أسئلة مشروعة!
إن الناظر إلى الساحة السودانية اليوم يجد العجب العجاب، ومما يجد من ذلك:
- الشرك الصريح الذي بُعث محمد صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله لإزالته.
- البدعة في كثير من مجالات الشريعة؛ في العقيدة والعبادات والمعاملات وغيرها.
- المعاصي المتعلقة بالأعراض؛ من زنا وتبرج واختلاط إلى درجة أن الجامعات السودانية كلها -إلا ما رحم الله- مختلطة وينتشر فيها التبرج؛ بل تجد التبرج في كل مكان؛ في الشارع وفي المواصلات والأسواق ومؤسسات الدولة؛ وفي كل مكان في السودان.
- الغش في المعاملات والرشاوى؛ التي لا تخلو منها دائرة حكومية.
- الربا الذي لا يأبه الناس إلى أنه ربا؛ إلى درجة أن الناس لا يدرون أن كثيراً من المعاملات الدائرة بينهم أنها ربا!
- المحسوبية في الخدمة المدنية، والتعيين دون مراعاة لشرط الله في التعيين (القوي الأمين) وإنما بشرط التنظيم، أو القبيلة، أو الجهوية، أو غيرها.
- الفساد الإداري الذي أوصل السودان إلى مصاف الأوليات الدولية؛ لكن فقط في الفساد.
- ادعاء الحكومة بأنها تطبق الشريعة؛ ولم نر الشريعة لا في المحاكم، ولا في الشارع، ولا في الإعلام ، ولا في مؤسسات الدولة، ولا في تعليم الدولة، اللهم إلا الصلاة التي لم تنقطع عن السودان بفضل من الله ومنته.
كل هذا وفوق هذا والسودان بفضل الله فيه علماء أفاضل ومرجعيات علمية لا يُستهان بها؛ وتنظيمات دعوية كثيرة فإلى متى يستمر الوضع في السودان كل يوم من سيء إلى أسوأ؟ ومن المسئول عن هذا التردي الذي نشاهد؟ وكيف يمكن معالجة واقع الناس؟ لا أقول بين عشية وضحاها، ولكن ما هي البرامج المطروحة للإصلاح؟ ومن هي الجهة المناط بها أمر الإصلاح ولماذا لا تتبنون برنامجاً إصلاحياً كبيراً يهدف إلى جمع الصف الدعوي وتوجيه جهوده للإصلاح والسعي مع الحكومة إما لمعالجة الفساد الموجود فيها أو لتغييرها؟
وأسئلة كثيرة تدور في أذهان الشباب السوداني المسلم الذي لم يجد من يجيب عليها.
آمل من فضيلتكم النظر في موضوعي هذا، فإن وجدت خيراً فاسع إليه وحسبي أنني شاركت بإثارة الموضوع -وسأشارك في تنفيذه إن وجدت من يتصوره ويخطط له-، وإلا فافعل بخطابي هذا كما فعل كعب بن مالك بخطاب ملك غسان.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فأحبك الله الذي أحببتني فيه، وجعلني الله خيراً مما تظنون، وغفر لي ما لا تعلمون، وشكر الله لك غيرتك المحمودة على الدين، وسعيك في نفع المسلمين، وما طرحته من أسئلة سائغ مشروع، ولا بد من أن أتجشَّم الجواب عنها -على طولها- حتى يسفر الصبح لذي عينين، والله المسئول أن يستعملنا جميعاً في طاعته.
أخي الحبيب: ما ذكرتَه -في الجملة- حقٌّ لا ريب فيه؛ من انتشار البدع وذيوع المعاصي وكثرة المخالفات العقدية والعملية، لكن إلى جانب هذا لا بد أن تذكر وجوهاً من الإشراق لا تخطئها العين؛ وأغلب ظني -والله أعلم- أنك من أبناء الثلاثين -فوقها بقليل أو دونها بقليل- ومن كان من أبناء الأربعين والخمسين والستين فإنه ينظر إلى زمان مضى، ثم ينظر إلى واقع معاصر ويتفاءل بأن خيراً عظيماً قد انتشر، وباطلاً كثيراً قد اضمحل، وتلحظ ذلك -أحسن الله إليك- في أن الشريعة الإسلامية اسم جامع لكل ما شرعه الله تعالى من الأوامر والنواهي -سواء في ذلك ما كان متعلِّقاً بالعقائد أو العبادات أو المعاملات أو الأخلاق والسلوك- ومن قصرها على الحدود أو العقوبات فقط فقد جانب الصواب، وقد أُتيَ من قبل سوء فهمه وقِصَر نظره، والله تعالى يقول: {}، وقال سبحانه: {}، فتحريم الربا، وتعليم الناس دينهم، والنهي عن الظلم والفواحش، وحث الناس على الصلاة، والدعوة إلى الحجاب، وتيسير أداء مناسك الحج، والإشراف على ذلك، كلُّه من الشريعة والدين؛ كما أن تطبيق الحدود؛ في معاقبة السارق والزاني والمحارب والقاذف وشارب الخمر والمرتد من الدين، وإحياء السنة في العبادات والسَّمْت والسلوك من الدين كذلك.
ولو نظرنا إلى واقعنا اليوم نجد أن إجراءات كثيرة وأحكاماً عديدة قد جاءت -بحمد الله- موافقةً للشرع الحنيف، فالخير ظاهر في المساجد التي ترتفع مآذنها، وهي في كل يوم في زيادة ورفعة، وكلمات الأذان التي تتردد أصداؤها في كل مكان معلنةً توحيد الله تعالى، وكتاب الله عز وجل مرعيٌّ، تلاوته مبثوثة وأهلُه مكرمون، وقد تخصصت إذاعات في نشره وتعليمه، كما أن شعائر الإسلام -من صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة- ظاهرة؛ حيث المساجد عامرة، ولا يجد مرتادوها مضايقة من أحد، وصيام رمضان مرعيٌّ، ولا يُسمَح بالإفطار العلنيِّ، وتُلزَم المطاعم -غالباً- بتغليق أبوابها في نهار الشهر المبارك، كما أن الزكاة قد رُفع لواؤها وامتد سلطانها، وإن اعترى تطبيقها أحياناً عثرات وندوب؛ فما ذلك إلا لجدَّة التجربة وبعد الشُّقة بيننا وبين المثال الأول الذي كان في القرون المفضلة؛ كما أن مسائل الزكاة متجددة ونوازلها كثيرة، وليس كل جديد تجده منصوصاً عليه في كتب الأولين؛ وقد قرأنا في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم: ""، وفي لفظ: ""، كما أن السبيل ميسَّرة لمن أراد نسكاً في حج أو عمرة.
وأما شرائع الإسلام -في جانب العقوبات- فهي كذلك ظاهرة؛ حيث تُمنَع الكبائر والخبائث فلا خمرَ تُباع أو تُشرب علانية، ولا أماكن للبغاء تُدار علانية، بل يعاقب من يثبت عليه شيء من ذلك في سُكْر أو زنا أو فحش، والربا ممنوع بالقانون، ويعزَّر من يتعاطاه أو يتعامل به، ولو أن إنساناً داخله شكٌّ في معاملة ما، جاز له أن يتقدم بشكوى إلى إدارة الثراء الحرام والمشبوه؛ لتُمنع تلك المعاملة وتوقف إن كانت مخالفة للشريعة، وهيئات الرقابة الشرعية قائمة في كل بنك حتى البنك المركزي وهو ما لا وجود له في بلد آخر، وليس معنى ذلك أن الربا قد جُفِّفت منابعه وعفت آثارُه، بل إني قائل لك: إن بعض الناس يمارس الربا -لا عن طريق البنوك- بل مثنى مثنى فيما بينه وبين صاحبه؛ ومردُّ هذا إلى ضعف الإيمان أولاً، وقلة العلم ثانياً؛ حيث إن بعضهم ما يكلف نفقسه عناء السؤال عن المعاملة إلا بعد التلبس بها والخوض فيها!
وحدود الإسلام منصوصٌ عليها في القانون؛ فيقام حدُّ الله على من ارتكب شيئاً مما حرَّم الله وأوجب فيه حداً -كالسرقة والزنا والخمر والمحاربة والقذف- كما أن طاعة الله مفتوحةٌ أبوابُها؛ فلا يُحارَب شاب -مثلاً- لالتزامه هدي الإسلام وسمته -في لحيته أو ثوبه أو محافظته على الصلاة- ولا تُحارَب فتاة لاحتشامها والتزامها الحجاب، بل يُشجَّع الناس على طاعة الله في ذلك كله، ولعلك سمعت أخيراً بما كان من مبادرة خيِّرة من مدير جامعة السودان -جزاه الله خيراً- حين ألزم الطالبات بالزيِّ المحتشم، ومنع المتبرجات من الدخول من باب الجامعة؛ كما أن مناهج التعليم في الكليات المدنية والعسكرية قد طرأ عليها تغيير كبير في صبغها بالصبغة الإسلامية، وصارت دراسة مادة الثقافة الإسلامية حتماً لازماً في جميع التخصصات إنسانيةً وتجريبية، كما أن شعيرة الجهاد قد رُفعت رايتُها، وأعليت كلمتُها، وتدافع الناس إليها -بإشراف الدولة- حين أحاطت بالبلاد أخطارٌ من جرَّاء التمرد الصليبي الذي كان في الجنوب، وقد تولَّت دعمَه الجهات الكنسية في أوروبا وأمريكا، وما زالت كلمة الجهاد ملاذاً للدولة والناس كلما دهم البلادَ أو العبادَ خطبٌ، والقائمون على الحكم في البلاد -في عمومهم- لم يُعهَد عنهم فسق ظاهر ولا استهتار بالدين، بل يذكرون في خطبهم وبياناتهم أنهم ما جاؤوا إلا انتصاراً للدين؛ وقد أمرنا أن نحكم بالظاهر ونكل إلى الله السرائر: {}، {}.
والحدود الشرعية -أعني العقوبات- حسب علمنا مطبَّقةٌ في هذه البلاد؛ فيُجلَد الزاني والشارب ويُقطَع السارق ويُعاقب المحارب -بالعقوبة الشرعية الواردة في سورة المائدة- ويقام القصاص على من وجب عليه، ولا زلت أذكر أنه قبل سنوات احتجَّ الاتحاد الأوروبي على إقامة حد الحرابة على بعض المجرمين من قُطّاع الطرق، ونُشِر ذلك في الصحف، ومثلها أيضاً التعازير فإنها مطبَّقة بغير شك؛ لكن هذه الحدود والتعازير قد لا تقام علانية بل في نطاق محدود -أعني في السجن- لأن ظروف البلد ومرحلة الاستضعاف الذي نحن فيه لا تسمح بأكثر من ذلك، والله تعالى يقول: {}، ويقول: {}، وهذا كله يحتاج إلى تتميم ومناصحة وترقيع؛ لا إلى هدم وتضييع وتشنيع.
وما ذكرته من وجود الشرك الصريح؛ فليس هو وليد اليوم ولا الأمس، بل تراكم عبر قرون من الجهل والتجهيل، ولو نظرت نظرةً فاحصة لعلمت أنه -بحمد الله- في كل يوم يزوي ويندثر؛ إذ كلما ذاع العلم وانتشر فإن أمر الشرك في دَبَار، وغير خاف عليك أن الشباب المعاصر إما سليم المعتقد -وهم الأعمُّ الأغلب- وإما جاهل معرض -ويدخل في ذلك من تلبس بشيء من تلك الشركيات، وكذلك من كان لا يعبأ بالدين أصلاً، وأما العبادات فالذي ألحظه أن أغلب المساجد التي قامت في سنواتنا المتأخرة إنما قامت على تقوى من الله ورضوان، وأعلام السنة فيها منشورة، وهي خِلْوٌ من البدع بل إنك ترى في بعض مساجد المتصوفة -في قبلتها- تلك الورقة التي كتبت فيها الأذكار المسنونة الواردة بعد الصلوات المكتوبة!! تُرى من كان يحلم بهذا؟
إن واجباً على الدولة والدعاة والأفراد السعي الحثيث في تعليم الناس ما ينفعهم، ورفع آصار الجهل عنهم، وأن يجتهدوا في ذلك، كما إن واجباً على الدولة أن تأخذ على يد المفسدين ممن ينشرون العقائد الباطلة والأفكار الزائغة؛ حتى لا تكون: {}، "".
وما ذكرته من انتشار التبرج فالمسئولية مشتركة بين البيت وأجهزة التعليم والإعلام والحسبة؛ فما ظنُّك بالأب الذي يسمح لابنته أو زوجته أن تخرج على تلك الهيئة المنكرة؟ ولا تناغم البتة بين ما يُبَثُّ في أجهزة الإعلام من مواعظ طيبة مؤثرة وما تذيعه ذات الأجهزة من تحريض على السفور والتبرج في مسلسلاتها وهيئة مذيعاتها!! فمتى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم!!؟ والواجب على الدولة بما آتاها الله من سلطة أن تحول بين النساء وبين التبرج، وهي قادرةٌ على ذلك لو توافرت الإرادة، وكذلك مدراء الجامعات والمسئولون عن التعليم قادرون لو شاءوا على منع كثير من مظاهر الحرب على شعائر الله تعالى وشرائعه، ومسألة الاختلاط حصل فيها سوء فهم عند بعض الناس من جراء انتشار فكر خاطئ حيناً من الدهر، لكن الحمد لله الآن كل العقلاء مقرون بخطر الاختلاط وأثره على الدين والأخلاق، وليس من العسير أن يتواضع أهل الرأي على حل يكون صواباً يقضي بأن يكون للفتيات جامعات خاصة بهن، وكذلك للشباب منعاً للفتنة ودرء للمفسدة.
وهذا كله لا يغني عن الرقابة الداخلية وترقية الإيمان وتزكية النفوس؛ لأنه لا يخفى عليك أن زماننا هذا كما قيل:
فلو أن الدولة منعت كذا وكذا فهي غير مستطيعة أن تمنع وسائل الإفساد في البيوت، ومهما أوتيت من طاقة في محاربة المواقع الفاسدة على شبكة المعلومات فإن ناساً لديهم القدرة على الدخول إليها من طرف خفي، ولذلك القوانين وحدها والعقوبات الرادعة والإجراءات العدلية ليست كفيلة بمنع الفساد، بل المعوَّل على إيجاد الرقيب الداخلي الذي يؤثر رضا الله على متعة زائلة، إن كانت مالاً أو جاهاً أو لذة أو غير ذلك.
وأما الفساد الإداري وانتشار الرشوة والاختلاس والتعدي على المال العام وما إلى ذلك من أوجه الفساد؛ فلا أسلِّم بأن بلدنا يأتي في قائمة الأوليات الدولية في الفساد؛ لأنه لا يخفى عليك أن تلك الدول ترفع من تشاء وتضع من تشاء؛ ولا زالوا يعيِّروننا ويشنعون على بلدنا بملفات حقوق الإنسان المهدرة -بزعمهم- وقد علم القاصي والداني أن دولاً مجاورة داست على كرامة الإنسان المسلم فيها أجهزة لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر -مما ظهر بعضه وخفي أكثره- لكنها تنال الأوسمة لكونها مرضياً عنها من تلك الدول المتحكمة في هاتيك التقارير؛ أعني أنه ما ينبغي لنا أن نصدق كل ما يصدر عن القوم فإن لهم أهدافاً لا تخفى على مثلك، وعلى كل حال فالفساد موجود، وما فتئ أهل الغيرة يُبدؤون ويعيدون في التحذير منه ووجوب الأخذ على يد أهله، وأن ينال كل امرئ حقه غير متعتع ولا هياب، وما زلنا نطمع في أن يأتي اليوم الذي نكون فيه مثالاً لمجتمع الطهر والفضيلة والتعفف عن أن ينال الإنسان ما لا حق له فيه، وذلك يتأتى بالتربية الإيمانية والإجراءات العقابية معاً، وألا يكون على القانون كبير، بل الشريف والضعيف سواء في الثواب والعقاب.
وأخيراً أيُّهذا الحبيب: أرى في كلامك مسحة من تشاؤم لا تليق بالمسلم؛ بل الواجب علينا أن نتفاءل دائماً؛ فإن نبينا عليه الصلاة والسلام كان يعجبه الفأل الحسن، وكان يكره التطير والتشاؤم، وفي أحلك الظروف ما فارقه تفاؤله عليه الصلاة والسلام، ودونك ما كان يوم بدر ويوم الأحزاب ويوم الحديبية، فظننا في الله حسن ودين الله منصور بنا وبغيرنا، والخير موجود ظاهر والحمد لله، لكن على كل منا أن يباشر دوره وأن يتعبد الله بما أراده منه لا بما أراد هو؛ لأن هذا ما نفهمه من قول ربنا الذي نردده في كل ركعة من كل صلاة: {} إياك أريد بالذي تريد.
وإن بقينا -أخي الحبيب- نلقي باللائمة على غيرنا فلا ديناً سنقيم ولا دنيا سنصلح، والله الموفق والمستعان.
عبد الحي يوسف
رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم
- التصنيف:
- المصدر: