وجوب النفقة الزوجية بعد الزفاف وليست بمجرد العقد

منذ 2015-09-30
السؤال:

عقدتُ زواجي على امرأةٍ وسيتم الزفاف بعد سنةٍ حتى أُعدَّ بيت الزوجية،فهل يلزمني الإنفاق على زوجتي وهي في بيت أبيها؟ 

الإجابة:

 أولاً: الأصل أن نفقة الزوجة واجبةٌ على زوجها لقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا ءَاتَاهُ} [سورة الطلاق الآية 7].

وقال تعالى: {وَالْوَالدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة الآية 233].

وقال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [سورة الطلاق الآية6].

فهذه الآيات واضحةُ الدلالة في وجوب النفقة للزوجة.

وقال الإمام البخاري في صحيحه: ”باب وجوب النفقة على الأهل والعيال”.قال الحافظ ابن حجر: "الظاهر أن المراد بالأهل في الترجمة الزوجة، وعطف العيال عليها من العام بعد الخاص…ثم ساق الإمام البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضلُ الصدقة ما ترك غنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن:أطعمني إلى من تدعني».

ونقل الحافظ ابن حجر عن المهلب قوله: "النفقة على الأهل واجبةٌ بالإجماع، وإنما سمَّاها الشارع صدقةً خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر، فعرَّفهم أنها لهم صدقة، حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم ترغيباً لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع" (فتح الباري 11/425).

وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الله في النساء، فإنهن عوانٌ عندكم، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» (رواه مسلم).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال صلى الله عليه وسلم:خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (رواه البخاري ومسلم).

قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "نفقةُ الزوجة واجبةٌ بالكتاب والسنة والإجماع" ثم ذكر النصوص الموجبة للنفقة من الكتاب والسنة ثم قال: "وفيه دلالةٌ على وجوب النفقة لها على زوجها، وأن ذلك مقدرٌ بكفايتها، وأن نفقة ولده عليه دونها مقدرٌ بكفايتهم، وأن ذلك بالمعروف، وأن لها أن تأخذ ذلك بنفسها من غير علمه إذا لم يعطها إياه. وأما الإجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن، إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن ذكره ابن المنذر وغيره وفيه ضرب من العبرة، وهو أن المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من التصرف والاكتساب فلا بد من أن ينفق عليها" (المغني8/195).

 

ثانياً: تجبُ النفقةُ للزوجة بعد الزفاف وليس بمجرد العقد على الراجح من أقوال أهل العلم، فلا نفقةَ للزوجة المعقود عليها ما دامت في بيت أبيها، ولم تزف إلى زوجها، وهذا قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، ويعبر الفقهاء عن ذلك بالتمكين التام أو الاحتباس،

قال الحطاب المالكي: "قال في كتاب النكاح الثاني من المدونة:ولا يلزم من لم يدخل نفقةٌ حتى يُبتغى ذلك منه، ويُدعى للبناء، فحينئذ تلزمه النفقة والصداق انتهى. قال أبو الحسن الصغير:قوله: ”يُبتغى منه”أي يُدعى إلى البناء، وظاهره أن النفقة لا تلزم حتى يُدعى إليها…وفي الرسالة: ولا نفقةَ للزوجة حتى يدخل بها أو يُدعى إلى الدخول وهي ممن يوطأ مثلها. وقال ابن الحاجب: تجب بالدخول أو بأن يُبتغى منه الدخول" (مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 5/542).

وقال الشيخ زكريا الأنصاري الشافعي: "لا تجب النفقةُ بالعقد بل بالتمكين" (أسنى المطالب شرح روض الطالب 3/432).

وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "وجملة الأمر أن المرأة إذا سلَّمت نفسها إلى الزوج، على الوجه الواجب عليها،ف لها عليه جميع حاجتها; من مأكول، ومشروب، وملبوس، ومسكن" (المغني 9/231).

وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي أيضاً: "باب الحال التي تجب فيها النفقة على الزوج… وجملة ذلك أن المرأة تستحق النفقة على زوجها بشرطين: أحدهما: أن تكون كبيرةً يمكن وطؤها، فإن كانت صغيرةً لا تحتمل الوطء، فلا نفقة لها وبهذا قال الحسن وبكر بن عبد الله المزني والنخعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وهو المنصوص عن الشافعي… الشرط الثاني: أن تبذل التمكين التام من نفسها لزوجها، فأما إن منعت نفسها أو منعها أولياؤها أو تساكتا بعد العقد فلم تبذل ولم يطلب، فلا نفقة لها، وإن أقاما زمناً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة ودخلت عليه بعد سنتين ولم ينفق إلا بعد دخوله، ولم يلتزم نفقتها لما مضى، ولأن النفقة تجب في مقابلة التمكين المستحق بعقد النكاح، فإذا وجد استحقت وإذا فقد لم تستحق شيئاً" (المغني9/282).

وقال الحجاوي الحنبلي: "ومن تسلَّم زوجته، أو بذلت نفسها، ومثلها يوطأ، وجبت نفقتها" (زاد المستقنع 1/96).

ثالثاً: أخذ قانون الأحوال الشخصية المعمول به في الضفة الغربية بقول الحنفية الذين يرون أن نفقة الزوجة تجب بمجرد العقد والاحتباس لحق الزوج، ولو لم تنتقل إلى بيت الزوجية، قال ابن عابدين: "النفقة جزاء الاحتباس" (رد المحتار3/159). 

ورد في المادة 67 ما يلي: "تجب النفقة للزوجة على الزوج بمجرد إبرام عقد الزواج، حتى ولو كانت موسرةً أو مختلفةً معه في الدين أو كانت مقيمةً في بيت أهلها، إلا إذا طالبها الزوج بالانتقال وامتنعت بغير حقٍ شرعي، ولها حق الامتناع عند عدم دفع الزوج مهرها المعجل أو عدم تهيئة مسكن شرعي لها".

وما جرى عليه العرف في بلادنا على خلاف ما أخذ به قانون الأحوال الشخصية، فإن عادة الناس في بلادنا أن الزوج لا ينفق على زوجته غير المدخول بها حتى تنتقل إلى بيت الزوجية، والناس في بلادنا يستقبحون أن تطلب الزوجة غير المدخول بها أو وليُها نفقةً من الزوج قبل الزفاف. وهذا العرف عرفٌ صحيحٌ معتبرٌ لا يعارض الشرع، ومن أوسع مجالات اتباع العرف ما يتعلق بالأسرة مثل عشرة النساء والنفقة عليهن، والعرف الصحيح الذي لا يصادم النصوص الشرعية معتبرٌ عند أهل العلم.

قال الإمام القرافي: "وأما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها" (شرح تنقيح الفصول ص488).

وقال ابن عابدين: "والعرف في الشرع له اعتبار *** لذا عليه الحكم قد يدار"

رسالة ” نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف ” ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين2/112.

وقد قامت الأدلة الكثيرة على اعتبار العرف ووضع الفقهاء القواعد الفقهية في ذلك كما في قولهم:

العادة محكمة، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، واستعمال الناس حجةٌ يجب العمل بها، وغير ذلك.

وقال الدكتور الخياط: "وسلطان العرف العملي كبيرٌ في أحكام الأفعال المعتادة والمعاملات المختلفة المتعلقة بحقوق الناس أو أحوالهم الشخصية أو القضاء أو الشهادات والعقوبات وغيرها، ويُعمل بالعرف ما لم يصادم نصاً شرعياً من القرآن أو السنة واضح الدلالة قطعياً أو نصاً تشريعياً كالقياس، ويعتبر ما ثبت بالعرف حينئذ ثابتاً بالنص، اتباعاً للـقاعدة الـشرعية: ”الـثابت بالعرف كالثابت بالنص” أو “الـثابت بالـعرف ثابتٌ بدليل شرعي”" (نظرية العرف ص48).

وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي أن العرف معتبرٌ بشروطٍ معينةٍ، فقد جاء في قرار المجمع ما يلي:

أولاً: يُراد بالعرف ما اعتاده الناس وساروا عليه من قولٍ أو فعلٍ أو تركٍ، وقد يكون معتبراً شرعاً أو غير معتبر.

ثانياً: العرف، إن كان خاصاً، فهو معتبرٌ عند أهله، وإن كان عاماً، فهو معتبر في حق الجميع.

ثالثاً:العرف المعتبر شرعاً هو ما استجمع الشروط الآتية:

أن لا يخالف الشريعة، فإن خالف العرفُ نصاً شرعياً أو قاعدةً من قواعد الشريعة، فإنه عرفٌ فاسد.

أن يكون العرف مطَّرداً (مستمراً) أو غالباً.

أن يكون العرف قائماً عند إنشاء التصرف.

أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه، فإن صرحا بخلافه فلا يعتد به.

 

رابعاً:

ليس للفقيه – مفتياً كان أو قاضياً – الجمود على المنقول في كتب الفقهاء من غير مراعاة تبدل الأعراف"

(مجلة مجمع الفقه الإسلامي، عدد 5، جزء 4، ص2921).

 

وخلاصة الأمر أن الأصل أن نفقة الزوجة واجبةٌ على زوجها بنصوص الكتاب والسنة وبالإجماع.

وأن النفقة للزوجة تجبُ بعد الزفاف وليس بمجرد العقد على الراجح من أقوال أهل العلم، فلا نفقةَ للزوجة المعقود عليها ما دامت في بيت أبيها، ولم تزف إلى زوجها، وهذا قول جمهور الفقهاء.

وأن قانون الأحوال الشخصية المعمول به في الضفة الغربية قد أخذ بقول الحنفية الذين يرون أن نفقة الزوجة تجب بمجرد العقد والاحتباس لحق الزوج، ولو لم تنتقل إلى بيت الزوجية. 

وأن ما جرى عليه العرف في بلادنا على خلاف ما أخذ به قانون الأحوال الشخصية، فإن عادة الناس في بلادنا أن الزوج لا ينفق على زوجته غير المدخول بها حتى تنتقل إلى بيت الزوجية، والناس في بلادنا يستقبحون أن تطلب الزوجة غير المدخول بها أو وليُها نفقةً من الزوج قبل الزفاف.

وهذا العرف عرفٌ صحيحٌ معتبرٌ لا يعارض الشرع، ومن المعلوم أن أوسع مجالات اتباع العرف ما يتعلق بالأسرة مثل عشرة النساء والنفقة عليهن، والعرف الصحيح الذي لا يصادم النصوص الشرعية معتبرٌ عند أهل العلم.

وأنه لا نفقة للزوجة المعقود عليها وغير المدخول بها ما دامت في بيت وليها ولا تجب لها النفقه إلا بعد الزفاف إلى زوجها.

والله الهادي إلى سواء السبيل. 

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.