فصــل في مجيء الخطاب بـ [مــا] في سورة الكافرون
منذ 2008-02-06
السؤال: فصــل في {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ} في مجيء الخطاب فيـها بـ [مــا]
الإجابة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} جــاء الخطاب فيـها بـ [مــا]،
ولــم يجـــئ بـ [من]، فقيل: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} لم
يقل: [لا أعبد من تعبدون]؛ لأن [من] لمن يعلم، والأصنام لا
تعلم.
وهذا القول ضعيف جدًا، فإن معبود المشركين يدخل فيه من يعلم كالملائكة والأنبياء والجن والإنس، ومن لم يعلم.
وعند الاجتماع تغلب صيغة أولى العلم، كما في قوله: {فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور:45].
فإذا أخبر عنهم بحال من يعلم عبر عنهم بعبادته، كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} الآية [الأعراف:194- 195]، فعبر عنهم بضمير الجمع المذكر.
وهو لأولى العلم.
وأما ما لا يعلم فجمعه مؤنث،كما تقول:الأموال جمعتها والحجارة قذفتها.
فـ [ما] هي لما لا يعلم، ولصفات من يعلم. ولهذا تكون للجنس العام؛ لأن شمول الجنس لما تحته هو باعتبار صفاته، كما قال: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء: 3]، أي: الذي طاب، والطيب من النساء.
فلما قصد الإخبار عن الموصوف بالطيب، وقصد هذه الصفة دون مجرد العين، عبر بـ [ما].
ولو عبر بـ [من]، كان المقصود مجرد العين والصفة للتعريف ، حتى لو فقدت لكانت غير مقصودة، كما إذا قلت: جاءنى من يعرف ، ومن كان أمس في المسجد، ومن فعل كذا، ونحو ذلك.
فالمقصود الإخبار عن عينه، والصلة للتعريف وإن كانت تلك الصفة قد ذهبت.
ومنه قوله: {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 5 - 7].
على القول الصحيح إنها اسم موصول، والمعني: وبانيها، وطاحيها، ومسويها.
ولما قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9- 10]، أخبر بـ [من]؛ لأن المقصود الإخبار عن فلاح عينه وإن كان فعله للتزكية والتدسية قد ذهب في الدنيا.
فالقسم هناك بالموصوف، بحيث أنه إنما أقسم بهذا الموصوف والصفة لازمة.
فإنه لا توجد مبنية إلا ببانيها، ولا مطحية إلا بطاحيها، ولا مسواة إلا بمسويها.
وأما المرء المزكى نفسه والمدسيها، فقد انقضى عمله في الدنيا، وفلاحه وخيبته في الآخرة ليسا مستلزمًا لذلك العمل.
ونحو هذا قوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} [الليل: 3].
ولهذا يستفهم بها عن صفات من يعلم في قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، كما يستفهم على وجه بها في قوله {مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 85].
وأما قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25].
فالاستفهام عن عين الخالق للتمييز بينه وبين الآلهة التي تعبد.
فإن المستفهمين بها كانوا مقرين بصفة الخالق، وإنما طلب بالاستفهام تعيينه وتمييزه، ولتقام عليهم الحجة باستحقاقه وحده العبادة.
وأما فرعون، فكان منكرًا للموصوف المسمى، فاستفهم بصيغة [ما]؛ لأنه لم يكن مقرًا به، طالبًا لتعيينه؛ ولهذا كان الجواب في هذا الاستفهام بقول موسى: {رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرعد: 16، الإسراء: 102]، وبقوله: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26]، فأجاب أيضًا بالصفة.
وهناك قال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، فكان الجواب بالاسم المميز للمسمى عن غيره.
وكذلك قوله: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا} [المؤمنون: 84] إلى تمام الآيات.
فقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ، يقتضى تنزيهه عن كل موصوف بأنه معبودهم؛ لأن كل ما عبده الكافر وجبت البراءة منه؛ لأن كل من كان كافرًا،لا يكون معبوده الإله الذي يعبده المؤمن.
إذ لو كان هو معبوده لكان مؤمنًا، لا كافرًا.وذلك يتضمن أمورًا:
أحدها: أن ذلك يستلزم براءته من أعيان من يعبدونهم من دون الله.
الثاني: أنهم إذا عبدوا الله وغيره فمعبودهم المجموع، وهو لا يعبد المجموع لايعبد إلا الله وحده.
فيعبده على وجه إخلاص الدين له، لا على وجه الشرك بينه وبين غيره.
وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين قول الخليل: {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26-27].
وقوله: {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، بأن يقال: هنا نفي عبادة المجموع، وذلك لا ينفي عبادة الواحد الذي هو الله.
والخليل تبرأ من المجموع، وذلك يقتضى البراءة من كل واحد، فاستثنى.
أو يقال: الخليل تبرأ من جميع المعبودين من الجميع فوجب أن يستثنى رب العالمين.
ولهذا لما وقع مستثنى في أول الكلام في قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة: 4] لم يحتج إلى استثناء آخر.
وأما هذه السورة فإن فيها التبري من عبادة ما يعبدون، لا من نفس ما يعبدون.
وهو برىء منهم، ومن عبادتهم، ومما يعبدون.
فإن ذلك كله باطل، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله .
فعبادة المشرك كلها باطلة، لا يقال: نصيب الله منها حق، والباقى باطل، بخلاف معبودهم.
فإن الله إله حق، وماسواه آلهة باطلة.
فلما تبرأ الخليل من المعبودين احتاج إلى استثناء رب العالمين.
ولما كان في هذه تبرؤه من أن يعبد ما يعبدون،فكان المنفي هو العبادة، تبرأ من عبادة المجموع الذين يعبدهم الكافرون.
الثالث: إن كان النفي عن الموصوف بأنه معبودهم، لا عن عينه، فهو لايعبد شيئًا من حيث هو معبودهم؛ لأنه من حيث هو معبودهم هم مشركون به، فوجبت البراءة من عبادته على ذلك الوجه.
ولو قال: [من تعبدون]، لكان يقال: إلا رب العالمين؛ لأن النفي واقع على عين المعبود.
وليس إذا لم يعبد ما يعبدون متبرئًا منه ومعاديًا له حتى يحتاج إلى الاستثناء، بل هو تارك لعبادة ما يعبدون.
وهذا يتبين بالوجه الرابع: وهو قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، نفي عنهم عبادة معبوده.
فهم إذا عبدوا الله مشركين به لم يكونوا عابدين معبوده.
وكذلك هو إذا عبده مخلصًا له الدين لم يكن عابدًا معبودهم.
الوجه الخامس: أنهم لو عينوا الله بما ليس هو الله، وقصدوا عبادة الله، معتقدين أن هذا هو الله، كالذين عبدوا العجل، والذين عبدوا المسيح، والذين يعبدون الدجال، والذين يعبدون ما يعبدون من دنياهم وهواهم، ومن عبد من هذه الأمة، فهم عند نفوسهم إنما يعبدون الله، لكن هذا المعبود الذي لهم ليس هو الله.
فإذا قال: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، كان متبرئًا من هؤلاء المعبودين وإن كان مقصود العابدين هو الله.
الوجه السادس: أنهم إذا وصفوا الله بما هو برىء منه، كالصاحبة والولد، والشريك، وأنه فقير أو بخيل، أوغير ذلك، وعبدوه كذلك، فهو برىء من المعبود الذي لهؤلاء.
فإن هذا ليس هو الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
فهم وإن قصدوا عينه لكن لما وصفوه بأنه مذمم كان سبهم واقعًا على من هو مذمم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وذاك ليس هو الله.
فالمؤمنون برآء مما يعبد هؤلاء.
الوجه السابع: أن كل من لم يؤمن بما وصف به الرسول ربه فهو في الحقيقة لم يعبد ما عبده الرسول من تلك الجهة.
وقس على هذا، فلتتأمل هذه المعانى، وتلخص وتهذب، والله تعالى أعلم.
_______________
<مجموع فتاوى ابن تيمية - 16 - المجلد السادس عشر (التفسير)
وهذا القول ضعيف جدًا، فإن معبود المشركين يدخل فيه من يعلم كالملائكة والأنبياء والجن والإنس، ومن لم يعلم.
وعند الاجتماع تغلب صيغة أولى العلم، كما في قوله: {فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور:45].
فإذا أخبر عنهم بحال من يعلم عبر عنهم بعبادته، كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} الآية [الأعراف:194- 195]، فعبر عنهم بضمير الجمع المذكر.
وهو لأولى العلم.
وأما ما لا يعلم فجمعه مؤنث،كما تقول:الأموال جمعتها والحجارة قذفتها.
فـ [ما] هي لما لا يعلم، ولصفات من يعلم. ولهذا تكون للجنس العام؛ لأن شمول الجنس لما تحته هو باعتبار صفاته، كما قال: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء: 3]، أي: الذي طاب، والطيب من النساء.
فلما قصد الإخبار عن الموصوف بالطيب، وقصد هذه الصفة دون مجرد العين، عبر بـ [ما].
ولو عبر بـ [من]، كان المقصود مجرد العين والصفة للتعريف ، حتى لو فقدت لكانت غير مقصودة، كما إذا قلت: جاءنى من يعرف ، ومن كان أمس في المسجد، ومن فعل كذا، ونحو ذلك.
فالمقصود الإخبار عن عينه، والصلة للتعريف وإن كانت تلك الصفة قد ذهبت.
ومنه قوله: {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 5 - 7].
على القول الصحيح إنها اسم موصول، والمعني: وبانيها، وطاحيها، ومسويها.
ولما قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9- 10]، أخبر بـ [من]؛ لأن المقصود الإخبار عن فلاح عينه وإن كان فعله للتزكية والتدسية قد ذهب في الدنيا.
فالقسم هناك بالموصوف، بحيث أنه إنما أقسم بهذا الموصوف والصفة لازمة.
فإنه لا توجد مبنية إلا ببانيها، ولا مطحية إلا بطاحيها، ولا مسواة إلا بمسويها.
وأما المرء المزكى نفسه والمدسيها، فقد انقضى عمله في الدنيا، وفلاحه وخيبته في الآخرة ليسا مستلزمًا لذلك العمل.
ونحو هذا قوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} [الليل: 3].
ولهذا يستفهم بها عن صفات من يعلم في قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، كما يستفهم على وجه بها في قوله {مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 85].
وأما قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25].
فالاستفهام عن عين الخالق للتمييز بينه وبين الآلهة التي تعبد.
فإن المستفهمين بها كانوا مقرين بصفة الخالق، وإنما طلب بالاستفهام تعيينه وتمييزه، ولتقام عليهم الحجة باستحقاقه وحده العبادة.
وأما فرعون، فكان منكرًا للموصوف المسمى، فاستفهم بصيغة [ما]؛ لأنه لم يكن مقرًا به، طالبًا لتعيينه؛ ولهذا كان الجواب في هذا الاستفهام بقول موسى: {رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرعد: 16، الإسراء: 102]، وبقوله: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26]، فأجاب أيضًا بالصفة.
وهناك قال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، فكان الجواب بالاسم المميز للمسمى عن غيره.
وكذلك قوله: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا} [المؤمنون: 84] إلى تمام الآيات.
فقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ، يقتضى تنزيهه عن كل موصوف بأنه معبودهم؛ لأن كل ما عبده الكافر وجبت البراءة منه؛ لأن كل من كان كافرًا،لا يكون معبوده الإله الذي يعبده المؤمن.
إذ لو كان هو معبوده لكان مؤمنًا، لا كافرًا.وذلك يتضمن أمورًا:
أحدها: أن ذلك يستلزم براءته من أعيان من يعبدونهم من دون الله.
الثاني: أنهم إذا عبدوا الله وغيره فمعبودهم المجموع، وهو لا يعبد المجموع لايعبد إلا الله وحده.
فيعبده على وجه إخلاص الدين له، لا على وجه الشرك بينه وبين غيره.
وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين قول الخليل: {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26-27].
وقوله: {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، بأن يقال: هنا نفي عبادة المجموع، وذلك لا ينفي عبادة الواحد الذي هو الله.
والخليل تبرأ من المجموع، وذلك يقتضى البراءة من كل واحد، فاستثنى.
أو يقال: الخليل تبرأ من جميع المعبودين من الجميع فوجب أن يستثنى رب العالمين.
ولهذا لما وقع مستثنى في أول الكلام في قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة: 4] لم يحتج إلى استثناء آخر.
وأما هذه السورة فإن فيها التبري من عبادة ما يعبدون، لا من نفس ما يعبدون.
وهو برىء منهم، ومن عبادتهم، ومما يعبدون.
فإن ذلك كله باطل، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله .
فعبادة المشرك كلها باطلة، لا يقال: نصيب الله منها حق، والباقى باطل، بخلاف معبودهم.
فإن الله إله حق، وماسواه آلهة باطلة.
فلما تبرأ الخليل من المعبودين احتاج إلى استثناء رب العالمين.
ولما كان في هذه تبرؤه من أن يعبد ما يعبدون،فكان المنفي هو العبادة، تبرأ من عبادة المجموع الذين يعبدهم الكافرون.
الثالث: إن كان النفي عن الموصوف بأنه معبودهم، لا عن عينه، فهو لايعبد شيئًا من حيث هو معبودهم؛ لأنه من حيث هو معبودهم هم مشركون به، فوجبت البراءة من عبادته على ذلك الوجه.
ولو قال: [من تعبدون]، لكان يقال: إلا رب العالمين؛ لأن النفي واقع على عين المعبود.
وليس إذا لم يعبد ما يعبدون متبرئًا منه ومعاديًا له حتى يحتاج إلى الاستثناء، بل هو تارك لعبادة ما يعبدون.
وهذا يتبين بالوجه الرابع: وهو قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، نفي عنهم عبادة معبوده.
فهم إذا عبدوا الله مشركين به لم يكونوا عابدين معبوده.
وكذلك هو إذا عبده مخلصًا له الدين لم يكن عابدًا معبودهم.
الوجه الخامس: أنهم لو عينوا الله بما ليس هو الله، وقصدوا عبادة الله، معتقدين أن هذا هو الله، كالذين عبدوا العجل، والذين عبدوا المسيح، والذين يعبدون الدجال، والذين يعبدون ما يعبدون من دنياهم وهواهم، ومن عبد من هذه الأمة، فهم عند نفوسهم إنما يعبدون الله، لكن هذا المعبود الذي لهم ليس هو الله.
فإذا قال: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، كان متبرئًا من هؤلاء المعبودين وإن كان مقصود العابدين هو الله.
الوجه السادس: أنهم إذا وصفوا الله بما هو برىء منه، كالصاحبة والولد، والشريك، وأنه فقير أو بخيل، أوغير ذلك، وعبدوه كذلك، فهو برىء من المعبود الذي لهؤلاء.
فإن هذا ليس هو الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
فهم وإن قصدوا عينه لكن لما وصفوه بأنه مذمم كان سبهم واقعًا على من هو مذمم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وذاك ليس هو الله.
فالمؤمنون برآء مما يعبد هؤلاء.
الوجه السابع: أن كل من لم يؤمن بما وصف به الرسول ربه فهو في الحقيقة لم يعبد ما عبده الرسول من تلك الجهة.
وقس على هذا، فلتتأمل هذه المعانى، وتلخص وتهذب، والله تعالى أعلم.
_______________
<مجموع فتاوى ابن تيمية - 16 - المجلد السادس عشر (التفسير)
- التصنيف: