هل فوائد البنوك تعتبر من نوعا من أنواع الربا؟
منذ 2008-04-19
السؤال: جاء في "جريدة الأهرام المصرية" بتاريخ 24 مارس 2007م في بريد الأهرام
رسالة من قارئ، وتعقيب المحرر عليها، الرسالة بعنوان: "حلال.. مئة
في المئة!"، سأورد لكم نص الرسالة وتعليق المحرر دون تعليق مني،
لعلكم تردون على هذا التضليل.
"فتح فضيلة المفتي الدكتور "علي جمعة" في لقائه مع برنامج "البيت بيتك" أبواب البنوك باقتدار أمام جموع المترددين والخائفين من الاقتراب من المعاملات البنكية, باعتبارها محرمة -في زعم بعض الفتاوى- ففي دقائق معدودة شرح الدور الهائل الذي تلعبه البنوك بين المستثمر أو المدخر والمشروعات التنموية التي تصب فيها هذه المدخرات, وقيام البنوك بدور الضامن لحقوق الطرفين بعقود تمويل موثَّقة تتسم بالدقة ومسؤولية كلا الطرفين، وقد أجاز هذه النوعية من المعاملات التي تقوم فيها البنوك بصفتها الخبيرة في تحريك الاستثمار في اتجاهات مختلفة بإيقاع منضبط مثل المايسترو, وأوضح فضيلته أن الادعاء بأن التعامل مع البنوك حرام هو إجهاض لاقتصاد الأمة وتخريب لمشاريعها التي تعتمد أساساً علي المدخرات العائلية التي اتجهت إلى البنوك طواعية وبدون إلزام ولا إجبار, وانتقاء الأوعية الادخارية المختلفة التي تتناسب مع ظروف كل مدخر, وقال إن أهم ما تتسم به هذه المنظومة هو الرضا والقبول فأين الحرام؟
وقد سبق لفضيلة الدكتور "محمد سيد طنطاوي" أن عبَّر في صفحة الفكر الديني بالاهرام في 14 يونيه 1991م -وكان هو مفتي الجمهورية وقتها عن أن كل معاملة تتم باختيار الطرفين ورضائهما المشروع وليس فيها غش أو استغلال أو ظلم أو غير ذلك مما حرمته شريعة الإسلام هي معاملة حلال, إذ لا تحريم إلا بنص شرعي, وفي نفس الإطار كان لفضيلة الدكتور "عبد المنعم النمر" -يرحمه الله- مساجلات ونقاشات حادة علي صفحات الجرائد, وفي كتابه (الاجتهاد) وأعتقد أن مجمع البحوث الإسلامية انتهى بالإجماع إلا صوتاً واحداً علي جواز أرباح شهادات الاستثمار وأرجو من البيت بيتك إعادة هذه الحلقة المميزة لاستيعاب ما خفي على البعض فهمه".
تعقيب محرر بريد الأهرام: "لعل شيوخ الفضائيات يقتنعون بفتوى الدكتور "علي جمعة" ويتوقفون عن التحريض اليومي للمواطنين لنقل أموالهم إلى بنك بعينه بدعوى أنه بنك إسلامي, ولا أدري من أين أتوا بهذا المسمَّي، فالمسألة كلها متعلِّقة بالاستثمارات, ولا علاقة لها بربا من قريب أو بعيد.. وإذا كنا مقتنعين من قبل بمنطق العقل أن لا حرمة في استثمار الأموال في البنوك فإن فتوى "د. علي جمعة" وهو يشغل منصب مفتي الجمهورية تقطع الطريق على ما يروجه بعض الشيوخ، إن الإسلام يسر وليس عسراً، وإننا ندعو إلى نشر وإذاعة فتوى المفتي على نطاق واسع لكي يوقن كل مودع أن أمواله حلال ولا توجد شبهة حرام فيها".
"فتح فضيلة المفتي الدكتور "علي جمعة" في لقائه مع برنامج "البيت بيتك" أبواب البنوك باقتدار أمام جموع المترددين والخائفين من الاقتراب من المعاملات البنكية, باعتبارها محرمة -في زعم بعض الفتاوى- ففي دقائق معدودة شرح الدور الهائل الذي تلعبه البنوك بين المستثمر أو المدخر والمشروعات التنموية التي تصب فيها هذه المدخرات, وقيام البنوك بدور الضامن لحقوق الطرفين بعقود تمويل موثَّقة تتسم بالدقة ومسؤولية كلا الطرفين، وقد أجاز هذه النوعية من المعاملات التي تقوم فيها البنوك بصفتها الخبيرة في تحريك الاستثمار في اتجاهات مختلفة بإيقاع منضبط مثل المايسترو, وأوضح فضيلته أن الادعاء بأن التعامل مع البنوك حرام هو إجهاض لاقتصاد الأمة وتخريب لمشاريعها التي تعتمد أساساً علي المدخرات العائلية التي اتجهت إلى البنوك طواعية وبدون إلزام ولا إجبار, وانتقاء الأوعية الادخارية المختلفة التي تتناسب مع ظروف كل مدخر, وقال إن أهم ما تتسم به هذه المنظومة هو الرضا والقبول فأين الحرام؟
وقد سبق لفضيلة الدكتور "محمد سيد طنطاوي" أن عبَّر في صفحة الفكر الديني بالاهرام في 14 يونيه 1991م -وكان هو مفتي الجمهورية وقتها عن أن كل معاملة تتم باختيار الطرفين ورضائهما المشروع وليس فيها غش أو استغلال أو ظلم أو غير ذلك مما حرمته شريعة الإسلام هي معاملة حلال, إذ لا تحريم إلا بنص شرعي, وفي نفس الإطار كان لفضيلة الدكتور "عبد المنعم النمر" -يرحمه الله- مساجلات ونقاشات حادة علي صفحات الجرائد, وفي كتابه (الاجتهاد) وأعتقد أن مجمع البحوث الإسلامية انتهى بالإجماع إلا صوتاً واحداً علي جواز أرباح شهادات الاستثمار وأرجو من البيت بيتك إعادة هذه الحلقة المميزة لاستيعاب ما خفي على البعض فهمه".
تعقيب محرر بريد الأهرام: "لعل شيوخ الفضائيات يقتنعون بفتوى الدكتور "علي جمعة" ويتوقفون عن التحريض اليومي للمواطنين لنقل أموالهم إلى بنك بعينه بدعوى أنه بنك إسلامي, ولا أدري من أين أتوا بهذا المسمَّي، فالمسألة كلها متعلِّقة بالاستثمارات, ولا علاقة لها بربا من قريب أو بعيد.. وإذا كنا مقتنعين من قبل بمنطق العقل أن لا حرمة في استثمار الأموال في البنوك فإن فتوى "د. علي جمعة" وهو يشغل منصب مفتي الجمهورية تقطع الطريق على ما يروجه بعض الشيوخ، إن الإسلام يسر وليس عسراً، وإننا ندعو إلى نشر وإذاعة فتوى المفتي على نطاق واسع لكي يوقن كل مودع أن أمواله حلال ولا توجد شبهة حرام فيها".
الإجابة: الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد:
فقبل الشروع في الجواب المفصل على ما ورد في هذا التصريح من أباطيل، أحب أن أنبه القارئ الكريم إلى أن ما ذُكر فيها من فتاوى رسمية بإباحة ربا البنوك يعلم الجميع -إلا ما نَدُر- أن "علي جمعة" كان يفتي قبل توليه لهذا المنصب بحرمة التعامل مع البنوك الربوية، سواء أيام كان يعمل في السعودية أو في مصر، ثم أصدرت تلك الفتاوى مؤخراً واتهم فيها من يحرم ربا البنوك بالجهل!! -في تصريح له- وهم عامة علماء الأمة المعتبرين من الأحياء والأموات من فقهاء الشريعة، وفقهاء الاقتصاد، بل ورجال القانون الذين يُوَصفون تعامل البنوك بأنه قرض ولكن يبيحونه من جهة القانون الوضعي لا من جهة الشرع الإسلامي الحنيف.
ولو أن الشيخ كلف نفسه بالرجوع لأهل التخصص من الفقهاء أو خبراء الاقتصاد لمعرفة التوصيف العلمي لعمل البنك، ولمعرفة الجانب المدمر للاقتصاد الربوي، الذي لا يتصور البتة موافقته للشرع؛ لأنه من صنع اليهود ونشأ في غير بلاد المسلمين؛ ولذلك لا يتصور عقلاً أن تراعى فيه الحدود الشرعية، فلا عجب ولا غرابة أن يتفق العلماء على أنه من الحرام البيِّن وليس من الشبهات فقط منذ زمن بعيد -إلا من شذَّ منهم- وهو قول جميع المجامع الفقهية، ولجان الفتوى في العالم العربي والإسلامي؛ ومنها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي، المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، الذي يضم علماء (55) دولة، وفيه أكثر من مئة خبير في جميع التخصصات مثل الدكتور على السالوس، والدكتور وهبة الزحيلي وغيرهم من خبراء الاقتصاد والقانون والفقه.
و(المجمع الفقهي بمكة المكرمة)، الذي يضم خيرة العلماء والفقهاء في العالم، و(مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا)، و(اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بالسعودية)، و(هيئة كبار العلماء بالسعودية)، وعلى رأسهم الشيخ "محمد بن إبراهيم"، والشيخ "عبد العزيز بن باز"، و"ابن عثيمين" وغيرهم كثير من علماء الأمة، وإليكم أولاً مجموعة من القرارات المعتمدة:
قرار المؤتمر الإسلامي الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة:
انعقد المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية، بالقاهرة في شهر المحرم سنة 1385هـ - الموافق مايو 1965م، والذي ضم ممثلين ومندوبين عن خمس وثلاثين دولة إسلامية في عهد العلامة حسن مأمون شيخ الأزهر، وقد قرر المؤتمر بالإجماع بشأن المعاملات المصرفية ما يلي:
أولاً: الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي، وما يسمى بالقرض الإنتاجي؛ لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.
ثانياً: كثير الربا وقليله حرام، كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:130].
ثالثاً: الإقراض بالربا محرَّم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة.
رابعاً: أعمال البنوك من الحسابات الجارية، وصرف الشيكات، وخطابات الاعتماد، والكمبيالات الداخلية، التي يقوم عليها العمل بين التُّجَّار والبنوك في الداخل - كل هذا من المعاملات المصرفية الجائزة، وما يؤخذ في نظير هذه الأعمال ليس من الربا.
خامساً: الحسابات ذات الأجل، وفتح الاعتماد بفائدة، وسائر أنواع الإقراض نظير فائدة كلها من المعاملات الربوية وهي محرمة.
قرار مجمع رابطة العالم الإسلامي، إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته التاسعة المنعقدة بمبنى رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 12رجب 1406هـ - إلى يوم السبت 19رجب 1406هـ - قد نظر في موضوع (تفشي المصارف الربوية، وتعامل الناس معها، وعدم توافر البدائل عنها)، قد أثبتت البحوث الاقتصادية الحديثة أن الربا خطر على اقتصاد العالم وسياسته، وأخلاقياته وسلامته، وأنه وراء كثير من الأزمات التي يعانيها العالم، وألا نجاة من ذلك إلا باستئصال هذا الداء الخبيث الذي هو الربا من جسم العالم؛ ومن هنا يقرر المجلس ما يلي:
أولاً: يجب على المسلمين كافة أن ينتهوا عما نهى الله تعالى عنه من التعامل بالربا، أخذاً أو عطاءً، والمعاونة عليه بأي صورة من الصور، حتى لا يحل بهم عذاب الله، ولا يأذنوا بحرب من الله ورسوله.
ثانياً: ينظر المجلس بعين الارتياح والرضا إلى قيام المصارف الإسلامية، التي هي البديل الشرعي للمصارف الربوية، ويعني بالمصارف الإسلامية: كل مصرف ينص نظامه الأساسي على وجوب الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية الغراء في جميع معاملاته ويُلزم إدارته بوجوب وجود رقابة شرعية مُلزمة.
ثالثاً: يحرم على كل مسلم يتيسر له التعامل مع مصرف إسلامي أن يتعامل مع المصارف الربوية في الداخل أو الخارج، إذ لا عذر له في التعامل معها بعد وجود البديل الإسلامي، ويجب عليه أن يستعيض عن الخبيث بالطيب، ويستغني بالحلال عن الحرام.
رابعاً: يدعو المجلس المسؤولين في البلاد الإسلامية والقائمين على المصارف الربوية فيها إلى المبادرة الجادة لتطهيرها من رجس الربا؛ استجابة لنداء الله تعالى: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة:278].
خامساً: كل مال جاء عن طريق الفوائد الربوية هو مال حرام شرعاً، لا يجوز أن ينتفع به المسلم -مودع المال- لنفسه أو لأحد ممن يعوله في أي شأن من شؤونه، ويجب أن يصرف في المصالح العامة.
قرار مجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي: إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406هـ- الموافق 22 - 28 ديسمبر 1985م - قرر ما يلي:
أولاً: إن كل زيادة (أو فائدة) على الدَّين الذي حل أجله، وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (أو الفائدة) على القرض منذ بداية العقد: هاتان الصورتان رباً محرم شرعاً.
ثانياً: إن البديل الذي يضمن السيولة المالية والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التي يرتضيها الإسلام - هي التعامل وفقاً للأحكام الشرعية ولاسيما ما صدر عن هيئات الفتوى المعنية بالنظر في جميع أحوال التعامل التي تمارسها المصارف الإسلامية في الواقع العملي.
ثالثاً: قرَّر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف الإسلامية القائمة، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامي؛ لتغطي حاجة المسلمين كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته.
هذا؛ وليُعلم أن ودائع البنوك هي عقد قرض شرعاً - كما تقدم- وقانوناً، وعند علماء الاقتصاد؛ فالمصرف أو البنك: هو مؤسسة تتخصص في إقراض واقتراض النقود، كما في "الموسوعة العربية الميسرة"، وقد اتفق أساتذة الاقتصاد وعلماء القانون وفقهاء الشريعة على هذا التعريف.
فالوظيفة الأولى للبنوك هي الاتجار في الديون، بأن تقوم بإقراض ما أودع لديها، أو ما اقترضته من المودعين مقابل زيادة محددة على أصل المال، ووظيفتها الثانية هي: خلق الديون أو الائتمان يعني: إقراض ما لم تملكه بالفعل؛ فتَخْلُق النقود وتقرضها! وذلك بوضع مبلغ معين تحت تصرف شخص ما -فتح الاعتماد- وهو في الحقيقة لن يسحب جميع المبلغ وإنما يأخذ مقداراً منه، أما البنك فيأخذ الربا -الفائدة- على جميع المبلغ المخصص له، والبنك في هذا أسوأ من ربا الجاهلية بكثير.
يقول الأستاذ الدكتور عبدالرزاق السنهوري في كتابه (الوسيط في شرح القانون المدني) (5/435): "... فالعميل الذي أودع النقود هو المقرض، والمصرف هو المقترض، وقد قدمنا أن هذه وديعة ناقصة وتعتبر قرضاً"، ويقول الدكتور على جمال الدين عوض في كتابه: (عمليات البنوك من الوجهة القانونية): إن الوديعة النقدية المصرفية في صورتها الغالبة تعد قرضاً، وهو ما يتفق مع القانون المصري، حيث تنص المادة 726 منه على ما يأتي: إذا كانت الوديعة مبلغاً من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك باستعماله، وكان المودع عنده مأذوناً له في استعماله اعتبر العقد قرضاً. ويأخذ كثير من تشريعات البلاد العربية بهذه القرينة، أي ينص على أن البنك يمتلك النقود المودعة لديه، ويلتزم بمجرد رد مثلها من نفس النوع".
فودائع البنوك تعتبر قرضاً في نظر الشرع والقانون، إلا أن الشرع حرم ربا الديون مطلقاً وأما القانون الوضعي فينص على إباحة هذا الربا ويسميه فوائد، وسنشير في آخر المقالة إلى باقة من الفتاوى العتيقة، لعلماء الأزهر وغيرهم تجاه هذه البنوك منذ نشأتها، وحتى وقتنا هذا، فلتنظر بعدُ.
أما قوله: "الدور الهائل الذي تلعبه البنوك بين المستثمر أو المدخر والمشروعات التنموية التي تصب فيها هذه المدخرات... إلى آخره"؛ فهو كلام من لا يعرف قليلاً ولا كثيراً عن المعاملات البنكية"، فإن استثمارات البنوك -التي تهدف إلى تحقيق أقصى ربح ممكن- تتمثل في التعامل في الديون والائتمان؛ إذ تقدم هذه البنوك خدمات ائتمانية معينة لعملائها المودعين -أي المقرضين لها- والمستثمرين لأموالها -أي المقترضين منها- وتحصل في مقابل ذلك على مدفوعات من هؤلاء العملاء، ومن هذا التعامل تحاول تحقيق أقصى ربح ممكن، ويتكون هذا التعامل أساساً من نوعين:
النوع الأول: الاتجار في الديون أو الائتمان.
والنوع الثاني: هو خلق أو صناعة الديون أو الائتمان؛ فهل هذا يعد استثماراً من الجهة الشرعية.
فالبنوك مؤسسات للوساطة المالية، ولا تتدخل بطريقة مباشرة في العملية الإنتاجية، وإنما تتوسط بين المقرضين والمقترضين، فتقوم بتحويل الفوائض المالية من القطاعات ذات الطاقة التمويلية الفائضة -المقرضين أو المودعين- إلى القطاعات ذات العجز في الموارد المالية (المقترضين)، ويتمثل دخل هذه البنوك في الفرق بين ما تحصل عليه من فوائد من المقترضين، وما تدفعه من فوائد للمقرضين.
يقول الأستاذ الدكتور "رفعت العوضي" أستاذ الاقتصاد بكلية التجارة جامعة الأزهر في " دراسة له عن البنوك الربوية": "إن الاقتصاد الربوي شر، وليست هذا مقولة الاقتصاديين المرتبطين بالاقتصاد الإسلامي وحدهم، وإنما هي أيضاً مقولة من يرتبط بالاقتصاديات الوضعية إن أهم النتائج التي تسجل دراستي هي:
1- أن التحليل الاقتصادي قد تخلى عن الفائدة. ويعني ذلك أننا في مجال التحليل الاقتصادي النظري لا نرتبط بالفائدة.
2- أن الاقتصاديات حين تواجه أزمة اقتصادية، فإن الاقتصاديين لا يزيدون في المطالبة بإلغاء دور الفائدة.
3- أنه ثبت أن اقتصاديات البلاد لا تستجيب فيها المتغيرات الاقتصادية للمتغيرات في الفائدة، ويعني ذلك عدم فعالية الفائدة في هذه الاقتصاديات.
4- أثبت الدراسات التطبيقية أن رؤوس الأموال التي تتعامل بالربا تنقص قيمتها الحقيقية، وقد اقترح الاقتصاديون أنفسهم أنه لضمان عدم تناقص القيمة الحقيقية لرؤوس الأموال هذه أن يكون أسلوب استثمارها هو المشاركة، وهم -بذلك- وصولاً إلى ما قال به الإسلام خمسة عشر قرناً.
5- استنتجنا في الدراسة عناصر اقتصادية للمنهج الإسلامي في تشغيل رأس المال، وهي عناصر تجعل الاقتصاديات التي تدار وفق المنهج الإسلامي في تشغيل رأس المال تتقدم تقدماً اقتصادياً حقيقياً، الدراسة السابقة تثبت أن إلغاء الاقتصاد الربوي ليس فيه خطر بل إن الدراسة الاقتصادية تقول: إن إلغاء الاقتصاد الربوي هو ضرورة اقتصادية وهو علاج اقتصادي حتمي" اهـ.
أما قوله: " إن الادعاء بان التعامل مع البنوك حرام هو إجهاض لاقتصاد الأمة وتخريب لمشاريعه..."؛ فهي دعوة قديمة أطلقها قبله نفر قليلون من الذين أباحوا ربا البنوك، وقد أجاب عنها الدكتور "رفعت" في دراسته -المشار إليها آنفاً- قال: وفي رأيي أن هذه مغالطة، بل ومغالطة خطيرة؛ ذلك أن إلغاء التعامل بالربا لا يعني إلغاء الجهاز المصرفي؛ على سبيل المثال، والتجربة تقول لنا ذلك لقد قامت الآن بنوك إسلامية تؤدي جميع الوظائف التي تؤديها البنوك ولكنها ألغت التعامل بالربا لذاك أرى أنه يجب أن نحثو التراب في وجه من يقول إن إلغاء الربا يعني توقف الحياة الاقتصادية؛ لأنه بذلك يكون مغالطاً. اهـ.
وقال العلامة الأستاذ الدكتور "علي السالوس" -أستاذ الفقه والأصول بكلية الشريعة جامعة قطر والخبير في الفقه والاقتصاد بمجمع الفقه بمنظمة المؤتمر الإسلامي-: قال جوهان فيليب مزايهرفون بتمان - وهو مدير البنك الألماني في فرانكفورت الذي ألف كتاباً عن الفوائد أسماه (كارثة الفائدة): "على غرابة التشبيه فإنني أقول-: إنه كما تقلل المياه، من صفاء وقوة وتركيز عصير البرتقال أو اللبن الحليب، فإن ارتفاع الفائدة يقلل من قيمة العملة كلما ارتفعت الفائدة كلما تدهور النقد؛ فكما يؤدي الماء إلى رداءة عصير البرتقال أو الحليب، تؤدي الفائدة رداءة النقود... الفائدة العالية تدمر قيمة النقود وتنسف أي نظام نقدي ما دامت تزيد كل يوم، وتتوقف سرعة التدمير وحجمه على مقدار الفائدة ومدتها.
ولكن ما الفائدة العالية؟ ومتى يمكن اعتبارها عالية؟ أي: ما المقياس لمقدار الفائدة المناسب؟
المقياس هو إنتاجية الاقتصادي القومي، أي هو القيمة المضافة، أو الزيادة في الإنتاج، أو قيمة الأصول الموجودة في المجتمع، والناشئة عن تشغيل رأس المال النقدي (النقود) في هذا المجتمع، أي الربح الناشئ عن استخدام النقود في نشاط منتج، فكل الفوائد تعتبر عالية إذا زادت عن معدل الإنتاجية في المجتمع؛ فحيثما يحدث ذلك فمقدار الفائدة يعتبر مرتفعاً، ومعنى ذلك أن النقود تتكلف أكثر مما تحققه من ناتج استخدامها، وانخفاض قيمة النقود معناه: "تضخم" فكل زيادة في الفوائد عن معدل الزيادة في الإنتاجية معناه حقن التضخم بمزيد من الجرعات المنشطة للتضخم، فيعقب ذلك الكساد؛ فالفائدة المرتفعة معناها بسهولة زيادة تخمية في النقود؛ ولذلك كانت الفائدة المرتفعة هي التضخم ذاته " اهـ.
أما قوله: " طواعية وبدون إلزام ولا إجبار": فإن عدم الإكراه على العقد شرط من شروط العقد -كما هو معلوم- وليس هو مجموع الشروط كلها حتى تناط به صحة العقد، فمثلا لو اشترى رجل سيارة يعلم أنها مسروقة، بطواعيته وبدون إلزام ولا إجبار، فهل يصح البيع؟! لا يصح بالطبع، لوجود ما يبطله، ومعلوم عند الفقهاء أن العقد إذا اشتمل على شرط يخالف الشرع فهو عقد باطل سواء تم برضا الطرفين أو برضا أحدهما دون الآخر، ففي الحديث عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: " "، وأي شرط أقبح من شرط الربا؟!!!
أما قوله: "إن أهم ما تتسم به هذه المنظومة هو الرضا والقبول فأين الحرام"؛ فإن الرضا بالتعامل المحرم لا يسوغ فعله، ولا يجعله مباحًا؛ فغالب عمليات القمار والميسر والبيوعات الربوية وما شابه، تحدث عن تراضٍ من الطرفين، لكن الشارع لم ينظر إلى ذلك ولم يجعل الرضا وحده مبيحاً للمعاملات المحرمة، بل لا بد مع الرضا من أن تعرض المعاملات على الموازين الشرعية، فما كان منها صالحا أُمضي وما كان منها غير صالح رُدَّ؛ فالحرام لا يكون صحيحاً نافذاً ولو تم بتراض من الطرفين، وإنما تعرف الصحة من الفساد عن طريق الشارع؛ فلو تراضى اثنان -مثلا- على أن يزني أحدهما بابنة الآخر -نظير مبلغ معين- أو تراضيا على السب كما يفعله كثير من السوقة، أو تم بيع صنف ربوي بمثله متفاضلاً عن تراض وهكذا لا يصح؛ فالمعتبر قبل الرضا هو حِلُّ الفعل أو العقد.
فالرضا شرط من شروط صحة العقود المباحة، وعلامته الإيجاب والقبول؛ إقامة للمظنة مقام المئنة؛ لأن الرضا مما ينعقد عليه القلب، ولا سبيل للوصول إليه، فأقيمت الصيغة الظاهرة مقامه، ولم يجعل الله الرضا في العقود لأجل تحليل ما حرم منها؛ فالناس قد يتراضون فيما بينهم على ما لا يحل، كما مضى بيانه، وهو واضح في حديث إعتاق عائشة رضي الله عنها لبريرة، وأن رضاها بأن يكون الولاء لهم غير مُعتَبَر شرعاً؛ لأنه يخالف نص الشارع، ولو رضيت به عائشة رضي الله عنها أثناء العقد ظاهراً.
وقوله: "وليس فيها غش أو استغلال أو ظلم أو غير ذلك مما حرمته شريعة الإسلام هي معاملة حلال"فلو سلمنا صحة ما يقول؛ فإن الله تعالى حرَّم في العقود أشياء كثيرة غير ما ذُكِرَ فحَّرم أيضاً ربا الجاهلية الذي هو عبارة عن زيادة مشروطة على أصل المال، بل الربا أشد حرمة من كل ما ذُكر فمن المعلوم أن الربا من أغلظ المحرمات، وأكبر الكبائر والتعامل به يعني إعلان الحرب على الله، ولا يُعلم ذنب -دون الكفر- كان الوعيد فيه بهذا الترهيب إلا الربا؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " "، وفي (صحيح مسلم) من حديث جابر أنه قال: " "، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: " "، وعن عبد الله بن حنظلة "غسيل الملائكة" رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " (رواه أحمد).
وقال "الإمام الشوكاني": "يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي؛ لأن المعصية التي تعدل معصية الزنا، التي هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور، بل أشد منها لا شك أنها قد تجاوزت الحد في القبح".
وقوله: "إذ لا تحريم إلا بنص شرعي" نعم؛ وقد مرّت بك النصوص من الكتاب والسنة والإجماع اليقيني على تحريم فوائد البنوك وأنها عين ربا الجاهلية الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم تحت قدميه الشريفتين؛ وليعلم أنه كما لا يجوز التحريم إلا بدليل من الكتاب أو السنة كذلك لا يجوز تحليل ما حرمه الله سبحانه؛ قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:116].
أما القول: "مجمع البحوث الإسلامية انتهى بالإجماع إلا صوتاً واحداً"؛ فمغالطة ظاهرة من قائلها؛ لأن مجمع البحوث ظل يفتي بإجماع أعضائه على مدى أكثر من ثلاثة عقود بتحريم معاملات البنوك، وأنها من ربا الجاهلية، إلى أن أتى شيخ الأزهر الحالي وخرق الإجماع وتبنى القول بإباحة ربا البنوك وهو الرئيس الحالي للمجمع بعد ما كان يقول -أيضا- بالتحريم في فتوى برقم: 41/224 بتاريخ 14 رجب"1409هـ الموافق 20/2/1989، أما العضوان المخالفان فهما الوحيدان المتخصصان في الفقه.
أما عن تعقيب "محرر الأهرام"؛ فمن المعلوم أن المفتي في مصر يختلف عن المفتي في أي بلد آخر كالسعودية -مثلا- فهو في مصر عبارة عن "موظف" في وزارة العدل تُحال إليه أوراق المتهمين للفصل فيها أحياناً لا سيما المحكوم عليهم بالإعدام للتوقيع عليها؛ ولذلك فلا غرابة أن تجد فتاواه موافقه لتوجه الدولة الرسمي، وهذا هو سر سيل فتاواه الشاذة من إباحة الربا، وتصحيح زواج الطلبة في الجامعات، الذي هو محض الزنا، وتجويزه لعمليات رتق غشاء البكارة للفاجرات الزواني، إلى القول ببدعية النقاب بل والمنع من لبسه في بلاد الغرب الكافر، وجواز لبس البنطلون... إلى آخره من الفتاوى التي لا ولن تنتهي؛ لأنها تعبير عن موقف رسمي؛ وهو ما يفسر السر في رضا محرر الأهرام عن أقواله ودعوته الناس للأخذ بفتاواه.
وننبه القارئ الكريم إلى أن الفتاوى المعاصرة من الصعوبة والتعقيد والتشعب بمكان -لا سيما في مجال الاقتصاد والطب وغيرها- بحيث يصعب جداً أن توفيها فتاوى فردية؛ فالحاجة ماسة إلى الاجتهاد الجماعي وإلى وجود الخبراء في جميع المجالات ليوصفوا للفقهاء التوصيف الصحيح، ولذلك تجد فتاوى المجامع الفقهية أقرب للصواب في الغالب لتوافر تلك الشروط فيها بخلاف الفتاوى الفردية.
ولمزيد فائدة سنذكر نبذة عطرة من فتاوى كبار علماء الأزهر الذين تولوا مناصب الإفتاء والمشيخة في مصر وغيرها، وهم أساتذة لعلي جمعة أو أساتذة لمشايخه: ومنهم العلامة "عبد المجيد سليم" -مفتى الديار المصرية- ، والعلامة الشيخ "حسن مأمون" -شيخ الأزهر- ، والعلامة "محمود شلتوت" -شيخ الأزهر- ، والشيخ "جاد الحق على جاد الحق" -شيخ الأزهر- ، والعلامة الأستاذ الدكتور "أحمد النجار"، والعلامة: "عبد اللطيف حمزة" -مفتي الديار المصرية- ، والعلامة "أحمد هريدي"، والعلامة "عطية صقر -رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا- والأستاذ الدكتور "محمد عبدالله العربي"، والدكتور "محمود أبو السعود"... وكثير من الاقتصاديين والشرعيين، قال العلامة "أحمد هريدي "2 يوليو 1969م:
"الفوائد ربا وهو محرم شرعا في جميع صوره وأحواله، والأموال المودعة بأحد البنوك الأجنبية بفائدة تقضي النصوص الفقهية بعدم جواز أخذها والانتفاع بها على أي وجه، ولو بالتصدق أو الإنفاق في المشروعات العامة، ويجوز إيداع الأموال بالبنوك بلا فائدة إذا قضت ضرورة بذلك".
وقال العلامة: "عبد اللطيف حمزة" مفتي الديار المصرية سنة 1982 م -19 ذو القعدة سنة 1402 هجرية - 7 سبتمبر سنة 1982 م -:
اتفق فقهاء الشريعة الإسلامية على أن الفائدة المحددة التي تعطيها البنوك على الإيداع أو الاقتراض من قبيل ربا الزيادة المحرمة شرعاً فلا يُباح للسائل أن ينتفع بها، وله -إن أخذها- أن يوزعها على الفقراء والمساكين؛ تخلصا منها، ولكن لا يُثاب عليها؛ لأنه مال حرام، والله سبحانه وتعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإلا تركها للبنك ليتولى صرفها حسبما يرى، والله سبحانه وتعالى أعلم".
وقال الشيخ: "جاد الحق على جاد الحق" شيخ الأزهر السابق - صفر 1401 هجرية - 29 ديسمبر 1980 م -:
"الفوائد المسؤول عنها التي تقع في عقود الودائع في البنوك، وفي صناديق التوفير في البريد، وفي البنوك، وفي شهادات الاستثمار محددة المقدار بنسبة معينة من رأس المال المودع، وكانت الوديعة على هذا من باب القرض بفائدة، ودخلت في نطاق ربا الفضل أو ربا الزيادة كما يسميه الفقهاء وهو محرم في الإسلام بعموم الآيات في القرآن الكريم وبنص السنة الشريفة وبإجماع المسلمين: لا يجوز لمسلم أن يتعامل بها أو يقتضيها؛ لأنه مسؤول أمام الله عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؛ كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي (رواه الترمذى) ونصه: " " (صحيح الترمذي) ج 9 ص 253 في أبواب (صفة القيامة والرقائق والورع) والله سبحانه وتعالى أعلم"، وله فتوى أخرى في ذي القعدة 1400 هجرية - 8 أكتوبر 1980 م، ربيع الأول 1401 هجرية - 13 يناير 1981 م".
وقال العلامة: "عبد المجيد سليم" مفتى الديار المصرية سنة 1944. (الفتاوى الإسلامية المجلد الرابع) ص 1293، جمادى الأولى 1362 هجرية - 20 مايو 1943 م -: "ونفيد أن أخذ فوائد على الأموال المودعة بالبنوك من قبيل أخذ الربا المحرَّم شرعاً، ولا يبيح أخذه قصد التصدق به لإطلاق الآيات والأحاديث على تحريم الربا".
وقال العلامة "عطية صقر": مايو 1997: سئل عن العمل في بنك التسليف، وجميع أعماله فيها فوائد وربا، فهل عليَّ حرمة في هذا، علماً بأني محتاج إلى العمل فيه؟
فأجاب: "معلوم أن الربا حرام حرمة كبيرة، وذلك ثابت بالقرآن والسنة والإجماع، وكل ما يوصل إلى الحرام ويساعد عليه فهو حرام؛ كما هو مقرر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما (رواه مسلم) عن جابر بن عبد الله " ".
وقد رفع مثل هذا السؤال إلى المرحوم الشيخ "عبد المجيد سليم" مفتى الديار المصرية سنة 1944 م فأجاب بنفس الجواب السابق"، بل إن شيخ الأزهر الحالي قد أفتى هو نفسه بحرمة فوائد البنوك، وأنها من الربا المجمع على تحريمة في الفتوى المسجلة برقم: 41/224 بتاريخ 14 رجب"1409هـ الموافق 20/2/1989.
ومما جاء فيها: "... لما كان ذلك، وكان إيداع الأموال في البنوك أو إقراضها أو الاقتراض منها بأي صورة من الصور مقابل فائدة محددة مقدماً زمناً ومقداراً يعتبر قرضاً بفائدة، وكل قرض بفائدة محددة مقدماً حرام، كانت تلك الفوائد التي تعود على السائل داخلة في نطاق ربا الزيادة المحرم شرعاً بمقتضى النصوص الشرعية".
وبهذا البيان الموجز يتبن أن تحريم فوائد البنوك وأنها عين ربا الجاهلية، هو قول قديم لعلماء الأمة الإسلامية في جميع أقطارها، ودرج عليه العلماء المعاصرون ممن تولى مناصب الإفتاء وغيرها.
فالبنوك التقليدية الربوية القائمة في بلادنا إنما هي من مخلفات الاستعمار الرأسمالي، وأنظمته الربوية، التي غرست في نفوس بعض الناس أن الاقتصاد عصب الحياة، والبنوك عصب الاقتصاد، والفوائد عصب البنوك، في حين أثبتت البنوك الإسلامية للجميع عملياً أن إقامة بنوك لا تمنح فوائد أمر ممكن، وأنها تتسع لكل الأنشطة المصرفية والمالية.
فالقول بتحريم الفوائد البنكية (الربوية) ليس قول بعض من يفتي في القنوات الفضائية فحسب، بل هو قول من ذكرنا -وهم غيض من فيض- ممن أعلنوا أن فوائد البنوك هي الربا المحرم، والمقام لا يتسع حصرهم والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــ
من فتاوى موقع الألوكة.
فقبل الشروع في الجواب المفصل على ما ورد في هذا التصريح من أباطيل، أحب أن أنبه القارئ الكريم إلى أن ما ذُكر فيها من فتاوى رسمية بإباحة ربا البنوك يعلم الجميع -إلا ما نَدُر- أن "علي جمعة" كان يفتي قبل توليه لهذا المنصب بحرمة التعامل مع البنوك الربوية، سواء أيام كان يعمل في السعودية أو في مصر، ثم أصدرت تلك الفتاوى مؤخراً واتهم فيها من يحرم ربا البنوك بالجهل!! -في تصريح له- وهم عامة علماء الأمة المعتبرين من الأحياء والأموات من فقهاء الشريعة، وفقهاء الاقتصاد، بل ورجال القانون الذين يُوَصفون تعامل البنوك بأنه قرض ولكن يبيحونه من جهة القانون الوضعي لا من جهة الشرع الإسلامي الحنيف.
ولو أن الشيخ كلف نفسه بالرجوع لأهل التخصص من الفقهاء أو خبراء الاقتصاد لمعرفة التوصيف العلمي لعمل البنك، ولمعرفة الجانب المدمر للاقتصاد الربوي، الذي لا يتصور البتة موافقته للشرع؛ لأنه من صنع اليهود ونشأ في غير بلاد المسلمين؛ ولذلك لا يتصور عقلاً أن تراعى فيه الحدود الشرعية، فلا عجب ولا غرابة أن يتفق العلماء على أنه من الحرام البيِّن وليس من الشبهات فقط منذ زمن بعيد -إلا من شذَّ منهم- وهو قول جميع المجامع الفقهية، ولجان الفتوى في العالم العربي والإسلامي؛ ومنها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي، المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، الذي يضم علماء (55) دولة، وفيه أكثر من مئة خبير في جميع التخصصات مثل الدكتور على السالوس، والدكتور وهبة الزحيلي وغيرهم من خبراء الاقتصاد والقانون والفقه.
و(المجمع الفقهي بمكة المكرمة)، الذي يضم خيرة العلماء والفقهاء في العالم، و(مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا)، و(اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بالسعودية)، و(هيئة كبار العلماء بالسعودية)، وعلى رأسهم الشيخ "محمد بن إبراهيم"، والشيخ "عبد العزيز بن باز"، و"ابن عثيمين" وغيرهم كثير من علماء الأمة، وإليكم أولاً مجموعة من القرارات المعتمدة:
قرار المؤتمر الإسلامي الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة:
انعقد المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية، بالقاهرة في شهر المحرم سنة 1385هـ - الموافق مايو 1965م، والذي ضم ممثلين ومندوبين عن خمس وثلاثين دولة إسلامية في عهد العلامة حسن مأمون شيخ الأزهر، وقد قرر المؤتمر بالإجماع بشأن المعاملات المصرفية ما يلي:
أولاً: الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي، وما يسمى بالقرض الإنتاجي؛ لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.
ثانياً: كثير الربا وقليله حرام، كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:130].
ثالثاً: الإقراض بالربا محرَّم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة.
رابعاً: أعمال البنوك من الحسابات الجارية، وصرف الشيكات، وخطابات الاعتماد، والكمبيالات الداخلية، التي يقوم عليها العمل بين التُّجَّار والبنوك في الداخل - كل هذا من المعاملات المصرفية الجائزة، وما يؤخذ في نظير هذه الأعمال ليس من الربا.
خامساً: الحسابات ذات الأجل، وفتح الاعتماد بفائدة، وسائر أنواع الإقراض نظير فائدة كلها من المعاملات الربوية وهي محرمة.
قرار مجمع رابطة العالم الإسلامي، إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته التاسعة المنعقدة بمبنى رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 12رجب 1406هـ - إلى يوم السبت 19رجب 1406هـ - قد نظر في موضوع (تفشي المصارف الربوية، وتعامل الناس معها، وعدم توافر البدائل عنها)، قد أثبتت البحوث الاقتصادية الحديثة أن الربا خطر على اقتصاد العالم وسياسته، وأخلاقياته وسلامته، وأنه وراء كثير من الأزمات التي يعانيها العالم، وألا نجاة من ذلك إلا باستئصال هذا الداء الخبيث الذي هو الربا من جسم العالم؛ ومن هنا يقرر المجلس ما يلي:
أولاً: يجب على المسلمين كافة أن ينتهوا عما نهى الله تعالى عنه من التعامل بالربا، أخذاً أو عطاءً، والمعاونة عليه بأي صورة من الصور، حتى لا يحل بهم عذاب الله، ولا يأذنوا بحرب من الله ورسوله.
ثانياً: ينظر المجلس بعين الارتياح والرضا إلى قيام المصارف الإسلامية، التي هي البديل الشرعي للمصارف الربوية، ويعني بالمصارف الإسلامية: كل مصرف ينص نظامه الأساسي على وجوب الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية الغراء في جميع معاملاته ويُلزم إدارته بوجوب وجود رقابة شرعية مُلزمة.
ثالثاً: يحرم على كل مسلم يتيسر له التعامل مع مصرف إسلامي أن يتعامل مع المصارف الربوية في الداخل أو الخارج، إذ لا عذر له في التعامل معها بعد وجود البديل الإسلامي، ويجب عليه أن يستعيض عن الخبيث بالطيب، ويستغني بالحلال عن الحرام.
رابعاً: يدعو المجلس المسؤولين في البلاد الإسلامية والقائمين على المصارف الربوية فيها إلى المبادرة الجادة لتطهيرها من رجس الربا؛ استجابة لنداء الله تعالى: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة:278].
خامساً: كل مال جاء عن طريق الفوائد الربوية هو مال حرام شرعاً، لا يجوز أن ينتفع به المسلم -مودع المال- لنفسه أو لأحد ممن يعوله في أي شأن من شؤونه، ويجب أن يصرف في المصالح العامة.
قرار مجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي: إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406هـ- الموافق 22 - 28 ديسمبر 1985م - قرر ما يلي:
أولاً: إن كل زيادة (أو فائدة) على الدَّين الذي حل أجله، وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (أو الفائدة) على القرض منذ بداية العقد: هاتان الصورتان رباً محرم شرعاً.
ثانياً: إن البديل الذي يضمن السيولة المالية والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التي يرتضيها الإسلام - هي التعامل وفقاً للأحكام الشرعية ولاسيما ما صدر عن هيئات الفتوى المعنية بالنظر في جميع أحوال التعامل التي تمارسها المصارف الإسلامية في الواقع العملي.
ثالثاً: قرَّر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف الإسلامية القائمة، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامي؛ لتغطي حاجة المسلمين كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته.
هذا؛ وليُعلم أن ودائع البنوك هي عقد قرض شرعاً - كما تقدم- وقانوناً، وعند علماء الاقتصاد؛ فالمصرف أو البنك: هو مؤسسة تتخصص في إقراض واقتراض النقود، كما في "الموسوعة العربية الميسرة"، وقد اتفق أساتذة الاقتصاد وعلماء القانون وفقهاء الشريعة على هذا التعريف.
فالوظيفة الأولى للبنوك هي الاتجار في الديون، بأن تقوم بإقراض ما أودع لديها، أو ما اقترضته من المودعين مقابل زيادة محددة على أصل المال، ووظيفتها الثانية هي: خلق الديون أو الائتمان يعني: إقراض ما لم تملكه بالفعل؛ فتَخْلُق النقود وتقرضها! وذلك بوضع مبلغ معين تحت تصرف شخص ما -فتح الاعتماد- وهو في الحقيقة لن يسحب جميع المبلغ وإنما يأخذ مقداراً منه، أما البنك فيأخذ الربا -الفائدة- على جميع المبلغ المخصص له، والبنك في هذا أسوأ من ربا الجاهلية بكثير.
يقول الأستاذ الدكتور عبدالرزاق السنهوري في كتابه (الوسيط في شرح القانون المدني) (5/435): "... فالعميل الذي أودع النقود هو المقرض، والمصرف هو المقترض، وقد قدمنا أن هذه وديعة ناقصة وتعتبر قرضاً"، ويقول الدكتور على جمال الدين عوض في كتابه: (عمليات البنوك من الوجهة القانونية): إن الوديعة النقدية المصرفية في صورتها الغالبة تعد قرضاً، وهو ما يتفق مع القانون المصري، حيث تنص المادة 726 منه على ما يأتي: إذا كانت الوديعة مبلغاً من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك باستعماله، وكان المودع عنده مأذوناً له في استعماله اعتبر العقد قرضاً. ويأخذ كثير من تشريعات البلاد العربية بهذه القرينة، أي ينص على أن البنك يمتلك النقود المودعة لديه، ويلتزم بمجرد رد مثلها من نفس النوع".
فودائع البنوك تعتبر قرضاً في نظر الشرع والقانون، إلا أن الشرع حرم ربا الديون مطلقاً وأما القانون الوضعي فينص على إباحة هذا الربا ويسميه فوائد، وسنشير في آخر المقالة إلى باقة من الفتاوى العتيقة، لعلماء الأزهر وغيرهم تجاه هذه البنوك منذ نشأتها، وحتى وقتنا هذا، فلتنظر بعدُ.
أما قوله: "الدور الهائل الذي تلعبه البنوك بين المستثمر أو المدخر والمشروعات التنموية التي تصب فيها هذه المدخرات... إلى آخره"؛ فهو كلام من لا يعرف قليلاً ولا كثيراً عن المعاملات البنكية"، فإن استثمارات البنوك -التي تهدف إلى تحقيق أقصى ربح ممكن- تتمثل في التعامل في الديون والائتمان؛ إذ تقدم هذه البنوك خدمات ائتمانية معينة لعملائها المودعين -أي المقرضين لها- والمستثمرين لأموالها -أي المقترضين منها- وتحصل في مقابل ذلك على مدفوعات من هؤلاء العملاء، ومن هذا التعامل تحاول تحقيق أقصى ربح ممكن، ويتكون هذا التعامل أساساً من نوعين:
النوع الأول: الاتجار في الديون أو الائتمان.
والنوع الثاني: هو خلق أو صناعة الديون أو الائتمان؛ فهل هذا يعد استثماراً من الجهة الشرعية.
فالبنوك مؤسسات للوساطة المالية، ولا تتدخل بطريقة مباشرة في العملية الإنتاجية، وإنما تتوسط بين المقرضين والمقترضين، فتقوم بتحويل الفوائض المالية من القطاعات ذات الطاقة التمويلية الفائضة -المقرضين أو المودعين- إلى القطاعات ذات العجز في الموارد المالية (المقترضين)، ويتمثل دخل هذه البنوك في الفرق بين ما تحصل عليه من فوائد من المقترضين، وما تدفعه من فوائد للمقرضين.
يقول الأستاذ الدكتور "رفعت العوضي" أستاذ الاقتصاد بكلية التجارة جامعة الأزهر في " دراسة له عن البنوك الربوية": "إن الاقتصاد الربوي شر، وليست هذا مقولة الاقتصاديين المرتبطين بالاقتصاد الإسلامي وحدهم، وإنما هي أيضاً مقولة من يرتبط بالاقتصاديات الوضعية إن أهم النتائج التي تسجل دراستي هي:
1- أن التحليل الاقتصادي قد تخلى عن الفائدة. ويعني ذلك أننا في مجال التحليل الاقتصادي النظري لا نرتبط بالفائدة.
2- أن الاقتصاديات حين تواجه أزمة اقتصادية، فإن الاقتصاديين لا يزيدون في المطالبة بإلغاء دور الفائدة.
3- أنه ثبت أن اقتصاديات البلاد لا تستجيب فيها المتغيرات الاقتصادية للمتغيرات في الفائدة، ويعني ذلك عدم فعالية الفائدة في هذه الاقتصاديات.
4- أثبت الدراسات التطبيقية أن رؤوس الأموال التي تتعامل بالربا تنقص قيمتها الحقيقية، وقد اقترح الاقتصاديون أنفسهم أنه لضمان عدم تناقص القيمة الحقيقية لرؤوس الأموال هذه أن يكون أسلوب استثمارها هو المشاركة، وهم -بذلك- وصولاً إلى ما قال به الإسلام خمسة عشر قرناً.
5- استنتجنا في الدراسة عناصر اقتصادية للمنهج الإسلامي في تشغيل رأس المال، وهي عناصر تجعل الاقتصاديات التي تدار وفق المنهج الإسلامي في تشغيل رأس المال تتقدم تقدماً اقتصادياً حقيقياً، الدراسة السابقة تثبت أن إلغاء الاقتصاد الربوي ليس فيه خطر بل إن الدراسة الاقتصادية تقول: إن إلغاء الاقتصاد الربوي هو ضرورة اقتصادية وهو علاج اقتصادي حتمي" اهـ.
أما قوله: " إن الادعاء بان التعامل مع البنوك حرام هو إجهاض لاقتصاد الأمة وتخريب لمشاريعه..."؛ فهي دعوة قديمة أطلقها قبله نفر قليلون من الذين أباحوا ربا البنوك، وقد أجاب عنها الدكتور "رفعت" في دراسته -المشار إليها آنفاً- قال: وفي رأيي أن هذه مغالطة، بل ومغالطة خطيرة؛ ذلك أن إلغاء التعامل بالربا لا يعني إلغاء الجهاز المصرفي؛ على سبيل المثال، والتجربة تقول لنا ذلك لقد قامت الآن بنوك إسلامية تؤدي جميع الوظائف التي تؤديها البنوك ولكنها ألغت التعامل بالربا لذاك أرى أنه يجب أن نحثو التراب في وجه من يقول إن إلغاء الربا يعني توقف الحياة الاقتصادية؛ لأنه بذلك يكون مغالطاً. اهـ.
وقال العلامة الأستاذ الدكتور "علي السالوس" -أستاذ الفقه والأصول بكلية الشريعة جامعة قطر والخبير في الفقه والاقتصاد بمجمع الفقه بمنظمة المؤتمر الإسلامي-: قال جوهان فيليب مزايهرفون بتمان - وهو مدير البنك الألماني في فرانكفورت الذي ألف كتاباً عن الفوائد أسماه (كارثة الفائدة): "على غرابة التشبيه فإنني أقول-: إنه كما تقلل المياه، من صفاء وقوة وتركيز عصير البرتقال أو اللبن الحليب، فإن ارتفاع الفائدة يقلل من قيمة العملة كلما ارتفعت الفائدة كلما تدهور النقد؛ فكما يؤدي الماء إلى رداءة عصير البرتقال أو الحليب، تؤدي الفائدة رداءة النقود... الفائدة العالية تدمر قيمة النقود وتنسف أي نظام نقدي ما دامت تزيد كل يوم، وتتوقف سرعة التدمير وحجمه على مقدار الفائدة ومدتها.
ولكن ما الفائدة العالية؟ ومتى يمكن اعتبارها عالية؟ أي: ما المقياس لمقدار الفائدة المناسب؟
المقياس هو إنتاجية الاقتصادي القومي، أي هو القيمة المضافة، أو الزيادة في الإنتاج، أو قيمة الأصول الموجودة في المجتمع، والناشئة عن تشغيل رأس المال النقدي (النقود) في هذا المجتمع، أي الربح الناشئ عن استخدام النقود في نشاط منتج، فكل الفوائد تعتبر عالية إذا زادت عن معدل الإنتاجية في المجتمع؛ فحيثما يحدث ذلك فمقدار الفائدة يعتبر مرتفعاً، ومعنى ذلك أن النقود تتكلف أكثر مما تحققه من ناتج استخدامها، وانخفاض قيمة النقود معناه: "تضخم" فكل زيادة في الفوائد عن معدل الزيادة في الإنتاجية معناه حقن التضخم بمزيد من الجرعات المنشطة للتضخم، فيعقب ذلك الكساد؛ فالفائدة المرتفعة معناها بسهولة زيادة تخمية في النقود؛ ولذلك كانت الفائدة المرتفعة هي التضخم ذاته " اهـ.
أما قوله: " طواعية وبدون إلزام ولا إجبار": فإن عدم الإكراه على العقد شرط من شروط العقد -كما هو معلوم- وليس هو مجموع الشروط كلها حتى تناط به صحة العقد، فمثلا لو اشترى رجل سيارة يعلم أنها مسروقة، بطواعيته وبدون إلزام ولا إجبار، فهل يصح البيع؟! لا يصح بالطبع، لوجود ما يبطله، ومعلوم عند الفقهاء أن العقد إذا اشتمل على شرط يخالف الشرع فهو عقد باطل سواء تم برضا الطرفين أو برضا أحدهما دون الآخر، ففي الحديث عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: " "، وأي شرط أقبح من شرط الربا؟!!!
أما قوله: "إن أهم ما تتسم به هذه المنظومة هو الرضا والقبول فأين الحرام"؛ فإن الرضا بالتعامل المحرم لا يسوغ فعله، ولا يجعله مباحًا؛ فغالب عمليات القمار والميسر والبيوعات الربوية وما شابه، تحدث عن تراضٍ من الطرفين، لكن الشارع لم ينظر إلى ذلك ولم يجعل الرضا وحده مبيحاً للمعاملات المحرمة، بل لا بد مع الرضا من أن تعرض المعاملات على الموازين الشرعية، فما كان منها صالحا أُمضي وما كان منها غير صالح رُدَّ؛ فالحرام لا يكون صحيحاً نافذاً ولو تم بتراض من الطرفين، وإنما تعرف الصحة من الفساد عن طريق الشارع؛ فلو تراضى اثنان -مثلا- على أن يزني أحدهما بابنة الآخر -نظير مبلغ معين- أو تراضيا على السب كما يفعله كثير من السوقة، أو تم بيع صنف ربوي بمثله متفاضلاً عن تراض وهكذا لا يصح؛ فالمعتبر قبل الرضا هو حِلُّ الفعل أو العقد.
فالرضا شرط من شروط صحة العقود المباحة، وعلامته الإيجاب والقبول؛ إقامة للمظنة مقام المئنة؛ لأن الرضا مما ينعقد عليه القلب، ولا سبيل للوصول إليه، فأقيمت الصيغة الظاهرة مقامه، ولم يجعل الله الرضا في العقود لأجل تحليل ما حرم منها؛ فالناس قد يتراضون فيما بينهم على ما لا يحل، كما مضى بيانه، وهو واضح في حديث إعتاق عائشة رضي الله عنها لبريرة، وأن رضاها بأن يكون الولاء لهم غير مُعتَبَر شرعاً؛ لأنه يخالف نص الشارع، ولو رضيت به عائشة رضي الله عنها أثناء العقد ظاهراً.
وقوله: "وليس فيها غش أو استغلال أو ظلم أو غير ذلك مما حرمته شريعة الإسلام هي معاملة حلال"فلو سلمنا صحة ما يقول؛ فإن الله تعالى حرَّم في العقود أشياء كثيرة غير ما ذُكِرَ فحَّرم أيضاً ربا الجاهلية الذي هو عبارة عن زيادة مشروطة على أصل المال، بل الربا أشد حرمة من كل ما ذُكر فمن المعلوم أن الربا من أغلظ المحرمات، وأكبر الكبائر والتعامل به يعني إعلان الحرب على الله، ولا يُعلم ذنب -دون الكفر- كان الوعيد فيه بهذا الترهيب إلا الربا؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " "، وفي (صحيح مسلم) من حديث جابر أنه قال: " "، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: " "، وعن عبد الله بن حنظلة "غسيل الملائكة" رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " (رواه أحمد).
وقال "الإمام الشوكاني": "يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي؛ لأن المعصية التي تعدل معصية الزنا، التي هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور، بل أشد منها لا شك أنها قد تجاوزت الحد في القبح".
وقوله: "إذ لا تحريم إلا بنص شرعي" نعم؛ وقد مرّت بك النصوص من الكتاب والسنة والإجماع اليقيني على تحريم فوائد البنوك وأنها عين ربا الجاهلية الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم تحت قدميه الشريفتين؛ وليعلم أنه كما لا يجوز التحريم إلا بدليل من الكتاب أو السنة كذلك لا يجوز تحليل ما حرمه الله سبحانه؛ قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:116].
أما القول: "مجمع البحوث الإسلامية انتهى بالإجماع إلا صوتاً واحداً"؛ فمغالطة ظاهرة من قائلها؛ لأن مجمع البحوث ظل يفتي بإجماع أعضائه على مدى أكثر من ثلاثة عقود بتحريم معاملات البنوك، وأنها من ربا الجاهلية، إلى أن أتى شيخ الأزهر الحالي وخرق الإجماع وتبنى القول بإباحة ربا البنوك وهو الرئيس الحالي للمجمع بعد ما كان يقول -أيضا- بالتحريم في فتوى برقم: 41/224 بتاريخ 14 رجب"1409هـ الموافق 20/2/1989، أما العضوان المخالفان فهما الوحيدان المتخصصان في الفقه.
أما عن تعقيب "محرر الأهرام"؛ فمن المعلوم أن المفتي في مصر يختلف عن المفتي في أي بلد آخر كالسعودية -مثلا- فهو في مصر عبارة عن "موظف" في وزارة العدل تُحال إليه أوراق المتهمين للفصل فيها أحياناً لا سيما المحكوم عليهم بالإعدام للتوقيع عليها؛ ولذلك فلا غرابة أن تجد فتاواه موافقه لتوجه الدولة الرسمي، وهذا هو سر سيل فتاواه الشاذة من إباحة الربا، وتصحيح زواج الطلبة في الجامعات، الذي هو محض الزنا، وتجويزه لعمليات رتق غشاء البكارة للفاجرات الزواني، إلى القول ببدعية النقاب بل والمنع من لبسه في بلاد الغرب الكافر، وجواز لبس البنطلون... إلى آخره من الفتاوى التي لا ولن تنتهي؛ لأنها تعبير عن موقف رسمي؛ وهو ما يفسر السر في رضا محرر الأهرام عن أقواله ودعوته الناس للأخذ بفتاواه.
وننبه القارئ الكريم إلى أن الفتاوى المعاصرة من الصعوبة والتعقيد والتشعب بمكان -لا سيما في مجال الاقتصاد والطب وغيرها- بحيث يصعب جداً أن توفيها فتاوى فردية؛ فالحاجة ماسة إلى الاجتهاد الجماعي وإلى وجود الخبراء في جميع المجالات ليوصفوا للفقهاء التوصيف الصحيح، ولذلك تجد فتاوى المجامع الفقهية أقرب للصواب في الغالب لتوافر تلك الشروط فيها بخلاف الفتاوى الفردية.
ولمزيد فائدة سنذكر نبذة عطرة من فتاوى كبار علماء الأزهر الذين تولوا مناصب الإفتاء والمشيخة في مصر وغيرها، وهم أساتذة لعلي جمعة أو أساتذة لمشايخه: ومنهم العلامة "عبد المجيد سليم" -مفتى الديار المصرية- ، والعلامة الشيخ "حسن مأمون" -شيخ الأزهر- ، والعلامة "محمود شلتوت" -شيخ الأزهر- ، والشيخ "جاد الحق على جاد الحق" -شيخ الأزهر- ، والعلامة الأستاذ الدكتور "أحمد النجار"، والعلامة: "عبد اللطيف حمزة" -مفتي الديار المصرية- ، والعلامة "أحمد هريدي"، والعلامة "عطية صقر -رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا- والأستاذ الدكتور "محمد عبدالله العربي"، والدكتور "محمود أبو السعود"... وكثير من الاقتصاديين والشرعيين، قال العلامة "أحمد هريدي "2 يوليو 1969م:
"الفوائد ربا وهو محرم شرعا في جميع صوره وأحواله، والأموال المودعة بأحد البنوك الأجنبية بفائدة تقضي النصوص الفقهية بعدم جواز أخذها والانتفاع بها على أي وجه، ولو بالتصدق أو الإنفاق في المشروعات العامة، ويجوز إيداع الأموال بالبنوك بلا فائدة إذا قضت ضرورة بذلك".
وقال العلامة: "عبد اللطيف حمزة" مفتي الديار المصرية سنة 1982 م -19 ذو القعدة سنة 1402 هجرية - 7 سبتمبر سنة 1982 م -:
اتفق فقهاء الشريعة الإسلامية على أن الفائدة المحددة التي تعطيها البنوك على الإيداع أو الاقتراض من قبيل ربا الزيادة المحرمة شرعاً فلا يُباح للسائل أن ينتفع بها، وله -إن أخذها- أن يوزعها على الفقراء والمساكين؛ تخلصا منها، ولكن لا يُثاب عليها؛ لأنه مال حرام، والله سبحانه وتعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإلا تركها للبنك ليتولى صرفها حسبما يرى، والله سبحانه وتعالى أعلم".
وقال الشيخ: "جاد الحق على جاد الحق" شيخ الأزهر السابق - صفر 1401 هجرية - 29 ديسمبر 1980 م -:
"الفوائد المسؤول عنها التي تقع في عقود الودائع في البنوك، وفي صناديق التوفير في البريد، وفي البنوك، وفي شهادات الاستثمار محددة المقدار بنسبة معينة من رأس المال المودع، وكانت الوديعة على هذا من باب القرض بفائدة، ودخلت في نطاق ربا الفضل أو ربا الزيادة كما يسميه الفقهاء وهو محرم في الإسلام بعموم الآيات في القرآن الكريم وبنص السنة الشريفة وبإجماع المسلمين: لا يجوز لمسلم أن يتعامل بها أو يقتضيها؛ لأنه مسؤول أمام الله عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؛ كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي (رواه الترمذى) ونصه: " " (صحيح الترمذي) ج 9 ص 253 في أبواب (صفة القيامة والرقائق والورع) والله سبحانه وتعالى أعلم"، وله فتوى أخرى في ذي القعدة 1400 هجرية - 8 أكتوبر 1980 م، ربيع الأول 1401 هجرية - 13 يناير 1981 م".
وقال العلامة: "عبد المجيد سليم" مفتى الديار المصرية سنة 1944. (الفتاوى الإسلامية المجلد الرابع) ص 1293، جمادى الأولى 1362 هجرية - 20 مايو 1943 م -: "ونفيد أن أخذ فوائد على الأموال المودعة بالبنوك من قبيل أخذ الربا المحرَّم شرعاً، ولا يبيح أخذه قصد التصدق به لإطلاق الآيات والأحاديث على تحريم الربا".
وقال العلامة "عطية صقر": مايو 1997: سئل عن العمل في بنك التسليف، وجميع أعماله فيها فوائد وربا، فهل عليَّ حرمة في هذا، علماً بأني محتاج إلى العمل فيه؟
فأجاب: "معلوم أن الربا حرام حرمة كبيرة، وذلك ثابت بالقرآن والسنة والإجماع، وكل ما يوصل إلى الحرام ويساعد عليه فهو حرام؛ كما هو مقرر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما (رواه مسلم) عن جابر بن عبد الله " ".
وقد رفع مثل هذا السؤال إلى المرحوم الشيخ "عبد المجيد سليم" مفتى الديار المصرية سنة 1944 م فأجاب بنفس الجواب السابق"، بل إن شيخ الأزهر الحالي قد أفتى هو نفسه بحرمة فوائد البنوك، وأنها من الربا المجمع على تحريمة في الفتوى المسجلة برقم: 41/224 بتاريخ 14 رجب"1409هـ الموافق 20/2/1989.
ومما جاء فيها: "... لما كان ذلك، وكان إيداع الأموال في البنوك أو إقراضها أو الاقتراض منها بأي صورة من الصور مقابل فائدة محددة مقدماً زمناً ومقداراً يعتبر قرضاً بفائدة، وكل قرض بفائدة محددة مقدماً حرام، كانت تلك الفوائد التي تعود على السائل داخلة في نطاق ربا الزيادة المحرم شرعاً بمقتضى النصوص الشرعية".
وبهذا البيان الموجز يتبن أن تحريم فوائد البنوك وأنها عين ربا الجاهلية، هو قول قديم لعلماء الأمة الإسلامية في جميع أقطارها، ودرج عليه العلماء المعاصرون ممن تولى مناصب الإفتاء وغيرها.
فالبنوك التقليدية الربوية القائمة في بلادنا إنما هي من مخلفات الاستعمار الرأسمالي، وأنظمته الربوية، التي غرست في نفوس بعض الناس أن الاقتصاد عصب الحياة، والبنوك عصب الاقتصاد، والفوائد عصب البنوك، في حين أثبتت البنوك الإسلامية للجميع عملياً أن إقامة بنوك لا تمنح فوائد أمر ممكن، وأنها تتسع لكل الأنشطة المصرفية والمالية.
فالقول بتحريم الفوائد البنكية (الربوية) ليس قول بعض من يفتي في القنوات الفضائية فحسب، بل هو قول من ذكرنا -وهم غيض من فيض- ممن أعلنوا أن فوائد البنوك هي الربا المحرم، والمقام لا يتسع حصرهم والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــ
من فتاوى موقع الألوكة.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- التصنيف: