تجوز قسمةُ الميراثِ بالتراضي

منذ 2014-03-23
السؤال:

هل يجوز للورثة أن يقسموا الميراث بالتراضي، ويعطوا والدتهم أكثرَ من الثمن الذي تستحقه شرعاً، أفيدونا؟

 

الإجابة:

أولاً:  بيَّن الله عز وجل تقسيمَ الميراث في كتابه الكريم بالتفصيل، وذلك في سورة النساء، فقال الله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً}، وقال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ…فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً. وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ…مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ. تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌوقال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ…يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
فهذا توزيعٌ ربانيٌ للميراث، وقد ثبت في الحديث أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أعطى كل ذي حقٍ حقَّهُ، فلا وصية لوارث» (رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح. وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع).
وصح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها» (رواه البخاري). وفي رواية لمسلم: «اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله».
وإذا أمعنا النظر فيما عقَّبَ اللهُ عز وجل به آياتِ الميراث السابقة، لرأينا التحذير والوعيد من مخالفتها، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.

ثانياً: اتفق العلماء على أن ملكية التركة تنتقل للورثة بمجرد موت المورث، فالموت مبطلٌ للملكية، إذا لم يكن ديونٌ على الميت، [اتفقوا– الفقهاء - على أن التركة تنتقل إلى الوارث إذا لم يتعلق بها ديون من حين وفاة الميت]الموسوعة الفقهية الكويتية 24 /76.

ثالثاً:  يجوز للورثة أن يقسموا التركة بالتراضي، ويعطوا والدتهم أكثرَ من حقِّها الشرعي، وهو الثمن في حالة وجود أولاد لزوجها الميت، قال تعالى: {فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [سورة النساء الآية 12].
ويشترط لقسمة التركة بالتراضي بين الورثة ما يلي:
1 أن يكون جميعُ الورثة بالغين عاقلين راشدين، والرشد عند جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة: حسن التصرف في المال، والقدرة على استثماره واستغلاله استغلالاً حسناً. وعند الشافعية: صلاح الدِّين والصلاح في المال. والمقصود من كل ذلك أن يكون الورثة جميعاً أهلاً للتصرفات المالية،  حتى يعتد بتصرفهم شرعاً. الموسوعة الفقهية الكويتية 7/160.
2 ويشترط أيضاً لقسمة التركة بالتراضي، أن يكون التراضي حقيقياً، دونما إكراهٍ ولا إلجاءٍ ولا حياءٍ. [وذلك إنما يتحقق إذا كان"الرضا"سليماً، أي بأن يكون حراً طليقاً لا يشوبه ضغطٌ ولا إكراهُ، ولا يتقيد بمصلحةِ أحدٍ كرضا المريض، أو الدائن المفلس، وأن يكون واعياً، فلا يحول دون إدراك الحقيقة جهلٌ، أو تدليسٌ وتغريرٌ، أو استغلالٌ، أو غلطٌ أو نحو ذلك مما يعوق إدراكه. فمن عيوب الرضا الإكراه والجهل والغلط، والتدليس والتغرير، والاستغلال وكون الرضا مقيداً برضا شخص آخر] الموسوعة الفقهية الكويتية 22/234.  
3 يجب على الورثة خاصةً وعلى كل مسلم عامةً أن يعتقد أن قسمة الله تعالى هي الأعدل والأفضل، ويحرم عليه أن يعدل عنها كُرهاً لها، أو عن اعتقاده أن فيها جوراً، أو غير مناسبةٍ للعصر والأوان كما يزعم التغريبيون وأمثالهم. قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [سورة التين الآية 8]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة الآية 50].
قال الشيخ ابن كثير: [وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يُنكرُ تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خيرٍ، الناهي عن كل شرٍ، وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستندٍ من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان، الذي وضع لهم "الياسق" وهو عبارةٌ عن كتابٍ مجموعٍ من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثيرٌ من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فعل ذلك منهم فهو كافرٌ يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يحكم سواه في قليلٍ ولا كثيرٍ، قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَأي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالمُ بكل شيءٍ، القادرُ على كل شيءٍ، العادلُ في كل شيءٍ] تفسير ابن كثير3/131.
وقال الشيخ محمد سيد طنطاوي: [وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} إنكارٌ منه سبحانه، لأن يكون هناك حكمٌ أحسن من حكمه أو مساوٍ له. أي: لا أحد أحسنُ حكماً من حكم الله تعالى عند قومٍ يوقنون بصحة دينه، ويذعنون لتكاليف شريعته، ويقرون بوحدانيته، ويتبعون أنبياءه ورسله، فاللام في قوله: لِقَوْمٍ بمعنى عند، وهي متعلقة بأحسن، ومفعول يُوقِنُونَ محذوفٌ، أي لقومٍ يوقنون بحكمه وأنه أعدل الأحكام. والجملة حاليةٌ متضمنةٌ لمعنى الإِنكار السابق. وخص سبحانه الموقنين بالذكر، لأنهم هم الذين يحسنون التدبر فيما شرعه الله من أحكام، وينتفعون بما اشتملت عليه من عدلٍ ومساواةٍ] التفسير الوسيط 1/1292.
إذا تقرر هذا فإنه إذا توفرت الشروطُ السابقةُ، فقسمةُ الميراث بالتراضي جائزةٌ، ويعتبر ذلك نوعاً من الصلح بين الورثة،  والصلحُ مشروعٌ بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن الأدلة على مشروعيته:
قول الله سبحانه تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [سورة النساء الآية 114]، فالآية الكريمة قد حضت على الإصلاح بين الناس عند حصول الخلافات، ورتبت الأجر العظيم على ذلك.
وقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [سورة البقرة الآية 182]،
وقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [سورة النساء الآية 128].
وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلحُ جائزٌ بين المسلمين إلا صلحاً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً» (رواه أبو داود والترمذي وابن حبان وغيرهم، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/142).
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه كان له على عبد الله ابن أبي حدرد الأسلمي مالٌ، فلقيه فلزمه حتى ارتفعت أصواتُهما، فمرَّ بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا كعب، فأشار بيده كأنه يقول النصف، فأخذ نصفَ ما له عليه وترك نصفاً (رواه البخاري).
وفي رواية للبخاري أيضاً عن كعب رضي الله عنه «أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتُهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سِجف حجرته-ستر البيت-فنادى: يا كعب قال: لبيك يا رسول الله، فقال: ضع من دينك هذا، وأومأ إليه، أي الشطر، قال: لقد فعلت، قال: قم فاقضه».
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة سؤالاً مشابهاً، فأجابوا: [تقسم بينهم حسب الميراث الشرعي بواسطة أهل الخبرة بالتقويم، وإن تراضوا بينهم في القسمة وهم راشدون فلا بأس] فتاوى اللجنة الدائمة16/459.

وخلاصة الأمر أن الله عز وجل قد بيَّن تقسيم الميراث في كتابه الكريم بالتفصيل وذلك في سورة النساء، وأن العلماء قد اتفقوا على أن ملكية التركة تنتقل للورثة بمجرد موت المورث، فالموت مبطلٌ للملكية، إذا لم يكن ديونٌ على الميت، وأنه يجوز للورثة أن يقسموا التركة بالتراضي، ويعطوا والدتهم أكثرَ من حقها الشرعي، وهو الثمن، وأنه يشترطُ لقسمة التركة بالتراضي أن يكون جميع الورثة بالغين عاقلين راشدين، ويعتد بتصرفهم شرعاً. وأن يكون التراضي حقيقياً، دونما إكراهٍ ولا إلجاءٍ ولا حياءٍ. وأنه يجب على الورثة خاصةً وعلى كل مسلم عامةً أن يعتقد أن قسمة الله تعالى هي الأعدل والأفضل، ويحرم عليه أن يعدل عنها كُرهاً لها، أو عن اعتقاده أن فيها جوراً، أو غير مناسبةٍ للعصر والأوان كما يزعم التغريبيون وأمثالهم. وأنه إذا توفرت الشروطُ السابقةُ فقسمةُ الميراث بالتراضي جائزةٌ،
ويعتبر ذلك نوعاً من الصلح بين الورثة، والصلحُ مشروعٌ بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
والله الهادي إلى سواء السبيل.

 

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.