المفاضلة بين تعلم العِلْم الشرعي، والعلْم الدنْيوي

منذ 2015-04-17
السؤال:

هل طلَب العِلْم الشرعي أفضل من طلب العلْم الدنْيوي النَّافع المفيد؟

ممكن إجابة علميَّة تفصيليَّة بحتة.

وجُزيتُم خيرًا.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإنَّ طلب العلوم الشرعيَّة من أفضل ما يتقرَّب به العبد إلى الله تعالى؛ إذ شرف العلْم بشرف المعلوم، وله مكانة ومنزلة خاصَّة بين العلوم النَّافعة؛ قال الثَّوري: "إنَّما فضِّل العلم لأنَّه يتَّقى به الله، وإلاَّ كان كسائر الأشْياء".

وقد تكاثرت الآيات، والأخبار، والآثار، وتواترت وتطابقت الدَّلائل الصَّريحة، وتوافقت على فضيلة العلم، والحث على تحصيله، والاجتهاد في تعليمه؛ قال الله تعالى: {
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقال تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة.

وعن معاوية - رضِي الله عنْه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
«مَن يُرِد الله به خيرًا يفقِّهه في الدّين»؛ متفق عليه.

وعن أبي موسى الأشْعري - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
«إنَّ مثل ما بعثَني الله به من الهُدى والعلم كمثَل غيثٍ أصاب أرْضًا، فكانتْ منها طائفةٌ طيِّبة قبِلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادبُ أمسكت الماء، فنفع الله بها النَّاس فشربوا منها وسقوا وزرَعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنَّما هي قيعان لا تُمسك الماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل مَن فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلَّم، ومثل مَن لم يرفعْ بذلك رأسًا، ولم يقبل هُدى الله الَّذي أرسلتُ به»؛ متفق عليه.

وعن ابن مسعود - رضي الله عنْه - قال: قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:
«لا حسدَ إلاَّ في اثنتَين: رجُلٌ آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكتِه في الحقِّ، ورجُل آتاه الله الحِكْمة، فهو يقضي بها ويعلِّمُها»؛ متفق عليه، والمراد بالحسد: الغِبْطة، وهي أن يتمنَّى مثلَه.

وعن سهْل بن سعْد - رضِي الله عنْه -: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لعليٍّ - رضي الله عنْه -:
«فوالله، لأنْ يهديَ الله بك رجُلاً واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعم»؛ متَّفق عليه.

وعن أبي هُريرة - رضيَ الله عنْه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:
«من دعا إلى هدًى كان له من الأجْر مثلُ أجور مَن تبِعه، لا ينقص ذلك من أجورِهِم شيئًا، ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليْه من الإثم مثلُ آثام مَن تبعه، لا ينقُص ذلك من آثامهم»؛ رواه مسلم.

وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
«فضل العالم على العابِد كفضلي على أدْناكم»، ثم قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنَّ الله وملائكتَه وأهل السموات والأرض، حتَّى النَّملة في جحرها، وحتَّى الحوت - ليصلُّون على معلمي النَّاس الخير»؛ رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

والأحاديث في هذا الباب أكثَرُ من أن يُحاط بها، وقد فضَّل الأئمَّة الاشتِغال بالعلم الشَّرعي على سائر نوافل العبادات، من الصَّلاة والصّيام وغيرهما، التي يقتصر النَّفع فيها على صاحبها.

أمَّا العلوم الدنيويَّة، كالطّبّ والفيزياء، والكيمياء والرّياضيَّات، والهندسة والميكانيكا، وعلوم الحاسوب والتكنولوجيا، والبناء والملاحة، وغيرها مما ينفع الإنسان في حياتِه، ويستفيدُ منها المسلمون ويَحتاجون إليْها - فلا شكَّ أنَّ تعلُّمَها من الواجبات الكفائيَّة، وقد ذهب كثيرٌ من العلماء إلى وجوب تعلُّم العلوم والصناعات التي يُحتاج إليْها، فمَن تعلَّمها لأجل نفع المسلمين وخِدمة الدين، والاستغناء عن الكفَّار - فمأْجور مثاب، إن شاء الله؛ لقولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
«إنَّما الأعمال بالنِّيَّات»؛ متَّفق عليْه.

ولأنَّ المسلمين يحتاجون إليْها في شؤون حياتِهم الدنيويَّة، وفي مجال الإعدادِ لِمواجهة أعداء الله - عزَّ وجلَّ - في شتَّى الجوانب، ونصوص الشَّريعة العامَّة وقواعدها العامة تدلّ على وجوب تَحصيل المسلمين ما يتقوَّون به، ويواجهون به أعداءَهم؛ ومن ذلك قولُه تعالى: {
وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].

ولا يُمكننا الحصول على تلك القوَّة إلاَّ بدراسة التكنولوجيا الحديثة، ولأنَّها إذا تُرِكَت بالكلّيَّة فستضيع المجتمعات، ويتعطَّل القيام بكثير من أمور الدنيا والدين.

قال الشيخ عبدالله بن جبرين: "فالعلوم التي تنفع المسلمين كالعلوم الحربية أولى وأوجب".


هذا؛ وإن كان الأوْلى بالمسلم أن يجمع بين تعلم العلم الشرعي والعلوم الدنيوية كما كان الأئمَّة السَّابقون، ولِما في ذلك من الجمْع بين جلْب المصالح له، فدراسةُ العلوم الدنيويَّة ليستْ منافيةً للتفقُّه في الدين، فلا تُترك العلوم الدنيوية بدَعوى الانشغال بالدين، ولا تُترك العلوم الشَّرعية بالانهِماك في الدنيا، ومن تأمَّل دُعاء النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «اللَّهُمَّ أصلِحْ لي ديني الَّذي هو عِصْمة أمري، وأصلِحْ لي دنياي التي فيها معاشي»؛ رواه مسلم، علم هذا،،

والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام