فصل في ذكر الله لخلق الإنسان تارة مجملا وتارة مفصلا

منذ 2008-02-08
السؤال: فَصْـــل في ذكر الله لخلق الإنسان تارة مجملًا، وتارة مفصلاً
الإجابة:

وهو سبحانه تارة يذكر خلق الإنسان مجملًا، وتارة يذكره مفصلا، كقوله‏:‏ ‏{‏‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}‏‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 12- 14‏]‏‏.‏ ثم ذكر المعادين الأصغر والأكبر، فقال‏:‏ ‏{‏‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ‏} ‏[‏المؤمنون‏:‏ 15- 16‏]‏‏.

‏‏ ومن الناس من يقول‏:‏ لم دخلت لام التوكيد في الموت وهو مشاهد ولم تدخل في البعث وهو غيب فيحتاج إلى التوكيد‏؟‏ وذلك والله أعلم أن المقصود بذكر الموت والبعث هو الإخبار بالجزاء والمعاد، وأول ذلك هو الموت‏.

‏‏ فنبه على الإيمان بالمعاد، والاستعداد لما بعد الموت‏.‏

وهو إنما قال‏:‏ ‏[‏تبعثون‏]‏ فقط ولم يقل‏:‏‏[‏تجازون‏]‏، لكـن قـد علـم أن البعث للجزاء‏.‏

وأيضًا، ففيه تنبيه على قهر الإنسان وإذلاله‏.‏ يقول‏:‏ بعـد هـذا كـله إنك تموت، فترد إلى أسفل سافلين، إلا الذين آمنـوا وعملوا الصالحات، كما قال‏:‏ ‏{‏‏لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}‏‏ ‏[‏التين‏:‏ 4 - 6‏]‏‏.‏

وهذا الرد هو بالموت‏.‏ فإنه يصير في أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، كما قال‏:‏ ‏{‏‏كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}‏‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}‏‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 18‏]‏‏.

‏‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏أَسْفَلَ سَافِلِينَ‏}‏ قولان؛ قيل‏:‏ الهرم‏.

‏‏ وقيل‏:‏ العذاب بعد الموت، وهذا هو الذي دلت عليه الآية قطعًا‏.‏

فإنه جعله في أسفل سافلين إلا المؤمنين‏.

‏‏ والناس نوعان‏:‏ فالكافر بعد الموت يعذب في أسفل سافلين، والمؤمن في عليين‏.

‏‏ وأما القـول الأول ففيه نظـر‏.‏

فـإنـه ليس كل مـن سـوى المؤمنـين يهـرم فيـرد إلى أسـفل سافلـين‏.

‏‏ بل كثـير مـن الكفار يمـوت قبـل الهـرم، وكثير مـن المؤمنـين يهـرم، وإن كان حـال المؤمـن في الهـرم أحسـن حالا مـن الكافـر، فكذلك في الشباب حـال المؤمـن أحسن من حال الكافر فجعل الرد إلى أسفل سافلين في آخر العمر وتخصيصه بالكفار ضعيف‏.

‏‏ ولهذا قال بعضهم‏:‏ إن الاستثناء منقطع على هذا القول، وهو أيضًا ضعيف‏.‏

فإن المنقطع لا يكون في الموجب، ولو جاز هذا لجاز لكل أحد أن يدعى في أى استثناء شاء أنه منقطع‏.

‏‏ وأيضًا فالمنقطع لا يكون الثاني منه بعض الأول، والمؤمنون بعض نوع الإنسان‏.

‏‏ وقد فسر ذلك بعضهم على القول الأول بأن المؤمن يكتب له ما كان يعمله إذا عجز‏.

‏‏ قال إبراهيم النخعى‏:‏ إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب الله له ما كان يعمل، وهو قوله‏:‏ ‏{‏‏فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}‏ ‏[‏التين‏:‏6‏]‏‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ المعنى‏:‏ ‏{‏‏إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا‏} ‏[‏التين‏:‏6‏]‏ في وقت القوة والقدرة فإنهم في حال الكبر غير منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات‏.

‏‏ فإن الله يعلم لو لم يسلبهم القوة لم ينقطعوا عن أفعال الخير فهو يجرى لهم أجر ذلك‏.

‏‏ فيقال‏:‏ وهذا أيضًا ثابت في حال الشباب إذا عجز الشاب لمرض أو سفر، كما في الصحيحين عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم‏"‏‏‏.‏

وفسره بعضهم بما روى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ من قرأ القرآن فإنه لا يرد إلى أرذل العمر‏.‏

فيقال‏:‏ هذا مخصوص بقارئ القرآن، والآية استثنت الذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء قرؤوا القرآن أو لم يقرؤوه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها‏"‏‏‏.

‏‏ وأيضًا، فيقال‏:‏ هرم الحيوان ليس مخصوصًا بالإنسان،بل غيره من الحيوان إذا كبر هرم‏.

‏‏ وأيضًا، فالشيخ وإن ضعف بدنه فعقله أقوى من عقل الشاب‏.‏

ولو قدر أنه ينقص بعض قواه فليس هذا ردًا إلى أسفل سافلين‏.‏

فإنه سبحانه إنما يصف الهرم بالضعف كقوله‏:‏ ‏{‏‏ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً‏} ‏[‏الروم‏:‏ 54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ}‏‏ ‏[‏يس‏:‏ 68‏]‏، فهو يعيده إلى حال الضعف‏.‏

ومعلوم أن الطفل ليس هو في أسفل سافلين، فالشيخ كذلك وأولى‏.

‏‏ وإنما في أسفل سافلين من يكون في سجين، لا في عليين،كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ‏} ‏[‏النساء‏:‏ 145‏]‏‏.

‏‏ ومما يبين ذلك قوله‏:‏ ‏{‏‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}‏‏ ‏[‏التين‏:‏ 7‏]‏‏.‏

فإنه يقتضى ارتباط هذا بما قبله لذكره بحرف الفاء‏.

‏‏ ولو كان المذكور إنما هو رده إلى الهرم دون ما بعد الموت لم يكن هناك تعرض للدين والجزاء، بخلاف ما إذا كان المذكور أنه بعد الموت يرد إلى أسفل سافلين غير المؤمن المصلح‏.‏

فإن هذا يتضمن الخبر بأن الله يدين العباد بعد الموت فيكرم المؤمنين ويهين الكافرين‏.

‏‏ وأيضًا، فإنه سبحانه أقسم على ذلك بأقسام عظيمة بالتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين‏.‏

وهي المواضع التي جاء منها محمد، والمسيح، وموسى، وأرسل الله بها هؤلاء الرسل مبشرين ومنذرين‏.

‏‏ وهذا الإقْسَام لا يكون على مجرد الهرم الذي يعرفه كل أحد، بل على الأمور الغائبة التي تؤكد بالإقسام‏.‏

فإن إقسام الله هو على أنباء الغيب‏.

‏ وفي نفس المقسم به وهو إرسال هؤلاء الرسل تحقيق للمقسم عليه وهو الثواب والعقاب بعد الموت لأن الرسل أخبروا به‏.‏

وهو يتضمن أيضًا الجزاء في الدنيا، كإهلاك من أهلكهم من الكفار‏.

‏‏ فإنه ردهم إلى أسفل سافلين بهلاكهم في الدنيا‏.

‏ وهو تنبيه على زوال النعم إذا حصلت المعاصى، كمن رد في الدنيا إلى أسفل جزاء على ذنوبه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}‏‏ أى بالجزاء يتناول جزاءه على الأعمال في الدنيا، والبرزخ، والآخرة‏.

‏‏ إذ كان قد أقسم بأماكن هؤلاء المرسلين الذين أرسلوا بالآيات البينات الدالة على أمر الله ونهيه، ووعده ووعيده مبشرين لأهل الإيمان، منذرين لأهل الكفر، وقد أقسم بذلك على أن الإنسان بعد أن جعل في أحسن تقويم إن آمن وعمل صالحًا كان له أجر غير ممنون، وإلا كان في أسفل سافلين‏.

‏‏ فتضمنت السورة بيان ما بعث به هؤلاء الرسل الذين أقسم بأماكنهم‏.

‏‏ والإقسام بمواضع محنهم تعظيم لهم‏.

‏‏ فإن موضع الإنسان إذا عظم لأجله كان هو أحق بالتعظيم‏.‏

ولهذا يقال في المكاتبات‏:‏ ‏[‏إلى المجلس، والمقر ونحو ذلك السامي، والعالي‏]‏، ويذكر بخضوع له وتعظيم والمراد صاحبه‏.

‏‏ فلما قال‏:‏ ‏{‏‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}‏‏ ‏[‏التين‏:‏ 7‏]‏، دل على أن ما تقدم قد بين فيه ما يمنع التكذيب بالدين‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏يُكَذِّبُكَ‏}‏ قولان‏.‏ قيل‏:‏ هو خطاب للإنسان، كما قال مجاهد وعكرمة، ومقاتل، ولم يذكر البغوى غيره‏.

‏‏ قال عكرمة، يقول‏:‏ فما يكذبك بعد بهذه الأشياء التي فعلت بك‏.‏

وعن مقاتل‏:‏ فما الذي يجعلك مكذبًا بالجزاء، وزعم أنها نزلت في عَيَّاش بن أبي ربيعة‏.

‏‏ والثاني أنه خطاب للرسول وهذا أظهر فإن الإنسان إنما ذكر مخبرًا عنه لم يخاطب‏.

‏‏ والرسول هو الذي أنزل عليه القرآن، والخطاب في هذه السور له، كقوله‏:‏ ‏{‏‏مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}‏‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏} ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}‏‏ ‏[‏العلق‏:‏1‏]‏‏.‏

والإنسان إذا خوطب، قيل له‏:‏ ‏{‏‏يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ‏} ‏[‏الانفطار‏:‏ 6‏]‏، ‏{‏‏يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا}‏‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 6‏]‏‏.

‏‏ وأيضًا، فبتقـدير أن يكون خطابًا للإنسان يجب أن يكون خطابًا للجنس، كقوله‏:‏ ‏{‏‏يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ‏‏}.‏

وعلى قول هؤلاء؛إنما هو خطاب للكافر خاصة المكذب بالدين‏.

‏‏ وأيضًا، فإن قوله‏:‏ ‏{‏‏يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}‏‏، أى يجعلك كاذبـًا، هذا هو المعروف من لغة العرب‏.‏

فإن استعمال كَذَّب غيره، أى‏:‏ نسبه إلى الكذب وجعله كاذبًا مشهور، والقرآن مملوء من هذا‏.‏

وحيث ذكر الله تكذيب المكذبين للرسل، أو التكذيب بالحق ونحو ذلك، فهذا مراده‏.

‏‏ لكن هذه الآية فيها غموض من جهة كونه قال‏:‏ ‏{‏‏يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}‏‏‏.‏

فذكر المكذب بالدين فذكر المكَذِّبَ والمكَذَّبَ به جميعًا‏.

‏‏ وهذا قليل جاء نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏‏فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ‏} ‏[‏الفرقان‏:‏ 19‏]‏ فأما أكثر المواضع فإنما يذكر أحدهما إما المُكَذِّب، كقوله‏:‏ ‏{‏‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}‏‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏؛ وإما المُكَذَّب به، كقوله‏:‏ ‏{‏‏بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ}‏‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 11‏]‏‏.

‏‏ وأما الجمع بين ذكر المكذب والمكذب به فقليل‏.‏

ومن هنا اشتبهت هذه الآية على من جعل الخطاب فيها للإنسان، وفسر معنى قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا يُكَذِّبُكَ‏}‏‏:‏ فما يجعلك مكذبًا‏.

‏‏ وعبارة آخرين‏:‏ فما يجعلك كذابًا‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وقال جمهور من المفسرين‏:‏ المخاطب الإنسان الكافر، أي ما الذي يجعلك كذابًا بالدين تجعل لله أندادًا، وتزعم أن لا بعث بعد هذه الدلائل‏؟‏

قلت‏:‏ وكلا القولين غير معروف في لغة العرب، أن يقول‏:‏ ‏[‏كذبك، أي‏:‏ جعلك مكذبًا‏]‏، بل ‏[‏كذبك‏:‏ جعلك كذابًا‏]‏‏.

‏‏ وإذا قيل‏:‏ ‏[‏جعلك كذابًا‏]‏، أى‏:‏ كاذبًا فيما يخبر به، كما جعل الكفار الرسل كاذبين فيما أخبروا به فكذبوهم، وهذا يقول‏:‏ جعلك كاذبًا بالدين، فجعل كذبه أنه أشرك وأنه أنكر المعاد، وهذا ضد الذي ينكر‏.

‏‏ ذاك جعله مكذبًا بالدين، وهذا جعله كاذبًا بالدين‏.‏

والأول فاسد من جهة العربية، والثاني فاسد من جهة المعنى‏.‏

فإن الدين هو الجزاء الذي كذب به الكافر‏.‏

والكافر كذب به، لم يكذب هو به‏.

‏‏ وأيضًا، فلا يعرف في المخبر أن يقال‏:‏ ‏[‏كذبت به‏]‏، بل يقال‏:‏ ‏[‏كذبته‏]‏‏.‏

وأيضًا، فالمعروف في ‏[‏كذبه‏]‏، أي نسبه إلى الكذب، لا أنه جعل الكذب فيه‏.

‏‏ فهذا كله تكلف لا يعرف في اللغة، بل المعروف خلافه‏.

‏‏ وهو لم يقل‏:‏ ‏[‏فما يكذبك‏]‏، ولا قال‏:‏ ‏[‏فما كذبك‏]‏‏.‏

ولهذا كان علماء العربية على القول الأول‏.

‏‏ قال ابن عطية‏:‏ واختلف في المخاطب بقوله‏:‏ ‏{‏فما يكذبك‏}‏، فقال قتادة، والفراء، والأخفش‏:‏ هو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الله له‏:‏ ‏[‏فما الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبرة التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت‏]‏‏؟‏ قال‏:‏ ويحتمل أن يكون الدين على هذا التأويل جميع شرعه ودينه‏.‏

قلت‏:‏ وعلى أن المخاطب محمد صلى الله عليه وسلم في المعنى قولان‏:‏ أحدهما قول قتادة، قال‏:‏ ‏{‏‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}‏‏، أى‏:‏ استيقن، فقد جاءك البيان من الله‏.‏

وهكذا رواه عنه ابن أبي حاتم بإسناد ثابت‏.

‏‏ وكذلك ذكـره المهْدَوى‏:‏ ‏{‏‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}‏‏، أى استيقـن مع مـا جـاءك من الله أنه أحكم الحاكمـين‏.

‏‏ فالخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وقـال‏:‏ معناه عـن قتادة‏.‏

قال‏:‏ وقيل المعنى‏:‏ فما يكذبك أيها الشاك يعنى الكفار في قدرة الله‏؟‏ أى شيء يحملك على ذلك بعد ما تبين لك من قدرته‏؟‏ قال‏:‏ وقال الفراء‏:‏فمن يكذبك بالثواب والعقاب‏؟‏ وهو اختيار الطبرى‏.

‏‏ قلت‏:‏هـذا القـول المنقـول عـن قتادة هو الذي أوجب نفور مجاهد عن أن يكون الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم،كما روى الناس ومنهم ابن أبي حاتم عن الثورى، عن منصور قال‏:‏قلت لمجاهد‏:‏‏{‏‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏} عنى به النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏معاذ الله‏!‏ عنى به الإنسان‏.

‏‏ وقـد أحسن مجاهـد في تنزيـه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال له‏:‏ ‏{‏فَمَا يُكَذِّبُكَ‏}‏، أى‏:‏ استيقن، ولا تكـذب‏.‏

فإنـه لو قيـل له‏:‏ ‏[‏لا تكذب‏]‏ لكان هذا من جنس أمره بالإيمان والتقوى، ونهيه عما نهي الله عنـه‏.

‏‏ وأمـا إذا قيـل‏:‏‏{‏‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}، فهو لم يكذب بالدين، بل هو الذي أخبر بالدين وصــدق به، فهو ‏{‏‏وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 33‏]‏، فكيف يقال له‏:‏‏{‏‏مَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏‏}؟‏ فهذا القول فاسد لفظًا ومعنى‏.

‏‏ واللفظ الذي رأيته منقولًا بالإسناد عن قتادة ليس صريحًا فيه، بل يحتمل أن يكون أراد به خطاب الإنسان‏.

‏‏ فإنه قال‏:‏ ‏{‏‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}‏‏، قال‏:‏ ‏(‏استيقن، فقد جاءك البيان‏)‏‏.

‏‏ وكل إنسان مخاطب بهذا‏.‏

فإن كان قتادة أراد هذا فالمعنى صحيح‏.

‏‏ لكن هم حكوا عنه أن هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فهذا المعنى باطل‏.‏

فلا يقال للرسول‏:‏ ‏[‏فأى شيء يجعلك مكذبًا بالدين‏؟‏‏]‏ وإن ارتأت به النفس، لأن هذا فيه دلائل تدل على فساده‏.‏

ولهذا استعاذ منه مجاهد‏.

‏‏ والصواب ما قاله الفَرَّاء، والأخْفَش، وغيرهما‏.‏

وهو الذي اختاره أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وغيره من العلماء كما تقدم‏.‏

وكذلك ذكره أبو الفرج ابن الجوزي عن الفراء، فقال‏:‏ إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى‏:‏ فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما تبين له أنا خلقنا الإنسان على ما وصفنا، قاله الفراء‏.‏

قال‏:‏ وأما ‏[‏الدين‏]‏ فهو الجزاء‏.

‏‏ قلت‏:‏ وكذلك قال غير واحد، كما روى ابن أبي حاتم عن النضر بن عربي‏:‏ ‏{‏‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}‏‏، أي‏:‏ بالحساب‏.‏

ومن تفسير العوفي عن ابن عباس‏:‏ أي بحكم الله‏.‏ قلت‏:‏ قال‏:‏ ‏[‏بحكم الله‏]‏ لقوله‏:‏ ‏{‏‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}‏‏ ‏[‏التين‏:‏ 8‏]‏، وهو سبحانه يحكم بين المصدق بالدين والمكذب به‏.‏

وعلى هذا، قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا‏}‏ وصف للأشخاص‏.

‏‏ ولم يقل‏:‏ ‏[‏فمن‏]‏؛ لأن ‏[‏ما‏]‏ يراد به الصفات دون الأعيان، وهو المقصود، كقوله‏:‏{ ‏‏فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}‏‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 2‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}‏‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 7‏]‏‏.

‏‏ كأنه قيل‏:‏ فما المكذب بالديــن بعد هــذا‏؟‏ أى‏:‏ من هــذه صفته ونعته، هو جاهل ظالم لنفسـه،والله يحكـم بين عبــاده فيما يختلفــون فيه مــن هذا النبأ العظيم‏.

‏‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بّعًد ‏}‏، قد قيل‏:‏ إنه ‏[‏بعد ما ذكر من دلائل الدين‏]‏‏.

‏‏ وقد يقال‏:‏ لم يذكر إلا الإخبار به، وأن الناس نوعان‏:‏ في أسفل سافلين، ونوع لهم أجر غير ممنون‏؟‏

فقد ذكر البشارة والنذارة، والرسل بعثوا مبشرين ومنذرين‏.‏

فمن كذبك بعد هذا، فحكمه إلى الله أحكم الحاكمين وأنت قد بلغت ما وجب عليك تبليغه‏.

‏‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا يُكَذِّبُكَ‏}‏ ليس نفيًا للتكذيب، فقد وقع‏.‏

بل قد يقال‏:‏ إنه تعجب منه، كما قال‏:‏ ‏{‏‏وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}‏‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقد يقال‏:‏ إن هذا تحقير لشأنه وتصغير لقدره لجهله وظلمه، كما يقال‏:‏ ‏[‏من فلان‏؟‏‏]‏ و‏[‏من يقول هذا إلا جاهل‏؟‏‏]‏‏.

‏‏ لكنه ذكره بصيغة ‏[‏ما‏]‏ فإنها تدل على صفته، وهي المقصودة، إذ لا غرض في عينه‏.‏ كأنه قيل‏:‏ ‏[‏فأي صنف وأي جاهل يكذبك بعد بالدين‏؟‏ فإنه من الذين يردون إلى أسفل سافلين‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}‏‏ ‏[‏التين‏:‏ 8‏]‏، يدل على أنه الحاكم بين المكذب بالدين والمؤمن به‏.

‏ والأمر في ذلك له سبحانه وتعالى‏.

‏ والقرآن لا تنقضي عجائبه‏.‏

والله سبحانه بين مراده بيانًا أحكمه، لكن الاشتباه يقع على من لم يرسخ في علم الدلائل الدالة‏.

‏‏ فإن هذه السورة وغيرها فيها عجائب لا تنقضي‏.‏

منها‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏{‏‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}‏‏ ‏[‏التين7‏]‏ ذكر فيه الرسول المكَذَّبَ والدين المكَذَّب به جميعًا‏.‏

فإن السورة تضمنت الأمرين‏.

‏‏ تضمنت الإقسام بأماكن الرسل المبينة لعظمتهم، وما أتوا به من الآيات الدالة على صدقهم الموجبة للإيمان‏.‏

وهم قد أخبروا بالمعاد المذكور في هذه السورة‏.‏

وقد أقسم الله عليه كما يقسم عليه في غير موضع، وكما أمر نبيه أن يقسم عليه في مثل قوله‏:‏ ‏{‏‏زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ‏} ‏[‏التغابن‏:‏ 7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}‏‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏‏.

‏‏ فلما تضمنت هذا وهذا ذكر نوعي التكذيب، فقال‏:‏ {‏‏‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}‏‏، والله سبحانه أعلم‏.‏

وأيضًا، فإنه لا ذنب له في ذلك، والقرآن مراده أن يبين أن هذا الرد جزاء على ذنوبه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏‏إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}‏‏ ‏[‏التين‏:‏ 6‏]‏،كما قال‏:‏‏{‏‏إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}‏‏ ‏[‏العصر‏:‏ 2-3‏]‏‏.‏

لكن هنا ذكر الخسر فقط، فوصف المستثنين بأنهم تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر مع الإيمان والصلاح‏.‏

وهناك ذكر أسفل سافلين، وهو العذاب، والمؤمن المصلح لا يعذب، وإن كان قد ضيع أمورًا خسرها، لو حفظها لكان رابحًا غير خاسر‏.

‏‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.

‏‏ والمقصود هنا أنه سبحانه يذكر خلق الإنسان مجملًا ومفصلًا‏.

‏‏ وتارة يذكر إحياءه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 82‏]‏، وهو كقول الخليل عليه السلام‏:‏ ‏{‏‏رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.

‏‏ فإن خلق الحياة ولوازمها وملزوماتها أعظم وأدل على القدرة، والنعمة، والحكمة‏.



___________________

المجلد السادس عشر

مجموع الفتاوي لابن تيمية