نظراتٌ نقديةٌ في فتوى المجلس الأعلى للإفتاء الفلسطيني حول “التعارف بين الشباب والفتيات عن طريق الإنترنت بهدف الزواج”
يقول السائل:ما قولكم في الفتوى التي أباحت التعارف بين الشباب والفتيات عن طريق الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بهدف الزواج، أفيدونا.
قرأت الفتوى الصادرة عن المجلس الأعلى للإفتاء الفلسطيني وتأملتها ودققت النظر فيها، ولبيان الرأي فيها لا بدّ من الوقفات التالية:
أولاً: لا بد من معرفة الضوابط الشرعية التي تضبط العلاقة بين الشاب والفتاة، وخاصة في ظل فتنة النساء في هذا الزمان، وما يظهرن به من تبرجٍ، وملابس لا تقرها الشريعة، وقد صح في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه مسلم). وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه البخاري ومسلم). ومن هنا جاء التأكيد على أهم ضوابط كلام المرأة للرجل، ألا وهو عدم الخضوع بالقول، وأن يكون القول الذي تقوله المرأة قولاً معروفاً، كما قال تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [سورة الأحزاب الآية32]. وطهارة القلوب أمرٌ مطلوبٌ شرعاً في هذه العلاقة، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [سورة الأحزاب الآية53]. ولا بد أن يكون كلامُ الرجل مع المرأة في حدود الأدب الشرعي، وعند الحاجةِ فقط، وقد قرر الفقهاء منعَ كلام الرجلِ مع المرأة إذا خُشيت الفتنة، وبالذات إذا كانا شابين[ذهب الفقهاء إلى أنه لا يجوز التكلم مع الشابة الأجنبية بلا حاجةٍ، لأنه مظنةُ الفتنة، وقالوا إن المرأة الأجنبية إذا سلَّمت على الرجل إن كانت عجوزاً ردَّ الرجلُ عليها لفظاً، أما إن كانت شابة يُخشى الافتتان بها أو يُخشى افتتانها هي بمن سلَّم عليها، فالسلام عليها وجواب السلام منها حكمه الكراهة عند المالكية والشافعية والحنابلة، وذكر الحنفية أن الرجل يردُّ على سلام المرأة في نفسه إن سلَّمت عليه وتردُّ هي في نفسها إن سلَّم عليها، وصرح الشافعية بحرمة ردِّها عليه] الموسوعة الفقهية الكويتية35/122.
ومن المقرر شرعاً سدٌّ الطرق المفضية إلى الفتنة، كما ورد في رواية لحديث الخثعمية التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة وفيه « » (رواه أحمد والترمذى وقال: حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني).
ثانياً: الطريق الشرعي لتعرف الخاطب على المخطوبة هو التوجه لوليها وأهلها، فإما أن يتوجه الخاطب بنفسه أو يرسلَ أُمه أو إحدى قريباته لبحث الأمر مع المخطوبة وأهلها، لإبداء رغبته في المخطوبة، بعد أن يكون الخاطب قد سأل الثقات عن المخطوبة وأهلها، وهذا ما قرره الشرع وجرى عليه العرفُ الصحيحُ في بلادنا وغيرها من بلاد المسلمين، فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس حين استشارته في نكاح معاوية أو أبي الجهم: « » (رواه مسلم). ومن ثمَّ تكون رؤية الخاطب للمخطوبة في بيت وليها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « » (رواه مسلم). ويستحب للخاطب أن يستخير بعد أن يستشير، فعن جابر رضي الله عنه قال: « » (رواه البخاري)، والنكاح داخل في عموم الحديث.
ثالثاً: ورد في الفتوى المشار إليها [ومع تقديرنا لمنهج التحوط الذي أخذ به هذا الفريق من العلماء، وحرصهم البالغ على إغلاق منافذ الفتنة، والسبل التي قد تفضي إلى الرذيلة والفواحش كلها، فإن مجلس الإفتاء الأعلى يرى أن العبرة في الحكم بالجواز أو عدمه في مسألة التعارف بين الجنسين، لا تتمثل في الوسيلة المستخدمة للتواصل والمراسلة، وإنما هي في مضمون الحديث نفسه وأهدافه المبتغاة، ومن حيث التزامه بالضوابط والمعايير الشرعية أو خروجه عنها] وهذا الكلام مردودٌ، لأن للوسائل أحكام المقاصد كما قرر العلماء، قال الإمام العز بن عبد السلام: للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل قواعد الأحكام 1/46. وقال القرافي: [وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنَّها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة، ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} فأثابهم الله على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم بسبب أنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد، الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين، فيكون الاستعداد وسيلة الوسيلة] الفروق 2/33. وبناءً على ذلك، فالوسيلةُ معتبرةٌ في مسألة التعارف بين الجنسين، فلو أن شاباً حمل مكبرَ صوتٍ ووقف في السوق ولما مرَّت إحدى الفتيات صاح بأعلى صوته: يا فلانة بنت فلان، أريد أن أخطبك، فما قولك؟ لكانت هذه الوسيلة مرفوضةً شرعاً وعرفاً، وإن كان مضمون الكلام لا شيء فيه!
رابعاً: ورد في الفتوى المشار إليها أن من ضمن ضوابط الإباحة: [أن تكون هناك ضرورةٌ أو حاجةٌ ماسَّةٌ لذلك]ولا أدري كيف تتأتى الضرورة في هذا الأمر؟! وهل التعارف بين الشباب والفتيات عن طريق الإنترنت تدخله الضرورة، قال الفقهاء: [الضرورة هي أن تطرأ على الإنسان حالةٌ من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوثَ ضررٍ أو أذىً بالنفس أو بالعضو أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها، ويتعين أو يباح عندئذٍ ارتكابُ الحرام أو تركُ الواجب أو تأخيرُه عن وقته دفعاً للضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع] نظرية الضرورة الشرعية ص67-68. فدعوى دخول الضرورة في التعارف بين الشباب والفتيات عن طريق الإنترنت دعوى باطلةٌ شرعاً، ولا تنطبق معايير الضرورة في الشرع على هذا الأمر بحالٍ من الأحوال. ونفس الكلام يُقال فيما ورد في الفتوى أن [المجلس يرى أن التعارف والحديث عبر شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعي، التي تطورت في هذا العصر، وأضحت سمةً من أبرز سماته ومعالمه، وضرورةً لا يُستغنى عنها، بل يتعذر تجنبها] إن القول بأن الإنترنت ضرورة لا يُستغنى عنها، وأنه يتعذر تجنبها، كلامٌ باطلٌ يرده الواقع، فملايين الناس لا يستعملون الإنترت، وتجنبوه فعلاً؟! وأما الحاجة الماسة الواردة في الفتوى فلا تدخل أيضاً في تعارف الشباب والفتيات عن طريق الإنترنت، لأن الحاجة الماسة ملحقةٌ بالضرورة، قال الشاطبي: [الحاجيات ومعناها أنها مُفْتَقَرٌ إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق، المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة لفوت المطلوب، فإذا لم تُراعَ دخل على المكلفين-على الجملة-الحرجُ والمشقةُ، ولكنه لا يبلغُ مبلغَ الفساد المتوقع في المصالح العامة] الموافقات2/10-11. فالحاجةُ هي: أن يكون الإنسان في حالة من الجهد والمشقة التي لا تؤدي به إلى الهلاك إذا لم يتناول المحرم شرعاً، وهذه الحالةُ مرتبةٌ دون الضرورة. وهذه الحاجةُ غيرُ متحققةٍ في تعارف الشباب والفتيات عن طريق الإنترنت، فأين الحرج والمشقة؟ لأن الحاجة يترتب عليها مشقةٌ وحرجٌ، لكنه دون الضرر المترتب على الضرورة. انظر ضوابط الضرورة في الشريعة الإسلامية.
خامساً: ما ورد في الفتوى من قيودٍ تضبط تعارف الشباب والفتيات عن طريق الإنترنت، مثل: [وينبغي أن يكون الحديث بقدر هذه الحاجة، وفي حدود هذا الهدف، ولا يتجاوزهما لمسائل شخصية أخرى من شأنها إثارة الغرائز، وإيقاظ الشهوات، وأن يكون التواصل بينهما في حدود الأحكام الشرعية، والآداب والأخلاق الإسلامية، وأن يجري الحديثُ بينهما بمعرفة الأهل، وتحت اطلاعهم، وليس في غرفٍ مغلقةٍ، ولا في ظل ستارٍ من السرية والكتمان] أقول إن هذه القيود ما هي إلا أمورٌ نظريةٌ، لا يمكن ضبطُها فعلياً، ويعلم ذلك من له خبرةٌ بالإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي.
سادساً: لا شك لديَّ أن فتح باب تعارف الشباب والفتيات عن طريق الإنترنت، ما هو إلا فتحٌ لبابِ شرٍ مستطيرٍ، وفتحٌ لأبواب الفساد، ومدخلٌ من مداخل الشيطان، بل هو أول خطوات الشيطان إلى الحرام، وذريعةٌ للفتنة والفساد، ومن المعلوم أن من قواعد الشريعة سدُّ الذرائع المفضية إلى الفساد، وقاعدة سدِّ الذارئع من القواعد المقررة شرعاً، ويدل عليها قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الأنعام الآية 108]. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [سورة البقرة الآية 104]. وما ثبت في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كفَّ عن قتل المنافقين، لأن قتلهم ذريعة لأن يقال إن محمداً يقتل أصحابه. (رواه البخاري ومسلم).
سادسا: من المعلوم أن إمكانية الكذب والخداع والمكر، واردةٌ بشكلٍ كبيرٍ في ما يسمَّى”الشات”، وكذلك فإن واقع الاتصال عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي بين الشباب والفتيات، يترتب عليه حدوث مفاسد كثيرة، وقد سمعنا عن حوادث وقصص وجرِّ الفتيات إلى مستنقعات الفساد والرذيلة والإسقاط مما يشيب له الوالدان. ولا شك أن ذلك من خطوات الشيطان، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [سورة النور الآية21].
سابعاً: ذكرت الفتوى أن كثيراً من العلماء والفقهاء وكذلك بعض المجامع الفقهية، قالوا بتحريم التعارف بين الشباب والفتيات عن طريق الإنترنت بهدف الزواج، وساقت الفتوى بعض أدلتهم [وقد حذرنا الله تعالى من مغبة الوقوع في حبائل الشيطان بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} والأصل في مثل هذه الحالات-كما يقول أصحاب هذا الرأي-أن درء الفتنة والإثارة مقدَّم على مصلحة التعارف والزواج، عملاً بالقاعدة الشرعية: درءُ المفاسد أولى من جلب المصالح ويتضح هذا من قول رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح البخاري)، وقوله صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح مسلم)]وحبذا لو أخذت الفتوى بهذا القول الذي تؤيده نصوص الشريعة وقواعدها، والمتفق مع مقاصد الشارع الحكيم.
وخلاصة الأمر أن أهم ضوابط كلام المرأة للرجل هو عدم الخضوع بالقول، وأن يكون القول الذي تقوله المرأة قولاً معروفاً، وأن الطريق الشرعي لتعرف الخاطب على المخطوبة هو التوجه لوليها وأهلها، وليس عن طريق “الشات”، وأن العلماء قرروا أن للوسائل أحكام المقاصد، وأن دعوى دخول الضرورة في التعارف بين الشباب والفتيات عن طريق الإنترنت دعوى باطلةٌ شرعاً، ولا تنطبق معايير الضرورة في الشرع على هذا الأمر بحالٍ من الأحوال، وكذلك الحاجة الماسة لا تدخل أيضاً في تعارف الشباب والفتيات عن طريق الإنترنت، لأن الحاجة الماسة ملحقةٌ بالضرورة، وأن القيود التي ذكرتها الفتوى ما هي إلا أمورٌ نظريةٌ، لا يمكن ضبطُها فعلياً، وأن فتح باب تعارف الشباب والفتيات عن طريق الإنترنت، ما هو إلا فتحٌ لبابِ شرٍ مستطيرٍ، وفتحٌ لأبواب الفساد، ومدخلٌ من مداخل الشيطان، بل هو أول خطوات الشيطان إلى الحرام، وحبذا لو أن الفتوى أخذت بالتحريم الذي قال به كثيرٌ من العلماء والفقهاء وبعض المجامع الفقهية,وأن القول بتحريم التعارف بين الشباب والفتيات عن طريق الإنترنت بهدف الزواج، هو الذي تؤيده نصوص الشريعة وقواعدها، والمتفق مع مقاصد الشارع الحكيم. والله الهادي إلى سواء السبيل.
حسام الدين عفانه
دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.
- التصنيف:
- المصدر: