ضوابط في التكفير
نرى كثيرا من الشباب بل والهيئات أصبح شغلهم الشاغل هو الحكم على الأشخاص بل وإيصالهم إلى الكفر أحيانا، وأرى فضيلة الشيخ لو حدثتنا عن خطر التكفير وضوابط ذلك حتى يكون طالب العلم على بينة من أمره في هذه المعضلات؟
الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
التكفير حكم شرعي عظيم لا ينبغي أن يقدم عليه طالب العلم إلا بعد تريث ورجوع للعلماء، كشأن النوازل العظام، لذلك لا ينبغي الاستعجال فيه؛ كما لا يجوز إنكاره، فهو حكم شرعي ثابت في نصوص الكتاب والسنة المطهرة، ولهذا لا يخلو كتاب فقه من كتاب المرتد أو الردة على اختلاف مذاهب فقهاء الإسلام، وقد حكم بالردة على مر التاريخ من قبل العلماء على عدد من المرتدين والزنادقة، وأقام الخلفاء والحكام حدَّ الله في بعض هؤلاء بنظر العلماء وفتواهم.
غير أن الحكم بالكفر أو الزندقة أو الفسق عند أهل السنة والجماعة على المعيَّن الذي ثبت له عقد الإسلام لابد له من توافر شروط التكفير وانتفاء موانعه، وأصول الموانع أربعة، لا يجوز أن ينسب معين إلى الكفر قبل النظر فيها.
أولها: الخطأ؛ وهو أن يقصد بفعله شيئاً فيصادف فعله غيرَ ما قصد، فالإنسان لا يقصد المعني الفعل؛ لكن يقع منه خطأ، كمن سقط المصحف من يده وهو يمشي فوطأه بقدمه دون قصد منه لذلك، فهذا مخطئ معذور، كما ورد في صحيح مسلم في الذي قال من شدة الفرح (اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ) ولا شك أن مخاطبة الله بالعبد كفر ومروق من الدين إن كان عن قصد وتعمد واختيار، ولكن لما كان نطق الرجل لها خطأ كان معذورا بخطئه.
وثاني الموانع: الجهل؛ فمتى ثبت جهل الفاعل للكفر أو الفسق أو القائل بهما عذر بجهله، ومع هذا فلا يعني أن الجهل عند العلماء عذر مقبول لكل من ادعاه؛ فالجهل عندهم درجات مختلفة، فجهل ما هو معلوم من الدين بالضرورة، غير جهل ما دونه، فيعذر الانسان في المسائل غير القطعية المعلومة من الدين بالضرورة، أما المسائل القطعية المعلومة فالأصل العلم بها، وقد لا تقبل دعوى الجهل بها، ومن ذلك كفر اليهود والنصارى، ثم قد تعرض للجاهل بالحكم شبهة؛ ولاسيما إن ضعُف علمه بالشرع، وقلَّت بصيرته فيه، فإن عرضت الشبهة فهذا هو التأول، وهو المانع الثالث.
وثالث الموانع: الشبهة أو التأويل، والمراد به التلبس بالكفر أو الوقوع به متأولاً من غير قصد للكفر. ومنه السائغ ومنه غير السائغ، وضابط التأويل السائغ هو الذي له وجه في العلم واللغة العربية. ثم اختلف العلماء في العذر به، وبالجهل إذا كان الفعل الكفري يناقض إحدى الشهادتين، فمنهم من عذر، ومنهم من لم يرَ العذر به، وهناك تأويلات اتفق أهل العلم على عدم العذر به كتأويلات الباطنية، والحلولية، وغيرهم من الغلاة؛ لأن حقيقة أمرهم هو تكذيب للدين، أو التكذيب لأصلٍ لا يقوم الدين إلا به، أو عدم تحقيق توحيد العبادة لله وحده.
ورابع الموانع: الإكراه؛ كأن يكره على كلمة الكفر أو فعل الكفر أو الفسق، فلا ينزل على المكره الحكم، ويفرق فيه أهل العلم بين المكره الملجئ وغير الملجئ فالملجئ هو المعذور بنطق الكفر أو عمله دون غيره كما في قوله تعالى: {}.
وكما أن الموانع لابد أن تنتفي في حق المعيَّن قبل تكفيره؛ فلابد أن تتوافر فيه الشروط، كالعقل والبلوغ، وإقامة الحجة، فإن توافرت الشروط، وانتفت الموانع، لزم الحكم بكفر المعيَّن الذي أتى الكفر، ورِدَّته وإن ادعى الإسلام.
والتكفير وفق الضوابط السابقة مرده إلى أهل العلم، وأما إقامة الحد فمرده إلى الحاكم، وبعض الناس يغلط؛ فيظن أن الحكم بالتكفير لاينبغي إلا للحاكم، وهذا خلط بين الحكم بالكفر والردة وبين إقامة الحد عليه؛ فهذا الأخير هو الذي يرد أمر إنفاذه إلى ولي الأمر، أما الحكم الشرعي فمرده إلى العلماء.
هذا وقد اختلف العلماء في المرتد؛ هل يستتاب أم يقتل من غير استتابة، وذهب المحققون منهم إلى وجوب استتابته، ومراجعته قبل إقامة حد الردة عليه، أما الزنديق الذي لا يقر بالكفر فإنه لا يستتاب، وكذلك المرتد الممتنع في جماعة، ولا يقدر عليه إلا بالقتال؛ فإنه يقاتل ويقصد بالقتل.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تاريخ الفتوى:19-8-1429 هـ.
ناصر بن سليمان العمر
أستاذ التفسير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سابقا
- التصنيف:
- المصدر: