شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا قد انتهتْ بموته
وصلتني رسالةٌ تحمل في طيَّاتها هذه القصَّة، لا أعلم صحتها.
يقول صاحب القصة: "كان والدي من المسلمين المحافظين على صلاته، ولكنَّه كان يفعل كثيرًا من المنكرات، وأحيانًا كان يؤخِّر بعضَ الصلوات، فمرض والدي مرضًا شديدًا، ومات بعد ذلك، وكان وقتُ موته قبل صلاة الظهر، فقمتُ بتغسيله وتكفينه، وقلتُ: أنتظر حتى يحينَ موعد صلاة الظهر ويتجمَّع المصلُّون، ثم نُصلِّي عليه صلاةَ الجنازة، وللأسف كان وجه والدي عند تغسيله أسود اللون، وبينما أنا أنتظرُ موعدَ الصلاة، أخذتني غفوةٌ ونِمتُ، ورأيتُ حلمًا غريبًا، رأيتُ في المنام: أنَّ رجلاً يرتدي ملابس بيضاء، قد جاء من بعيدٍ على فرسٍ أبيض، فنزل وجاء إلى والدي، وكشف عن وجه والدي؛ فانقلب سوادُ وجهه إلى بياضٍ ونور، وغطَّى وجهَه، وهمَّ بالذهاب، فسألته: يا هذا، مَن أنت؟ فردَّ وقال: أَلَم تعرفني؟ قلت له: لا، فقال: أنا محمد بن عبد الله، أنا رسولُ الله -عليه الصلاة والسلام- كان والدك لا يخطو خطوةً إلا ويصلِّي عليّ، فهذه شفاعتي له في الدنيا، وله شفاعةٌ يوم القيامة -إن شاء الله- فنهضتُ وأنا مندهش، ولَم أصدِّق ما أنا فيه!
فقلتُ في نفسي: أكشف وجه أبي وأرى، ولَمَّا كشفتُ وجهه، لَم أصدِّق ما رأيته، هل يعقل أن هذا هو وجه والدي؟ كيف انقلب سواده بياضًا؟ ولكني عرفت أنَّ ما رأيته لم يكن حلمًا، بل كانتْ رؤيا، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "من رآني في المنام، فقد رآني؛ لأن الشيطان لا يتمثَّل بي".
فيا أحبَّتي، أكثروا من الصلاة على الحبيب محمدٍ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمد، عدد ما سبَّح طيرٌ وطار، وعدد ما تعاقب ليلٌ ونهار، وصلِّ عليه عدد حبَّات الرمل والتراب، وصلِّ عليه عدد ما أشرقت شمسُ النهار، وصلِّ عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
لكن أشكَل عليَّ فيها عبارة، وهي: "فهذه شفاعتي له في الدنيا، وله شفاعة يوم القيامة، إن شاء الله"، فهل يرد مثل ذلك؟ وهل للرسول -صلى الله عليه وسلم- شفاعةٌ بعد وفاته؟ فقد درست باب الشفاعة، فلم أتطرَّق إلى شفاعةٍ مثل هذه، بل هناك أنواع كثيرة من الشفاعة، وهي ما يقارب ثمانية أنواع، ومنها: الشفاعة العظمى، شفاعته في ناسٍ تساوت حسناتهم وسيِّئاتهم، شفاعته في عمِّه أبي طالب، شفاعته في أهل الكبائر بالخروج من النار، وغير ذلك من الأنواع، لكن عندما قرأتُ هذه الرسالة، أشكلت عليّ، لكن إذا كانت غير صحيحة، فكيف أردُّ على من أرسلها إليّ لتصحيح المعلومة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومن والاه، أما بعدُ:
فإن شفاعة النبي في الدنيا قد انتهتْ بموته صلى الله عليه وسلم وهذا ما فهمه خيرُ القرون؛ فقد روى البخاري عن أنس: أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا، استسقوا بالعباس بن عبدالمطلب، فقال: "اللهم إنا كنَّا نتوسَّل إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإنا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا فاسقنا، قال: فَيُسْقَون"، (قحطوا): أصابهم القحطُ، وهو الجَدْب وقلة المطر، (نتوسَّل): نتشفَّع، ونتقرَّب ونطلب السُّقيا.
ولو جاز الاستشفاع بالنبي بعد موته صلى الله عليه وسلم لما عدل عن ذلك عمر رضي الله عنه وبمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولَم ينكر عليه أحدٌ، والذي ذكرتَهُ لا أصل له، ولا يمكن حدوثه.
وسُئل شيخ الإسلام ابن تيميَّة، كما في "جامع الرسائل": هل يجوز للإنسان أن يتشفَّع بالنبي صلى الله عليه وسلم في طلب حاجةٍ أم لا؟
فأجاب: "الحمد لله، أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة، ثم إنَّ أهل السُّنة والجماعة متفقون على ما اتَّفقت عليه الصحابة، واستفاضت به السُّنن، من أنه يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضًا لعموم الخلق.
وأما الوعيديَّة من الخوارج والمعتزلة، فزعموا أن شفاعته إنما هي للمؤمنين خاصة في رفع الدرجات، ومنهم من أنكر الشفاعةَ مطلقًا.
وأجمع أهل العلم على أنَّ الصحابة كانوا يستشفعون به في حياته، ويتوسلون بحضرته؛ كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس: أنَّ عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا، استسقوا بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا، فيُسْقَون".
وفي "البخاري" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فما ينزل حتى يجيش كلُّ ميزابٍ:
فالاستسقاء هو من جنس الاستشفاع به، وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته فينا، وكذلك معاوية بن أبي سفيان لما أجدب الناسُ في الشام، استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي رضي الله تعالى عنه وقال: "اللهم إنا نستشفع ونتوسل إليك بخيارنا، يا يزيد ارفع يديك، فرفع يديه ودعا الناس حتى سُقوا"، إلى أن قال: "فأما في مغيبه أو بعد موته"، فالإقسام به على الله، والسؤال بذاته لَم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين، بل عمر بن الخطاب ومعاوية، ومن كان يحضرهما من الصحابة والتابعين، لما أجدبوا استسقوا بمن كان حيًّا، كالعباس وكيزيد بن الأسود رضي الله عنهما ولم يُنقل عنهم أنهم في هذه الحالة استشفعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند قبره ولا غيره، فلم يقسموا بالمخلوق على الله عز وجل ولا سألوه بمخلوقٍ: نبيٍّ ولا غيره، بل عدلوا إلى خيارهم، كالعباس وكيزيد بن الأسود، وكانوا يصلون عليه في دعائهم؛ روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "إنا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا"، فجعلوا هذا بدلاً عن ذاك، لما تعذَّر عليهم أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه.
وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به ويقولوا في دعائهم في الصحراء: "نسألك ونقسم عليك بأنبيائك أو بنبيِّك، أو بجاههم ونحو ذلك"، ولا نقل عنهم أنهم تشفَّعوا عند قبره ولا في دعائهم في الصحراء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "" (رواه الإمام مالك في "الموطأ" وغيره)، وفي "سنن أبي داود" أنه قال: ""، وقال: ""، قال ذلك في مرض موته، يحذر ما فعلوا، وقال: "".
وشفاعته صلى الله عليه وسلم في الآخرة؛ فله ثلاث شفاعاتٍ خاصة به عليه الصلاة والسلام:
الأولى: الشفاعة العُظمى في أهل الموقف يوم القيامة.
الثانية: الشفاعة في أهل الجنة؛ حتى يدخلوا الجنة.
الثالثة: شفاعة خاصة بعمِّه أبي طالب.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "العقيدة الواسطية" (1 / 287): وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعاتٍ؛ أمَّا الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف حتى يُقْضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء: آدم ، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ابن مريم، عن الشفاعة حتى تنتهي إليه.
وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له.
وأما الشفاعة الثالثة، فيشفع فيمن استحقَّ النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصِّدِّيقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحقَّ النار ألاَّ يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها.
ويُخْرِج الله من النار أقوامًا بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته، ويَبقى في الجنة فضلٌ عمَّن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها أقوامًا فيدخلهم الجنة". اهـ،، والله أعلم.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- التصنيف:
- المصدر: