حكم مخالفة الطريق في الجمعة والصلوات الخمس مثل العيد
وفقكم الله لكل خير, وجعل ما تقدمونه للإسلام والمسلمين في ميزان حسناتكم, ولا حرمنا الله أمثالكم. سمعنا أنه من السنة مخالفة الطريق لدى الذهاب والعودة من مصلى العيد, فهل مخالفة الطريق في الذهاب والعودة من الصلاة المفروضة يعتبر سنة؟ وهل نية الذهاب لمسجد بعيد رغبة في الحسنات يعتبر سنة - وفقكم الله -؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن السنة لمن صلى العيد الرجوع من طريق آخر غير الطريق الذى ذهب منه, وهذا ثابت من هديه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا الأمر حِكَمٌ وفوائد نبه عليها بعض أهل العلم, وقال بعضهم: إن الجمعة والصلوات الخمس تشترك مع العيد في مسألة مخالفة طريق الرجوع أيضًا, جاء في الإنصاف للمرداوي: قوله (وإذا غدا من طريق رجع في أخرى) هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم، وقيل: يرجع في الطريق الأقرب إلى منزله، ويذهب في الطريق الأبعد.
فائدة: ذهابه في طريق ورجوعه في أخرى: فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه البخاري ومسلم, فقيل: فعل ذلك ليشهد له الطريقان، وقيل: ليشهد له سكان الطريقين من الجن والإنس، وقيل: ليتصدق على أهل الطريقين، وقيل: له ليساوي بينهما في التبرك به، وفي المسرة بمشاهدته، والانتفاع بمسألته، وقيل: ليغيظ المنافقين أو اليهود، وقيل: لأن الطريق الذي يغدو منه كان أطول فيحصل كثرة الثواب بكثرة الخطى إلى الطاعة، وقيل: لأن طريقه إلى المصلى كانت على اليمين, فلو رجع لرجع إلى جهة الشمال، وقيل: لإظهار شعار الإسلام فيهما، وقيل: لإظهار ذكر الله، وقيل: ليرهب المنافقين واليهود بكثرة من معه - ورجحه ابن بطال - وقيل: حذرًا من كيد الطائفتين أو إحداهما، وقيل: ليزور أقاربه الأحياء والأموات، وقيل: ليصل رحمه، وقيل: ليتفاءل بتغيير الحال إلى المغفرة والرضا، وقيل: كان في ذهابه يتصدق فإذا رجع لم يبق معه شيء فيرجع في طريق أخرى؛ لئلا يرد من يسأله - قال الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر: وهو ضعيف جدًّا - وقيل: فعل ذلك لتخفيف الزحام، وقيل: لأن الملائكة تقف على الطرقات فأراد أن يشهد له فريقان منهم، وقال ابن أبي جمرة: هو في معنى قول يعقوب لبنيه: {لا تدخلوا من باب واحد} [يوسف: 67] فأشار إلى أنه فعل ذلك حذرًا من إصابة العين، وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله - إنه فعل ذلك لجميع ما ذكر من الأشياء المحتملة القريبة. انتهى. قلت: فعلى الأقوال الثلاثة الأول: يخرج لنا فعل ذلك في جميع الصلوات الخمس، وقد نص الإمام أحمد - رحمه الله - على استحباب ذلك في الجمعة، وهو الصحيح من المذهب، وقيل: لا يستحب. انتهى
وقد رجح الشيخ ابن عثيمين أن هذه السنة خاصة بالعيد فقط, دون غيره, حيث قال في الشرح الممتع: ولهذا عدَّى بعضهم هذا الحكم إلى الجمعة، وقالوا: يسنّ أن يأتي إلى الجمعة من طريق، ويرجع من طريق أخرى؛ لأنها صلاة عيد واجتماع، فيسنّ فيها مخالفة الطريق, وعدَّى بعض العلماء هذا الحكم إلى سائر الصلوات، فقال: يسنّ أن يأتي للصلاة من طريق، ويرجع من طريق آخر, وقال بعض العلماء: يسنّ لكل من قصد أمرًا مشروعًا أن يذهب من طريق، ويرجع من طريق آخر, فلو ذهبت لعيادة مريض، فإنه يسنّ لك أن تذهب إليه من طريق وترجع من طريق آخر، ولو ذهبت لصلة قريب فكذلك، ولكن التوسع في القياس إلى هذا الحد أمر ينظر فيه، بمعنى أن هذا لا يُسلم لمن قاس، لا سيما وأن هذه الأشياء التي ذكروها موجودة في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولم ينقل عنه أنه خالف الطريق إلا في العيد، ولدينا قاعدة مهمة لطالب العلم وهي: «أن كل شيء وجد سببه في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم يحدث له أمرًا، فإن من أحدث له أمرًا فإحداثه مردود عليه» لأننا نقول: هذا السبب الذي جعلته مناط الحكم موجود في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فلماذا لم يفعله؟ فترك النبي صلّى الله عليه وسلّم الشيء مع وجود سببه يكون تركه سنّة، والتعبُّد به غير مشروع. فقد كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يأتي إلى الجمعة ولا يخالف الطريق، وكان يزور أصحابه ويعود المرضى ولا يخالف الطريق، وكان يأتي إلى الصلوات الخمس ولا يخالف الطريق. إلى أن قال: فالصواب مع من يرى أن مخالفة الطريق خاصةٌ بصلاة العيدين فقط، وهذا هو ظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ؛ لأنه لم يذكر مخالفة الطريق في الجمعة، وذكره في العيدين، فدل ذلك على أن اختياره أنه لا تسن مخالفة الطريق إلا في صلاة العيدين. انتهى
وبخصوص السؤال الأخير فجوابه أن الذهاب للمسجد الأبعد رغبة في الأجر لم نقف على ما يدل على سنيته, وقد رجح الشيخ ابن عثيمين أن الأفضل هو الصلاة في المسجد الأقرب إلا إذا كان الشخص في مكة فليسع للمسجد الحرام, أو كان في المدينة فليذهب للمسجد النبوي, ولو كانا بعيدين, حيث قال في الشرح الممتع: والصَّواب أن يقال: إن الأفضلَ أنْ تُصلِّيَ فيما حولك مِن المساجد؛ لأنَّ هذا سببٌ لعِمارتهِ, إلا أن يمتاز أحدُ المساجدِ بخاصِّيَّةٍ فيه فيُقدَّم، مثل: لو كنتَ في المدينة، أو كنت في مكَّة، فإنَّ الأفضلَ أن تصلِّيَ في المسجدِ الحرامِ في مكَّة وفي المسجد النَّبويِّ في المدينة, أما إذا لم يكن هناك مزيَّة فإنَّ صلاةَ الإنسانِ في مسجدِه أفضلُ؛ لأنَّه يحصُلُ به عِمارته؛ والتأليف للإمام وأهل الحيِّ، ويندفع به ما قد يكون في قلب الإمامِ إذا لم تُصلِّ معه؛ لا سيما إذا كنت رَجُلاً لك اعتبارك, وأما الأبعد فيجاب عن الحديث بأن المراد في قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يخطو خطوةً إلا رَفَعَ اللهُ له بها درجةً، وحَطَّ عنه بها خطيئةً» أنَّه في مسجدٍ ليس هناك أقرب منه، فإنَّه كلَّما بَعُدَ المسجدُ وكلَّفتَ نفسك أن تذهبَ إليه مع بُعدِهِ كان هذا بلا شَكٍّ أفضل مما لو كان قريبًا، لأنه كلَّما شقَّت العبادةُ إذا لم يمكن فِعْلُها بالأسهل فهي أفضل، كما قال النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام لعائشة: «إنَّ أجْرَكِ على قَدْرِ نَصَبِكِ», فالحاصل: أن الأفضل أن تصلِّيَ في مسجدِ الحَيِّ الذي أنت فيه، سواءٌ كان أكثر جماعة أو أقل؛ لما يترتَّب على ذلك مِن المصالح، ثم يليه الأكثر جماعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما كان أكثرُ فهو أحبُّ إلى الله»، ثم يليه الأبعدُ، ثم يليه العتيقُ؛ لأن تفضيلَ المكان بتقدُّم الطَّاعة فيه يحتاج إلى دليلٍ بَيِّنٍ، وليس هناك دليلٌ بَيِّنٌ على هذه المسألةِ. انتهى
والله أعلم .
الشبكة الإسلامية
موقع الشبكة الإسلامية
- التصنيف:
- المصدر: