الصَّائم إذا فعل ما يُفْطِر جاهلاً بالحرمة
منذ زمن بعيد زوْجي السَّابق جامعني برضائي في رمضان، وكنَّا لا نعرِف أنَّه حرام. والآنَ أنا متزوِّجة بآخَر، فماذا أفعل؟
علمًا بأنِّي ليس لي مال خاصّ بي، فهل عليَّ صيام شهرَين مُتتابعين؟ أم آخُذ من مال زوْجي الحاضر بدونِ عِلْمِه؛ لأنَّه غير موافق على ذلك؟ أم تسقُط عنِّي الكفَّارة؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقد سبق بيان حكم من تعمَّد الجماع في نهار رمضان، وذلك في الفتوى: "حكم الإفطار في نهار رمضان من غير عذر".
أمَّا كوْنُ السَّائلة قدِ ارتكبتْ هذا المحظورَ وهي جاهلة بالحكم، فالرَّاجح من قولَيْ أهْل العلم -إن شاءَ الله تعالى- أنَّه لا شيءَ عليْها، إن كانت تجهل هذا الحكم، وقد دلَّت على ذلك أدلَّة كثيرةٌ من الكتاب والسنَّة، عامَّةً وخاصَّة؛ منها قولُه تعالى: {} [البقرة: 286]، قال الله تعالى: "قد فعلت" (رواه مسلم).
قال النَّووي في "المجموع": "إذا أكل الصَّائمُ، أوْ شرِب، أوْ جَامَع، جاهِلاً بِتحريمِه، فإنْ كان قرِيبَ عهْدٍ بإسْلامٍ، أوْ نشأ ببادِيةٍ بعيدةٍ، بِحيثُ يخْفى عليْهِ كوْنُ هذا مُفطِّرًا - لم يُفْطِرْ؛ لأنَّه لا يأْثمُ، فأشْبه النَّاسِيَ الَّذِي ثبت فِيهِ النَّصُّ، وإنْ كان مُخالِطًا لِلمُسْلِمين، بِحيْثُ لا يخْفى عليْهِ تحْرِيمُه - أفْطر؛ لأنَّهُ مُقصِّرٌ". اهـ.
وقال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية في "الفتاوى الكبرى: "والصَّائم إذا فعل ما يُفْطِر به جاهلاً بتحْريم ذلك، فهل عليْه الإعادة؟ على قوليْن في مذهبِ أحمد.
وأصْلُ هذا أنَّ حكْمَ الخِطاب: هل يثبتُ في حقِّ المكلَّف قبل أن يَبْلغه؟ فيه ثلاثةُ أقوالٍ في مذهَبِ أحْمد وغيرِه، قيل: يثبُت، وقيل: لا يثبُت، وقيل: يثبت المبتدأُ دون النَّاسخ.
والأظهر: أنَّه لا يَجب قضاءُ شيءٍ من ذلك، ولا يثبُت الخِطاب إلاَّ بعد البلاغ؛ لقولِه تعالى: {} [الأنعام: 19]، وقوله: {} [الإسراء: 15]، ولقولِه: {} [النساء: 165]، ومثْلُ هذا في القُرْآن متعدِّد، بيَّن سبحانه أنَّه لا يعاقِبُ أحدًا حتَّى يَبْلغه ما جاء به الرَّسول، ومَن علِم أنَّ محمَّدًا رسولُ الله، فآمنَ بذلك، ولم يعلم كثيرًا ممَّا جاء به - لم يعذِّبْه الله على ما لم يبلغْه، فإنَّه إذا لم يعذِّبْه على ترْك الإيمان بعد لْبُلُوغ، فإنَّه لا يعذِّبُه على بعْض شرائطِه إلاَّ بعد البلاغ أوْلى وأحْرى، وهذه سنَّة رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم المستفيضة عنْه في أمثال ذلك.
فإنَّه قد ثبت في الصِّحاح: أنَّ طائفةً من أصحابِه ظنُّوا أنَّ قولَه تعالى: {} [البقرة: 187] هو الحبل الأبْيض من الحبل الأسود، فكان أحدُهم يربِطُ في رِجْلِه حبلاً، ثُمَّ يأكُل حتَّى يتبيَّن هذا من هذا، فبيَّن النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: أنَّ المراد: بياضُ النَّهار وسوادُ الليل، ولم يأمُرْهُم بالإعادة.
وكذلك عُمر بن الخطَّاب وعمَّار أجْنَبا، فلم يصلِّ عُمر حتَّى أدْرك الماء، وظنَّ عمَّار أنَّ التراب يصِلُ إلى حيثُ يصِل الماء، فتمرَّغ كما تتمرَّغ الدَّابَّة، ولم يأمُر صلَّى الله عليه وسلَّم واحدًا منهم بالقضاء، وكذلك أبو ذرٍّ بقِي مدَّة جُنُبًا لم يُصلِّ، ولم يأمرْه صلَّى الله عليه وسلَّم بالقضاء، بل أمَرَهُ بالتيمُّم في المستقبل.
وكذلك المستحاضة: قالت: إنِّي أُسْتحاض حيضةً شديدةً تَمنعني الصَّلاة والصَّوم، فأمَرَها صلَّى الله عليه وسلَّم بالصَّلاة زمنَ دمِ الاستِحاضة، ولم يأمُرْها بالقضاء، ولما حُرِّم الكلام في الصَّلاة، تكلَّم معاوية بن الحكم السُّلَمي في الصَّلاة بعد التَّحريم جاهِلاً بالتَّحريم، فقال له صلَّى الله عليه وسلَّم: ""، ولَم يأمُرْه بإعادة الصَّلاة.
ولمَّا زِيد في صلاةِ الحضَر حين هاجَر إلى المدينة، كان مَن كان بعيدًا عنْه مثل مَن كان بمكَّة، وبأرْض الحبشة يصلُّون ركعتيْن، ولم يأمُرهم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بإعادة الصَّلاة، ولمَّا فُرِضَ شهْر رمضان في السنة الثَّانية من الهجرة، ولم يبلُغ الخبر إلى مَن كان بأرْض الحبشة من المسلمين، حتَّى فات ذلك الشهْر - لم يأمُرْهُم بإعادة الصيام.
وثبت عنه في "الصحيحَين": أنَّه سُئِلَ وهو بالجعرانة عن رجُل أحرم بالعُمرة، وعليه جبَّة، وهو متضمِّخ بالخلوق، فلمَّا نزل عليه الوحْي قال له: ""، وهذا قد فعَلَ مَحظورًا في الحجِّ، وهو لبس الجبَّة، ولم يأمُرْه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على ذلك بدَمٍ، ولو فعل ذلِك مع العِلْم، لَلزِمَه دم.
وثبت عنه في "الصَّحيحيْن": أنَّه قال للأعْرابيِّ المُسيءِ في صَلاتِه: ""، مرَّتين أو ثلاثًا، فقال: والَّذي بعثَك بالحقِّ، ما أُحْسِن غيرَ هذا، فعلِّمْني ما يُجزيني في الصَّلاة، فعلَّمه الصَّلاة المُجْزِية، ولم يأمرْه بإعادة ما صلَّى قبل ذلك، مع قولِه: "ما أُحْسِن غير هذا"، وإنَّما أمره أن يُعيدَ تلك الصَّلاة؛ لأنَّ وقتها باقٍ، فهو مُخاطَبٌ بِها، والتي صلاَّها لم تبرأْ بِها الذِّمَّة". اهـ. موضع الشاهد منه.
وعليه؛ فلا تجب عليْكِ الكفَّارة ما دُمْتِ جاهلةً بالحكْم في ذلك الوقت،، والله أعلم.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- التصنيف:
- المصدر: