العادات المرذولة بربط مواسم الطاعة بالأصناف المأكولة
منذ 2004-11-05
جاء الإسلام لمحاربة التقاليد الخاطئة وتصحيح المفاهيم التي تتعلق بعلاقة الإنسان بربه. فقد جاء الإسلام ليضرب وبشدة على جميع أنواع العبوديات سواء المادية أو الحسية التي يتعبد بها الناس لغير الله سبحانه وتعالى. فبالإضافة إلى عبودية الأصنام التي حاربها الإسلام، وهي أكبر أنواع العبوديات لغير الله ولا شك، كان هناك كذلك العبودية للعرف السائد في المجتمع وما ورثه أفراده من الآباء والأجداد، والعبودية للهوى.
فقد كانت العبودية للعرف السائد في البيئة - وهو الميراث الضخم والمتراكم الذي ورثه أفراد المجتمع من آبائهم وأجدادهم - تشكل مظهرا قويا في حياة المجتمع. فكانت بمثابة عبودية قوية وواضحة تقف مقابل عبوديتهم لله، بل وتصرفهم عنها. قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ َلا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وََلا يَهْتَدُونَ } [البقرة:170]. وكذلك هو الشأن في كل من عرف حكما من أحكام الدين ثم تعلل بعدم تنفيذه لضغوط الأعراف السائدة حاليا، أو لعدم إرادة أن يُغضب أحدا منه، أو لغير ذلك من الأسباب.
كما أن الهوى يقف بمثابة إله يتعبده الناس في كل جاهلية وفي غياب العلم الشرعي.
{ أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية:23].
وكذلك هو الحال في كل من عرف حكما من أحكام الدين ثم تراجع عن تنفيذه إيثارا لهواه وشهوة نفسه، واستحبابه لأمر معين بناء على رأي نفسه.
ومن عجب أن الدين الذي جاء لمحاربة الموروثات الخاطئة، في ظل عدم تمسك معتنقيه بتكاليفه الشرعية، وفي ظل تقاعسهم عن تلقي العلم الشرعي، وبتزيين كبير من أعدائه المتربصين به - من عجب أن هذا الدين قد نبتت في تربته عادات مرذولة جاءت لتغير ولتضعف العقيدة والفكر والتصور، وترسخت جذورها بحيث أصبح وكأن من شبه المستحيل تغييرها أو تصحيحها أو التخلي عنها.
وسوف أُقصر الحديث هنا على العادات الخاطئة التي اعتاد الناس على فعلها في مواسم الطاعات، التي حث الدين أساسا على استغلالها في التقرب بأنواع العبادات المختلفة. ولكن بدلا من ذلك فقد تحولت هذه المواسم إلى عادات اجتماعية تراثية، تكاد تختفي الشعائر الدينية من طياتها. وبداية لا أعرف شعبا ربط بين مناسباته الدينية وبين الأكل مثلنا. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة.
فبداية السنة الهجرية أصبحت عيدا يسمى رأس السنة الهجرية، ويحتفلون فيه بعمل الأرز باللبن حتى تكون السنة الجديدة " بيضاء " أو سعيدة. دعك بالطبع عما يُحكى للعامة في هذا اليوم من قصة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما لم يحدث في هذا اليوم أصلا، وإنما أغلب المؤرخين على أنها قد حدثت في شهر ربيع الأول.
ومع بداية شهر رمضان المبارك تجد حركة غير مسبوقة " للعزومات " التي لم تحدث طوال السنة بأكملها، وإنما أصبحت من طقوس هذا الشهر الفضيل، والتي ما أنزل الله بها من سلطان. فجميع أفراد الأسرة يتبادلون الزيارات على الإفطار، وتحفل الموائد بما لذ وطاب من ألوان الطعام والشراب. فإذا ما أفطر المرء يبدأ رحلة الأكل المكثفة، فلا يستطيع حراكا بعدها، ولا صلاة قيام ولا تهجد. وبذلك فإنه يكون قد أضاع بفعله هذا المعنى الذي تريد أن ترسخه الشريعة داخله من إحساس بآلام الفقراء ومعاناتهم.
وتأتي المطاعم والنوادي لتشارك الأسر في هذه الطقوس ، فتمتلئ الصحف بالإعلانات عن مآدب الإفطار والسحور، وعلى أنغام الموسيقى الصاخبة، أو في حضور الراقصات الماهرة!!! ومن الغريب أن الأسر التي لم تهتم طوال السنة كلها بأن تأكل في مكان ما خارج البيت، تصبح شديدة الحرص على حضور إحدى هذه الاحتفالات، بل ويصبح عدم حضورها نذير شؤم ومصدر قلق للأسرة!
ثم يأتي عيد الفطر فيحتفلون فيه بأكل الكعك والبسكويت، والذي تبدأ حركة الإعداد له وتجهيزه منذ آخر شهر رمضان! فترى في نهاية شهر رمضان حركة دائبة في البيوت أوفي الأفران لعمل " صواني " الكعك وأخواته. وبدلا من التفرغ في العشر الأواخر من هذا الشهر الكريم للعبادة والتقرب إلى الله بكل ما أمكن من أنواع الطاعات، نضيع الوقت في هذه الأمور التي لا طائل من ورائها!!!
وفي عيد الأضحى المعظم يحتفلون بأكل ما لذ وطاب من أنواع اللحم. وبدلا من ذبح الأضاحي وتوزيع لحومها على الفقراء، فهم يقومون بشراء الأنواع المختلفة من اللحوم من الجزارين، أو يحتفظون بكميات كبيرة من لحوم الأضاحي ( إذا كانوا قد ضحوا )، لعمل جميع أنواع الأكلات المرتبطة باللحم في هذا الوقت!!
أما احتفالهم بيوم عاشوراء فهو بأكل البليلة والقمح، وعمل ما يسمى " عاشوراء ". ويسمون ليلة النصف من شعبان " موسما " ويجمعون فيه العائلة على ما لذ وطاب من الطعام الشهي. وهو ما يحدث كذلك في الإسراء والمعراج ( على الرغم من الخطأ في تحديد يومه، إذ لم يثبت حدوثه في السابع والعشرين من رجب ).
والمتتبع لهذه السلوكيات يجد اختلافا شاسع البون بين النهج الذي كان يتبعه السلف في هذه المواسم وبين ما أصبحنا نحن عليه الآن. ففي بادئ الأمر، نجد أن الإسلام يحض على الاقتصاد في الأكل. وأسوتنا في هذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام من بعده. فقد كان يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، ولا يوقد في بيته الشريف نار لعمل طعام.
كما كان يربط صلى الله عليه وسلم على بطنه الحجر والحجرين لسد نهمة الجوع التي تعصف به. والقصص في هذا الشأن كثيرة ولا تحصى. وقد قيل إن المرء الذي يهتم بما يأكله، فقيمته ما يخرج منه!!
كما كانت هذه المواسم مناسبات يغتنمونها لفعل كل أنواع البر الممكنة من إطعام الفقراء وتقديم الصدقات. أما نحن فنوجه كل ما معنا لشراء المأكولات، التي أصبحت هي سمة الاحتفال بهذه المناسبات، وإذا لم يفِ ذلك بالمطلوب فإننا نستدين! إن الطقوس المبتدعة التي أصبحت هي الصفة الملازمة لهذه المواسم في غاية الخطورة، ولها تأثيرات سلبية عديدة. وتتمثل أهم هذه المخاطر في شقين: شق ديني وشق اقتصادي. أما الشق الديني: فيتمثل في تفريغ المناسبة من مضمونها الديني تماما، وتحويلها لمجرد مناسبة اجتماعية يختفي منها غرض العبادة المفروض من أجله هذه الشعيرة.
وأما الشق الاقتصادي، فهو إهدار الموارد الاقتصادية لبلدان تعد من الدول النامية التي تحتاج لتخصيص جميع مواردها بطريقة مثلى حتى تستطيع تحقيق الانطلاقة الاقتصادية المرجوة. فلك أن تتخيل كميات السكر التي يتم استيرادها قرب مناسبة المولد حتى يتم عمل حلوى المولد. وكميات الياميش والمكسرات التي يتم استيرادها قرب رمضان لعمل المشمشية وأصناف المأكولات الخاصة بليالي رمضان وبعيد الفطر. وما يحتاجه كل ذلك من تدبير للعملات الأجنبية اللازمة لشرائها من الخارج.
ناهيك عما يسببه ذلك من تنافس بين المسلمين على متاع الدنيا التي نحن مأمورين بترك التنافس فيها. قال الحسن البصري: إذا جاءك من ينافسك في دينك فنافسه، وإذا جاءك من ينافسك في دنياك فألقها في نحره. فالكل أصبح يتسابق في شراء مستلزمات هذه المواسم، والكل يحرص على حضور تلك المآدب. وهكذا فإن من يفعل ذلك يصبح من الوجهاء!! أما من يجهلون فحجتهم التسلي وإدخال الفرحة على صغارهم!!
ولا أريد أن أُنهي الحديث في هذا الموضوع قبل الإشارة إلى مناسبتين ما أنزل الله بهما من سلطان، وهما المولد النبوي وشم النسيم. فيحتفلون بالمولد النبوي الشريف بشراء حلوى المولد وحصان المولد للولد وعروس المولد للبنت. وسبحان الله!! فمن المضحك أن يكون الاحتفال بمولد الرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه الذي أنهى عبادة الأوثان من الدنيا بوضع وثنين كبيرين في المنزل أحدهما حصان المولد والآخر عروس المولد. ويكون الاحتفال بشم النسيم بأكل الفسيخ والملوحة والرنجة.
وهذه المناسبات أصلا لا يجوز الاحتفال بها. ذلك أن الأعياد لا تتحدد إلا بتشريع من الله عز وجل. أما بسطاء الناس الذين لم يتلقوا شيئا من العلم الشرعي - وتلك مصيبتهم - فحجتهم في الاحتفال بهذه المناسبات أنها لا تضر، وأن أهم شيء هو النية، وما دامت النية صافية فكل شيء على ما يرام.
إن الراصد لمآل هذه المواسم الآن، بعد خلطها بما ليس في الإسلام من مناسبات، يقف على معنى خطير يراد أن يستقر في ذهن هذه الأمة، وهو أن هذه المواسم ليست دينية، وإنما هي من قبيل المناسبات الشعبية التي يحتفل بها شعب ما دليلا على إظهار تراثه الخاص به.
20 من صفر عام 1425 ( الموافق في تقويم النصارى 10 أبريل عام 2004 ).
المصدر: موقع صيد الفوائد
- التصنيف: