْتَبِرُوْا يَاْ أُوْلِي الْأَبْصَار} } [الحشر:2]
فالحديث نص على أن فساد اللحم المعروف، قدّره الله تعالى بسبب عصيان حصل من بني إسرائيل بأن أُمِروا ألا يدخروا، بل يأخذون من ذلك قدر حاجتهم؛ فعصوا وخالفوا، فقضى الله تعالى -منذ ذلك الحين- بسرعة الفساد إلى اللحم، على ما هو معروف بين الناس.
وقال الشيخ ابن جبرين -رحمه الله-: في هذه الأزمنة قرأت لبعضهم إنكارًا لبعض الأحاديث، كقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لولا بني إسرائيل لم يخنز اللحم» أي: لم ينتن، يعني: أنهم لما أعطاهم الله تعالى السلوى صاروا يدخرون لغدٍ ولبَعْدِ غدٍ، فصار اللحم ينتن، نقول: وما المانع من ذلك؟ وإن كانت طبيعة اللحم أنه إذا تأخر يتغير، لكن قد يجعل الله له ما يكافحه، وما يزيل عنه ذلك النتن... والحاصل أننا لا نلتفت إلى هؤلاء الذين يطعنون في الأحاديث لمجرد عرضها على العقل.
قوله: «(ولولا حواء لم تَخُن أنثى زوجها الدهر)»
قال النووي -رحمه الله-: أي: لم تخنه أبدًا، وحواء: بالمد، روينا عن ابن عباس قال: سُمِّيت حواء؛ لأنها أم كل حيٍّ، قيل: إنها ولدت لآدم أربعين ولدًا في عشرين بطنًا، في كل بطن ذكر وأنثى".
وفي الكلام مضاف محذوف، والتقدير: لولا خيانة حواء لآدم
وقوله: (الدهر) أي: لم تخنه أبدًا. .
فالخيانة هنا: المقصود بها عدم الإخلاص في النصح، وليس الخيانة في الفراش، فهذه غير مقصودة من الحديث أصلا، فالعقل يدل على استحالة وقوع هذا النوع من الخيانة من حواء؛ لأنها لم يكن معها من البشر إلا آدم عليه السلام.
وقد وردت روايات توضّح السبب الذي عوتبت عليه حواء، وهي عدم نصحها لآدم عليه السلام حين دعته للأكل من الشجرة وزيّنت له هذا الأمر.
فعَنْ أُبَيّ بْن كَعْبٍ، قَالَ: "إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ: أَيْ بَنِيَّ إِنِّي أَشْتَهِي مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَذَهَبُوا يَطْلُبُونَ لَهُ، فَاسْتَقْبَلَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَمَعَهُمْ أَكْفَانُهُ وَحَنُوطُهُ، وَمَعَهُمُ الْفُؤُوسُ وَالْمَسَاحِي وَالْمَكَاتِلُ، فَقَالُوا لَهُمْ: يَا بَنِي آدَمَ، مَا تُرِيدُونَ وَمَا تَطْلُبُونَ، أَوْ مَا تُرِيدُونَ وَأَيْنَ تَذْهَبُونَ؟، قَالُوا: أَبُونَا مَرِيضٌ فَاشْتَهَى مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، قَالُوا لَهُمْ: ارْجِعُوا فَقَدْ قُضِيَ قَضَاءُ أَبِيكُمْ. فَجَاءُوا، فَلَمَّا رَأَتْهُمْ حَوَّاءُ عَرَفَتْهُمْ، فَلَاذَتْ بِآدَمَ، فَقَالَ: إِلَيْكِ عَنِّي فَإِنِّي إِنَّمَا أُوتِيتُ مِنْ قِبَلِكِ، خَلِّي بَيْنِي وَبَيْنَ مَلَائِكَةِ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى
[رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند، ورواه الحاكم في "المستدرك"، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"؛ حيث قال: "وجملة القول: أن الحديث عن أبيّ صحيح مرفوعا وموقوفا"] انتهى.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: "لَمَّا أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ عَصَيْتَنِي؟ قَالَ: رَبِّ زَيَّنَتْ لِي حَوَّاءُ. قَالَ: فَإِنِّي أَعْقَبْتُهَا أَنْ لَا تَحْمِلَ إِلَّا كَرْهًا وَلَا تَضَعَ إِلَّا كَرْهًا وَدَمَيْتُهَا فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ. فَلَمَّا سَمِعَتْ حَوَّاءُ ذَلِكَ رَنَّتْ [صاحت] فَقَالَ لَهَا: عَلَيْكِ الرَّنَّةُ وَعَلَى بَنَاتِكِ" [رواه الحاكم في "المستدرك"، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ"، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في " فتح الباري"]
قال القاضي عياض -رحمه الله-: قوله: (لولا حواء لم تخن أنثى زوجها) يعني: أنها أمُّهن فأَشْبَهْنَهَا بالولادة ونزع العرق؛ لما جرى لها في قصة الشجرة مع إبليس، وأن إبليس إنما بدأ بحواء فأغواها وزين لها، حتى جعلها تأكل من الشجرة، ثم أتت آدم فقالت: له مثل ذلك حتى أكل أيضًا هو.
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-: قيل: إن خيانتها لزوجها: أنها لما رأت آدم قد عزم على الأكل من الشجرة تركت نصحه في النهي له؛ لأن ذلك كان ترك النصح له خيانة؛ فعلى هذا كل من رأى أخاه المؤمن على سبيل ذلك، فترك نصحه بالنهي عن ذلك النهي فقد خانه، ولا يخرج هذا من تسمية الخائنين.. قال تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنِينَ}} [الأنفال:58]، اللهم إلا أن يسكت تقية، فذلك له حكم تعلق به.
فلما خانت حواء زوجها اطَّردت الحال في بناتها.. أي لولا أن حواء خانت آدم في إغرائه، وتحريضه على مخالفة الأمر بتناول الشجرة، وسنَّت هذه السُّنة؛ لما سلكتها أنثى مع زوجها، فإن البادئ بالشيء كالسبب الحامل لغيره على الإتيان به، والاقتداء عليه.
وقال العراقي -رحمه الله-: ليس المراد خيانة في فراش، فإن ذلك لم يقع لامرأة نبي قط، حتى ولا امرأة نوح، ولا امرأة لوط الكافرتان، فإن خيانة الأولى إنما هو بإخبارها الناس أنه مجنون، وخيانة الثانية بدلالتها على الضيف كما ذكره المفسرون.
وقال ابن حجر -رحمه الله-: ليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش، حاشا وكلا، ولكن لَمَّا مالت إلى شهوة النفس مِن أكل الشجرة، وحسَّنت ذلك لآدم عُدَّ ذلك خيانة له، وأما من جاء بعدها من النساء فخيانة كل واحدة منهن بحسبها، وقريب من هذا حديث: (جَحَدَ آدم فجحدت ذريته)
فحيث زيَّنت لزوجها آدم -عليه السلام- الأكل من الشجرة، سرى في أولادها مثل ذلك، فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها بالفعل أو القول.
فأحسنُ ما يحمل عليه الحديث: أنَّ حواء -عليها السلام- قيل: إنها حسَّنت له الأكل من الشجرة حين وسوس لهما الشيطان، فاجتمع على آدم تغرير الشيطان وتسويله، وتحسين زوجته له، فوقع الأكل، ولكن تاب الله عليهما حين تابا وندما...، ومضمون ذلك: أنَّ الواجب على المرأة أن يكون زوجها عندها محترمًا احترامًا حقيقيًّا، وتبني أمرها معه على الصدق والصراحة، وعدم الخيانة، ولكن وقعت حواء، فوقعت بناتها.
وقال الأصبهاني -رحمه الله-: فيه: دليل أن الأمور صائرة إلى ما قضاهُ الله وقدَّره، واللوم لاحق بالمسيء.
وقال ابن حجر -رحمه الله-: في الحديث: إشارة إلى تسلية الرجال فيما يقع لهم من نسائهم بما وقع من أُمِّهن الكبرى، وأن ذلك من طبعهن، فلا يفرط في لوم من وقع منها شيء من غير قصد إليه، أو على سبيل الندور، وينبغي لهن ألا يتمكنَّ بهذا في الاسترسال في هذا النوع، بل يضبطن أنفسهن، ويجاهدن هواهن، والله المستعان.
وقال الكشميري -رحمه الله-: فيه: دليلٌ على أن من سَنَّ سنَّةً سيئةً فإنها تتسلسل وتلزم، كقابيل؛ فإنه قَتَل أخاه، فظهر شُؤْمه في سِبْطِهِ السابع، فكانت الدنيا على صرافتها خاليةً عن المعاصي، فجاء شقيٌّ وسَنَّ معصيةً، ثم تسلسلت، وهكذا إلى أن امتلأت ظلمًا وجَوْرًا، وهذا معنى قوله: «لولا بنو إسرائيل لم يَخْنَزِ اللَّحْمُ، ولولا حواء لم تَخُنْ أنثى زوجها» أي: ظهرت معصيةٌ من أحدٍ على وجه الأرض، ثم تسلسلت، وبقيَ أثرُها. .
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-: في فوائده على هذا الحديث:
منها: بيان ما جُبلت عليه النساء من خيانة أزواجهن.
ومنها: بيان ما جَعل الله -عزَّ وجلَّ- في بني آدم من افتتان بعضهم ببعض، كما قال تعالى: { {وَجَعَلنَا بَعضَكُم لِبَعض فِتنَةً أَتَصبِرُونَ}} [الفرقان:20]
وقال ابن هبيرة -رحمه الله- في الحديث من الفقه: أنَّ الله سبحانه إذا أَدَرَّ رزقًا، وأنزل خيرًا، فإنه ينبغي للمُدَرِّ عليه أنْ يكون غير مرتاب بأنَّ الله سبحانه لا يجوز عليه البخل، ولا يقطع ذلك الإمداد إلا لحكمة، فلا يدَّخِر مما أنعم به عليه، كالمنِّ والسلوى الذي كان يأتي كل يوم إلى بني إسرائيل...، فإنَّ ادخاره دليلٌ على ارتياب حُسن نيته مع ربه -عز وجل-... وعلى هذا فإنَّ ما أنعم الله به مساقاةً كالحبوب والثمار، فإنه لم يأتِ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه ادخر من ذلك أكثر من قُوت عام؛ من جهة أنَّ درور ذلك في كل عام، وإنَّما فسد الطعام على بني إسرائيل؛ لأنهم ادخروا من ذلك أكثر من قوت.
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-: قد وقع (أي: مِن قولِ: لولا) من ذلك مواضع كثيرة في الكتاب والسنة، وكلام السلف...، كقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر، ولولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام، ولم يخنز اللحم»، فأما قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصحيح: « (لا يقولن أحدكم: لو؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان) » فمحمول على من يقول ذلك معتمدًا على الأسباب، مُعْرِضًا عن المقدور، أو متضجرًا منه، كما حكاه الله تعالى من قول المنافقين، حيث قالوا: {{لَو أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ}} [آل عمران:168]، ثم رد الله قولهم، وبين لهم عجزهم، فقال: {قُل فَادرَؤواْ عَن أَنفُسِكُمُ المَوتَ إِن كُنتُم صَادِقِينَ}، فالواجب عند وقوع المقدور التسليم لأمر الله، وترك الاعتراض على الله، والإعراض عن الالتفات إلى ما فات، فيجوز النطق بـ "لو" عند السلامة من تلك الآفات، والله تعالى أعلم
وقال النووي -رحمه الله-: (لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها) فلا معارضة بين هذا وبين حديث النهي عن "لو" وقد قال الله تعالى: {{قُل لَّو كُنتُم فِي بُيُوتِكُم لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ القَتلُ إِلَى مَضَاجِعِهِم}} [عمران:154]؛ لأن الله تعالى مخبِر في كل ذلك عما مضى، أو يأتي عن علمٍ، خبرًا قطعيًّا، وكل ما يكون من "لو" و"لولا" مما يخبر به الإنسان عن علة امتناعه من فعله مما يكون فعله في قدرته فلا كراهة فيه؛ لأنه إخبارٌ حقيقة عن امتناع شيء لسبب شيء، وحصول شيء لامتناع شيء، وتأتي "لو" غالبًا لبيان السبب الموجِب أو النافي، فلا كراهة في كل ما كان من هذا، إلا أن يكون كاذبًا في ذلك، كقول المنافقين: {{لَو نَعلَمُ قِتَالا لَّاتَّبَعنَاكُم}} [آل عمران:167] والله أعلم
وهل ثبت أن الله سبحانه وتعالى عاقب حواء عليها السلام بسبب الأكل من الشجرة؟ فقد قيل "إنها لما أكلت من شجرة التين، قال الله تعالى (وعزتي لأدمينك في كل شهر مرة)، يقصد الحيض.
لكن لم يثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-شيء يدل على هذا، وثبت من قول ابن عباس رضي الله عنه، وهو من الإسرائيليات التي لا نصدقها ولا نكذبها.
فروى الطبري في "تفسيره"، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي، والخرائطي في "اعتلال القلوب"، وابن أبي الدنيا في "العقوبات" كلهم عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنهما، قال: "لَمَّا أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ عَصَيْتَنِي؟) قَالَ: رَبِّ زَيَّنَتْ لِي حَوَّاءُ. قَالَ: (فَإِنِّي أَعْقَبْتُهَا أَنْ لَا تَحْمِلَ إِلَّا كَرْهًا، وَلَا تَضَعَ إِلَّا كَرْهًا، وَدَميْتُهَا فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ) فَلَمَّا سَمِعَتْ حَوَّاءُ ذَلِكَ رَنَّتْ، فَقَالَ لَهَا: (عَلَيْكِ الرَّنَّةُ وَعَلَى بَنَاتِكِ).
وهذا الأثر صححه الحاكم في المستدرك. وقال الحافظ في "المطالب العالية" هذا موقوفٌ صحيح الإسناد".
وقال في «فتح الباري»: روى الحاكم وابن المنذر - بإسنادٍ صحيحٍ -، عن ابن عبَّاس: أنَّ ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن أُهبطت من الجنة".
وهذا القول الثابت عن ابن عباس، مما يغلب على الظن أنه أخذه واستفاده من أهل الكتاب، ولذا فلا يظهر أن يكون حجةً، مع ذلك الاحتمال الظاهر، أو غلبة الظن به؛ وليس هو بقول المعصوم، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
ولعله مما يقوي احتمال تلقي ابن عباس له عن أهل الكتاب، أنا نجد قريبا من معناه في التوراة، كما في سفر التكوين، ورواية ابن عباس لهذا الأثر لا يلزم منها قبوله وتصديقه، فهو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يرويه بناء على الإذن النبوي في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ)» [البخاري] وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ، وَلا تُكَذِّبُوهُمْ)» [البخاري]
والذي جاء في شرعنا أن الله تاب على آدم وحواء، وغفر لهم هذه الخطيئة: {{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}} [الأعراف:23]
قال السعدي رحمه الله: " أي: قد فعلنا الذنب، الذي نهيتنا عنه، وأضررنا أنفسنا باقتراف الذنب، وقد فعلنا سبب الخسار إن لم تغفر لنا، بمحو أثر الذنب وعقوبته، وترحمنا بقبول التوبة والمعافاة من أمثال هذه الخطايا، فغفر الله لهما ذلك" [تفسير السعدي]
وأما الحيض، فشيء كتبه الله على بنات آدم عليه السلام، كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ)» [البخاري، ومسلم]
وهو يفيد بظاهره: أنه مما قدر الله بحكمته وعلمه، وليس هو من جنس العقوبات، كتلك التي كتبها على بني إسرائيل من الإصر والتشديد عقوبة لهم على بغيهم وظلمهم.
قال ابن بطَّال: "هذا الحديث يدُلُّ على أنَّ الحيض مكتوب على بنات آدم فمَن بعدهنَّ من البنات، كما قال، وهو من أصل خلقتهنَّ الذي فيه صلاحهنَّ" انتهى
وفي سنن الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ فَقَالَ: رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا قُضِيَ عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ المَوْتِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ قَالَ: فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنُسِّيَ آدَمُ فَنُسِّيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ)» «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
قوله (لما خلق الله آدم) انتَهى مِن خِلْقتِه، ونفَخ فيه الرُّوحَ (مسح ظهره) ظهْرَ آدمَ (فسقط) خرَج (من ظهره) وفي نسخة صحيحة (عن ظهره) ومن بيانية. وفي هذا الحديث دليل بين على أن إخراج الذرية كان حقيقيا (كل نسمة) هي كلُّ ذي رُوحٍ ونفْسٍ، وهم ذُرِّيَّةُ آدمَ، وقيل: كل ذي نفس مأخوذة من النسيم (هو خالقها من ذريته) صفة نسمة ذكرها ليتعلق بها قوله (إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان) في موضِعِ جَبهتِه، وفيه إيذان بأن الذرية كانت على صورة الإنسان على مقدار الذر (وبيصا) بريقا ولمعانا (من نور) إشارةً إلى الفِطرةِ السَّليمةِ (ثم عرضهم على آدم، فقال أي رب، من هؤلاء؟ قال) سبحانه وتعالى: هم (ذريتك) نَسْلُكَ الَّذين سيَجيئون مِن بَعدِك (فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، قال) بغير الفاء (أي رب! من هذا؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ) إشارةٌ إلى كَثْرةِ الأُممِ (يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ) وتخصيص التعجب من وبيص داود إظهار لكرامته، ومدح له، فلا يلزم تفضيله على سائر الأنبياء؛ لأن المفضول قد يكون له مزية، بل مزايا ليست في الفاضل، ولعل وجه الملاءمة بينهما اشتراك نسبة الخلافة (فقال: رب) وفي نسخة صحيحة: أي رب (كم جعلت عُمْرَهُ؟) كم سنة جعلت عمره (قال: ستين سنة. قال: رب زده من عمري) من جملة الألف (أربعين سنة)
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فلما انقضى عمر آدم) انتَهى وجاء أجَلُه، بعدَ نَقْصِ ما وهَبَه لداودَ (إلا أربعين) سنة (جاءه ملك الموت) لِيَقبِضَ روحَه (فقال آدم: أولم يَبقَ، من عمري أربعون سنة؟!) استفهام إنكاري (قال: أولم تعطها) أتقول ذلك، ولم تعطها أي: الأربعين (ابنك داود؟! فجحد آدم) أنكَر آدَمُ، وفيه: إشارةٌ إلى أنَّ آدَم عليه السَّلامُ لم يَتذكَّرْ سَريعًا ما نَسِيَه، بل رُبَّما ظهَر منه ما يُنكِرُ ما يُذكِّرُه به الملَكُ، ذلك لأنه كان في عالم الذر فلم يستحضره حالة مجيء ملك الموت له (فجحدت ذريته) فأنكَرَت مِثلَه ذُرِّيَّتُه مِن بَعدِه، لأن الولد سر أو تابع أبيه (ونسي آدم) إشارة إلى أن الجحد كان نسيانا أيضا إذ لا يجوز جحده عنادا (وأكل من الشجرة) قيل: نسي أن النهي عن جنس الشجرة، أو الشجرة بعينها فأكل من غير المعينة، وكان النهي عن الجنس، والله أعلم (فنسيت ذريته) بمِثلِ ما نَسِيَ آدَمُ عليه السَّلامُ، ولذا قيل: أول الناس أول الناسي (وخطأ) في اجتهاد من جهة التعيين، والتخصيص، أو عَصى ربَّه لَمَّا نَهاه عن الأَكلِ مِن الشَّجرةِ (وخطأت ذريته) والأظهر أن خطأ بمعنى عصى؛ لقوله تعالى {وعصى آدم ربه} ولقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كلكم خطاءون، وخير الخطائين التوابون).
قال الطيبي: وفي الحديث إشارة إلى ما نقله الشيخان: يهرم ابن آدم ويشب فيه اثنان: الحرص على المال، والحرص على العمر، وابن آدم وارد على سبيل الاستطراد، وابن آدم مجبول من أصل خلقته على الجحد والنسيان، والخطأ إلا من عصمه الله.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: