حكم شراء المال المصادر بالباطل

منذ 2013-02-28
السؤال:

صادرت البلدية أرضاً لجارنا بالباطل ثم عرضتها بعد مدة للبيع فتقدمتُ لشرائها، فقيل لي لا يجوز لك شراؤها، فما الحكم في ذلك؟

الإجابة:

اتفق العلماء على تحريم شراء المال المغصوب والمأخوذ من صاحبه عنوةً، سواء كان من المنقولات أو غيرها كالأراضي والعقارات، لأن الغاصب فرداً كان أو جهةً أو مؤسسةً أو دولةً، لا يملك المال المغصوب، فالغصب محرمٌ شرعاً وليس من طرق التملك المعتبرة شرعاً، وقد نص الفقهاء على أن العدو إذا استولى على أموال المسلمين فإنه لا يملكها، ورد في كتاب للإمام الشافعي: "العبد المسلم يأبق إلى أهل دار الحرب، سألت الشافعي عن العدو يأبق إليهم العبد أو يشرد البعير أو يغيرون فينالونهما أو يملكونهما أسهما؟ قال: لا. فقلت للشافعي: فما تقول فيهما إذا ظهر عليهم المسلمون فجاء أصحابهما قبل أن يقتسما؟ فقال: هما لصاحبهما". ثم استدل الشافعي بما ورد في الحديث عن عمران بن حصين رضي الله عنه في قصة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم التي استولى عليها الكفار -وسأذكره بنصه لاحقاً- ثم قال الشافعي: "وهذا الحديث يدل على أن العدو قد أحرز ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الأنصارية انفلتت من إسارهم عليها بعد إحرازهموها ورأت أنها لها، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قد نذرت فيما لا تملك ولا نذر لها، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته، ولو كان المشركون يملكون على المسلمين لم يعد أخذ الأنصارية الناقة أن تكون ملكها بأنها أخذتها ولا خمس فيها، لأنها لم توجف عليها. وقد قال بهذا غيرنا ولسنا نقول به، أو تكون ملكت أربعة أخماسها وخمسها لأهل الخمس أو تكون من الفيء الذي لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فيكون أربعة أخماسها للنبي صلى الله عليه وسلم وخمسها لأهل الخمس ولا أحفظ قولاً لأحدٍ أن يتوهمه في هذا غير أحد هذه الثلاثة الأقاويل. قال: فلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته دل هذا على أن المشركين لا يملكون شيئاً على المسلمين" (الأم 4/268).

وحديث عمران بن حصين رضي الله عنه في قصة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم رواه مسلم في صحيحه وهو: "".

قال الإمام النووي: "وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه: أن الكفار إذا غنموا مالاً للمسلم لا يملكونه... وحجة الشافعي وموافقيه هذا الحديث، وموضع الدلالة منه ظاهر. والله أعلم" (شرح النووي على صحيح مسلم 6/32). وقال الشيخ ابن حزم الظاهري: "ولا يملك أهل الكفر الحربيون مال مسلم، ولا مال ذمي أبداً إلا بالابتياع الصحيح، أو الهبة الصحيحة، أو بميراث من ذمي كافر، أو بمعاملة صحيحة في دين الإسلام، فكل ما غنموه من مال ذمي أو مسلم، أو آبق إليهم، فهو باق على ملك صاحبه... وحكمه حكم الشيء الذي يغصبه المسلم من المسلم، ولا فرق. وهو قول الشافعي وأبي سليمان -أي داود الظاهري-..."، ثم ذكر الشيخ ابن حزم كلاماً طويلاً في بيان هذه المسألة ثم قال: "أخبرونا عما أخذه منا أهل الحرب أبحق أخذوه أم بباطل؟ وهل أموالنا مما أحله الله تعالى لهم أو مما حرمه عليهم؟ وهل هم ظالمون في ذلك أو غير ظالمين؟ وهل عملوا من ذلك عملاً موافقا لأمر الله تعالى وأمر نبيه عليه السلام، أو عملاً مخالفا لأمره تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فالقول بأنهم أخذوه بحق أنه مما أحله الله تعالى لهم وأنهم غير ظالمين في ذلك، وأنهم لم يعملوا بذلك عملا مخالفا لأمر الله تعالى وأمر رسوله عليه السلام... فسقط هذا القول، وإذ قد سقط فلم يبق إلا الآخر، وهو الحق اليقين من أنهم إنما أخذوه بالباطل وأخذوا حراماً عليهم، وهم في ذلك أظلم الظالمين، وأنهم عملوا بذلك عملاً ليس عليه أمر الله تعالى: وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن التزام دين الإسلام فرض عليهم. فإذ لا شك في هذا فأخذهم لما أخذوا باطلٌ مردودٌ، وظلمٌ مفسوخٌ، ولا حق لهم ولا لأحدٍ يشبههم فيه؛ فهو على ملك مالكه أبداً" (المُحلَى 5/352-359). وقال الإمام الماوردي: "وما غلب عليه المشركون من أموال المسلمين وأحرزوه لم يملكوه وكان باقياً على ملك أربابه من المسلمين" (الأحكام السلطانية 1/264).

ومما يدل على بطلان شراء المال المغصوب أن الفقهاء قد اتفقوا على أنه لا يجوز بيع ما لا يملك فإذا باع شخص مال غيره فالعقد باطل، فقد ورد في الحديث عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: "" (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر إرواء الغليل 5/132). وفي رواية أخرى عند الترمذي عن حكيم بن حزام قال: "". وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "" (رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/361). وهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز أن يبيع المسلم ما ليس عنده أي ما ليس في ملكه عند العقد، قال المباركفوري: وفي قوله صلى اله عليه وسلم: "" دليل على تحريم بيع ما ليس في ملك الإنسان ولا داخلاً تحت قدرته" (تحفة الأحوذي 4/360). وقال الشوكاني: "وظاهر النهي تحريم ما لم يكن في ملك الإنسان ولا داخلاً تحت مقدرته وقد استثني من ذلك السلم فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم" (نيل الأوطار 5/175).

ومما يدل على بطلان شراء المال المغصوب أيضاً القاعدة المقررة عند الفقهاء وهي أن ما بُني على الباطل فهو باطل، فالاستيلاء على مال الغير باطل من أساسه وما بني على الباطل فهو باطل. قال الشيخ ابن حزم الظاهري: "وكل عقد انعقد على باطل فهو باطل، لأنه لم تعقد له صحة إلا بصحة ما لا صحة له، فلا صحة له" (المحلى 6/382). وكذلك فإن شراء المال المغصوب يعتبر من باب التعاون على الإثم والعدوان، وهو محرم بنص كتاب الله عز، قال الله تعالى: {} [المائدة: 2]. وكذلك فإنه يعتبر من باب أكل أموال الناس بالباطل، يقول الله تعالى: {} [النساء: 29]. وجاء في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "" (رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/279). وقال صلى الله عليه وسلم: "" (رواه البخاري ومسلم)، قال الإمام النووي: "وفي الحديث فوائد منها تحريم أخذ مال الإنسان بغير إذنه والأكل منه والتصرف فيه" (شرح صحيح مسلم 4/391).

وخلاصة الأمر أنه يحرم شرعاً شراء المال المغصوب، لأن استيلاء الغاصب على المال لا يزيل ملكية صاحبه الأصلي. وكل ما بُني على باطلٍ فهو باطلٌ.

تاريخ الفتوى: 20-8-2009.

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.