حكم سرقة الماء والكهرباء
ما قولكم في من يبيح سرقة الماء والكهرباء، اعتمادًا على قول النبي صلى الله عليه وسلم: ""؟
الحديث المذكور في السؤال (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والبيهقي وغيرهم)، وهو حديث صحيح تكلم عليه العلامة الألباني فقال:"...وإنما يصح في هذا الباب حديثان:
الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "" (أخرجه أبو داود وأحمد والبيهقي).
الحديث الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "" (أخرجه ابن ماجة بإسنادٍ صحيح)، كما قال الحافظ في (التلخيص) والبوصيري في(الزوائد)، (إرواء الغليل 6/6-8).
وأما معنى الحديث فقد قال صاحب عون المعبود: "في (الماء)، والمراد المياه التي لم تحدث باستنباط أحدٍ وسعيه كماء القني والآبار، ولم يحرز في إناءٍ أو برْكةٍ أو جدولٍ مأخوذ من النهر، (والكلأ)، وهو النبات رطبه ويابسه، قال الخطابي: معناه الكلأ الذي ينبت في موات الأرض يرعاه الناس، ليس لأحدٍ أن يختص به دون أحدٍ، أو يحجره عن غيره، وأما الكلأ إذا كان في أرضٍ مملوكةٍ لمالك بعينه، فهو مالٌ له ليس لأحدٍ أن يشاركه فيه إلا بإذنه، (والنار)، يراد من الاشتراك فيها أنه لا يمنع من الاستصباح منها والاستضاءة بضوئها، لكن للمستوقد أن يمنع أخذ جذوةٍ منها، لأنه ينقصها ويؤدي إلى إطفائها، وقيل: المراد بالنار الحجارة التي توري النار، لا يمنع أخذ شيءٍ منها إذا كانت في موات".
وقال السندي: "وقد ذهب قومٌ إلى ظاهره فقالوا: إن هذه الأمور الثلاثة لا تملك ولا يصح بيعها مطلقًا، والمشهور بين العلماء أن المراد بالكلأ هو الكلأ المباح الذي لا يختص بأحدٍ، وبالماء ماء السماء والعيون والأنهار التي لا تُملك، وبالنار الشجر الذي يحتطبه الناس من المباح فيوقدونه، فالماء إذا أحرزه الإنسان في إنائه وملكه يجوز بيعه وكذا غيره" (عون المعبود شرح سنن أبي داود 7/470).
وقال الشيخ عطية سالم: "ومعلوم أن الشركة في هذه الثلاثة -ما دامت على عمومها- فـ(الماء) شركة بين الجميع ما دام في مورده من النهر أو البئر العام أو السيل أو الغدير، أما إذا انتقل من مورده العام، وأصبح في حيازةٍ ما، فلا شركة لأحدٍ فيه مع من حازه، كمن ملأ إناءً من النهر أو السيل ونحوه، فما كان في إنائه فهو خاص به، وهذا (الكلأ) ما دام عشبًا في الأرض العامة لا في ملك إنسان معين، فهو عام لمن سبق إليه، فإذا ما احتشه إنسانٌ وحازه فلا شركة لأحدٍ فيه، وكذلك ما كان منه نابتًا في ملك إنسان بعينه فهو أحق به من غيره.
ويظهر ذلك بالحوت في البحر والنهر فهو مشاعٌ للجميع، والطير في الهواء يصاد، فإنه قدرٌ مشتركٌ بين جميع الصيادين، فإذا ما صاده إنسانٌ فقد حازه واختص به، وهذا أمرٌ تعترف فيه جميع النظم الاقتصادية، وتعطى تراخيص رسمية لذلك.
وهناك العمل الجاري في تلك الدول، مما يجعلهم يتناقضون في دعواهم الاشتراك في (الماء والنار والكلأ)، وذلك في شركات المياه والنور، فإنهم يجعلون في كل بيت عدادًا يعد جالونات الماء التي استهلكها المنزل ويحاسبونه عليه، وإذا تأخر قطعوا عليه الماء وحرموه من شربه، وكذلك التيار الكهربائي، فإنه نارٌ، وهو الطاقة الفعالة في المدن، فإنهم يقيسونه بعداد يَعُدُّ الكيلوات، ويبيعونه على المستهلك" (تكملة أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 8/39-40). ويضاف لما سبق أن الفقهاء قد جعلوا أنواع المياه بالنسبة لحقي الشرب والشفة أربعة أقسام:
القسم الأول:- الماء العام: وهو النابع في موضعٍ لا يختص بأحدٍ، ولا صنع للآدميين في إنباطه، وإجرائه كالأنهار الكبيرة، كالنيل والفرات ودجلة، وسائر أودية العالم، والعيون في الجبال، فهذا النوع حق للناس جميعًا، وليس لأحدٍ ملكٌ في الماء ولا في المجرى، ولكل واحدٍ حق الانتفاع به بالشفة، والشرب، وله شق الجداول من الأنهار ونحوها، ونصب آلات السقي عليها لإجراء المياه لأرضه، وغير ذلك من وسائل الانتفاع بالماء، وليس لحاكمٍ ولا لغيره منع أحدٍ من الانتفاع به بكل الوجوه، إن لم يترتب على فعله ضررٌ على النهر أو الجماعة لخبر "".
القسم الثاني:- المياه الجارية في أنهار وسواقي مملوكة: من يحفر نهرًا يدخل فيه الماء من النهر العظيم، أو من نهرٍ متفرع منه، فالماء في هذا باق على إباحته، ولكن مالك النهر أحق به كالسيل يدخل في ملكه، ولغيره حق الشرب منه والاستعمال، وسقي الدواب لا سقي أرضه وشجره، فإن أبى صاحبه كان للمضطر أخذه جبرًا.
القسم الثالث:- أن يكون المنبع مملوكًا: كأن يحفر بئرًا في ملكه، أو في مواتٍ للتملك، أو انفجرت في ملكه عين، فإنه يملك الماء، لأنه نماءُ ملكه كالثمرة واللبن، وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية، ولكن يجب عليه بذل الفاضل من الماء عن شربه لشرب غيره، وبذل ما فضل عن ماشيته لماشية غيره لحديث: "".
القسم الرابع:- الماء المحرز بالأواني والظروف: وهذا مملوكٌ لمحرزه باتفاق الفقهاء ولا حقَ لأحدٍ فيه، لأن الماء وإن كان مباحًا في الأصل، فإن المباح يملك بالاستيلاء إذا لم يكن مملوكًا للغير كالحطب والحشيش. (الموسوعة الفقهية الكويتية25/371-376 بتصرف).
إذا تقرر هذا فإن القول بإباحة سرقة الماء والكهرباء، والقول بتحريم بيعهما، اعتمادًا على قول النبي صلى الله عليه وسلم ""، ظاهريةٌ جديدة، وجمودٌ على ظاهر النص، وتقليدٌ لأهل الظاهر، فقد سبق إلى ذلك ابن حزم الظاهري حيث قال: "ولا يحل بيع الماء بوجهٍ من الوجوه لا في ساقية ولا من نهرٍ أو من عينٍ ولا من بئرٍ، ولا في بئرٍ، ولا في صهريجٍ، ولا مجموعًا في قربةٍ، ولا في إناءٍ" (المحلى 9/6).
وهذا القول - مع احترامنا وتقديرنا للشيخ العلامة ابن حزم- مجانبٌ للصواب وترده قواعد الإسلام العامة، فبيع الكهرباء والماء جائز شرعًا وهذا ما تعارف عليه الناس، وهو عرفٌ صحيحٌ لا يعارض نصًا شرعيًا، ويتفق مع قواعد الشرع.
وبناءً على ما سبق فإنه يحرم شرعًا سرقة الماء والكهرباء، بأي شكلٍ من الأشكال، سواء كان ذلك بتعطيل عدادات الماء والكهرباء، أو بمدِّ خطوطٍ خاصة، بدون إذن ولا علم القائمين على الماء والكهرباء، أو غير ذلك من الوسائل، ويجب أن يُعلم أن سرقة الماء والكهرباء ينطبق عليها مفهوم السرقة عند الفقهاء، فالسرقة عندهم هي أخذ المال من حرزه خفية، وهذا ينطبق على سارق الماء والكهرباء، فهو يأخذ الماء والكهرباء خفية من حرزه، فالماء والكهرباء ملكٌ لصاحبهما سواء أكان البلدية أو شركة الكهرباء أو غيرهما، وهو مال متقومٌ شرعًا، وهو مالٌ له حرزٌ معروفٌ عرفًا، فتحرم سرقته أو التعدي عليه، والأدلة على تحريم ذلك كثيرة منها قوله تعالى: {} [المائدة:38].
وقوله تعالى: {} [البقرة:818].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "" (رواه البخاري ومسلم).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "" (رواه البخاري).
وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "" (رواه أحمد، والبيهقي، وابن حبان، وصححه العلامة الألباني في صحيح غاية المرام ص 263).
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: "" (رواه البخاري ومسلم). وغير ذلك من الأحاديث.
ويضاف إلى ما سبق أنه يجب الوفاء بالعقود، حيث إن ربط البيوت وغيرها مع الجهة التي تزودها بالماء والكهرباء، هو عقدٌ شرعيٌ، والوفاء به فرض، ويحرم شرعًا مخالفة هذا الاتفاق، لعموم قوله تعالى: {} [المائدة:1]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "" (رواه أبو داود، والترمذي وقال:حسن صحيح، ورواه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء، ورواه كذلك الحاكم، وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ "" أي بدون الاستثناء.
ولا بد أن يُعلم أن سارق الماء والكهرباء يعتبر من آكلي أموال الناس بالباطل، ومن خائني الأمانات، وأن ذلك المال الذي لم يدفعه ثمنًا للماء والكهرباء ما هو إلا سحت، قال تعالى: {} [النساء:58]، وقال: {} [النساء:29]، وقوله تعالى: {} [المائدة:63]، قال أهل التفسير في قوله تعالى: {} أي الحرام، وسمي المال الحرام سحتًا، لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها، (انظر تفسير القرطبي 6/183).
وخلاصة الأمر أنه يحرم شرعًا سرقة الماء والكهرباء، وأنه لا يصح الاعتماد على قول النبي صلى الله عليه وسلم: ""، لأن المقصود بالحديث هو ما لم يُملك، والماء والكهرباء يجري عليهما المِلك، كما هو متعارف عليه، ولا يجوز الاحتجاج في هذا المقام بفعل بعض الناس الذين يسرقون، وقد صح في الأثر من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا".
تاريخ الفتوى: الجمعة 07- يناير- 2010.
حسام الدين عفانه
دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.
- التصنيف:
- المصدر: