من أصرَّ على ترك الصلاة بالكلية لا يتصور أن يجتمع بقلبه إيمانٌ لا يتقاضاه فعْل طاعة ولا ترْك معصية

منذ 2015-09-11
السؤال:

السَّلام عليْكم ورحْمة الله وبركاته،

تزوَّجنا مدَّة 30 سنة، وكنَّا لا نصلي نحن الاثنين، ولكن قَدر الله وما شاء فعل، لقدْ منَّ عليَّ اللهُ بالحِجاب ثُمَّ النِّقاب بإذنه، ودعائي دائمًا: يا ربي لا إلهَ إلاَّ أنت، وأنا على عهدك ووعدِك ما استعطت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء لك بنِعْمَتك عليَّ، أبوء لك بذنبي فاغفِر لي فإنَّه لا يغفِر الذنوب إلا أنت، والتزمْتُ بكلّ ما أمره الله ممَّا سمِعْته من الشيوخ والكتُب والإسناد الصَّحيح.

ادعُ لي فضيلةَ الشَّيخ أن أكون ممَّن يرْحمهم الله يومَ العرْض عليْه، وأسكنَك الله فسيحَ جنَّاته وكلَّ مَن آمَن به وبِكُتبِه التي أنزل ورسُله الذين أرسل.

إني حائِرة ماذا أفعل مع زوْجي الذي لا يصلّي هذه المدَّة الطَّويلة؟ وكلّ مرَّة أذكِّرُه بما أعدَّه الله لأصْحاب الجنَّة، ومرَّة أذكِّرُه بما أعدَّه لأصْحاب النَّار، ولكن دون جدْوى؛ فهو لا ينكر أنَّ الصَّلاة فرض على كلّ مسلِم، ويعلِّمُني كثيرًا من الأمور الدِّينيَّة وجدتُها صحيحة، وقلبُه سليم؛ ولكن ينقصُه عماد الدّين، وأوَّل ما نُسأل عنه يوم القيامة.

ماذا أفعل وأولادي كبروا، وهم خمسة، أكبر واحد عنده 22 سنة، وأصغرُهم 13 سنة، الكلّ - والحمْد لله - يصلِّى ما عدا واحدة تقولُ: لماذا أبي لا يصلي؟

لا أشارِكُه الفِراش، ولمَّا يُريد الجِماع أفعل وأنا كارهة، ماذا تنصحونني؟

ولا تبخلوا عليَّ بدعائكم، جزاكم الله كلَّ خير.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فقد بيَّنَّا حُكْم تارك الصَّلاة في فتوى: "ما حكم تارك الصلاة؟"

والَّذي ننصح به السَّائلة الكريمة: أن تبذُل النَّصيحة لِهذا الزَّوج، وتستخدِم معه كلَّ الطُّرق المتاحة، ولتستعِن بكلّ مَن ترجو الخير عنده من أهل الخير والصِّدق لنصْحِه وإرْشاده؛ رجاءَ صلاحه ونجاته في الدُّنيا والآخرة، وتبيِّن له أنه لا يجوز لها البقاء معه وهو تارك للصلاة، وأن هذا سيؤدي إلى هدم كيان الأسرة وتشتيت شملها، فإنِ استجاب، فبها ونعمتْ، وإن أبى، فمعلوم أنَّ الحياة مع زوجٍ كهذا تؤثِّر سلبًا على الزوجة والأبناء، فلا يُؤمَن على المرأة - وهي تميل إلى العاطفة أكثر من الرجل - أن تتأثر بزوجها، كما يقال: "المرأة على دين زوجها"، وإيثار الدنيا على الآخرة، عاقبته وخيمة، ولا يؤمن على الأولاد أن يتابعوا أباهم.

وننبِّه الأخت الكريمة إلى أنَّ قولها: "وقلبه سليم ولكن ينقصه عماد الدّين"، لا يصدِّقه واقع الرَّجل؛ فإنَّ القلب السَّليم المقرُّ في الباطن بأرْكان الإيمان، التي من أعظمِها الصَّلاة، وهو معتقد لوجوبِها - يَمتنع أن يصرَّ على ترْك الصَّلاة كلَّ هذه المدَّة، فهذا شيءٌ لَم يُعْرَف من بني آدَم وعادتهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية "
مجموع الفتاوى": "والدَّاعي مع القُدْرة يوجب وجود المقْدور، فإذا كان قادرًا ولم يفعلْ قطّ، عُلم أنَّ الدَّاعي في حقِّه لم يُوجد، والاعتِقاد التَّامّ لعِقاب التَّارك باعثٌ على الفِعْل، لكن هذا قد يعارضه أحيانًا أمورٌ تُوجب تأخيرها وترك بعض واجباتها، وتفْويتها أحيانًا، فأمَّا مَن كان مصرًّا على ترْكِها لا يصلي قطّ، ويَموت على هذا الإصْرار والتَّرك، فهذا لا يكونُ مُسلمًا.

لكنَّ أكثر النَّاس يصلُّون تارة ويتركونَها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤُلاء تحت الوعيد، وهم الَّذين جاء فيهم الحديث الَّذي في السنن، حديث عبادة عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال:
«خمس صلوات كتبهنَّ الله على العباد في اليوم واللَّيلة، مَن حافظَ عليهِنَّ، كان له عهدٌ عند الله أن يُدْخِله الجنَّة، ومَن لم يحافظ عليهنَّ، لم يكن له عهْد عند الله، إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.

فالمحافظ عليها، الذي يصلِّيها في مواقيتها كما أمر الله تعالى، والذي يؤخِّرها أحيانًا عن وقتِها، أو يترك واجباتِها، فهذا تحت مشيئة الله تعالى، وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضَه؛ كما جاء في الحديث".

وقال ابن القيم في كتاب
"الصلاة وحكم تاركها": "على أنَّا نقول: لا يُصرُّ على ترْك الصَّلاة إصرارًا مستمرًّا مَن يصدِّق بأنَّ الله أمر بها أصلاً؛ فإنَّه يستحيل في العادة والطَّبيعة أن يكون الرَّجُل مصدِّقًا تصديقًا جازمًا: أنَّ الله فرض عليه كلَّ يومٍ وليلةٍ خمسَ صلوات، وأنَّه يعاقبه على ترْكِها أشدَّ العقاب، وهو مع ذلك مصرٌّ على ترْكِها، هذا من المستحيل قطعًا، فلا يحافظ على ترْكِها مصدِّق بفرضِها أبدًا، فإن الإيمان يأمُر صاحبَه بها، فحيث لم يكُنْ في قلبِه ما يأمر بها، فليس في قلبه شيءٌ من الإيمان.

ولا تصْغِ إلى كلامِ مَن ليس له خبرةٌ ولا علم بأحْكام القلوب وأعمالها، وتأمَّل في الطَّبيعة بأن يقوم بقلْب العبد إيمانٌ بالوعد والوعيد والجنَّة والنَّار، وأنَّ الله فرض عليه الصَّلاة، وأنَّ الله يعاقبه معاقبةً على ترْكِها، وهو محافظٌ على التَّرك في صحَّته وعافيته، وعدم الموانع المانعة له من الفِعْل، وهذا القدر هو الَّذي خفي على مَن جعل الإيمان مجرَّد التَّصديق، وإن لم يقارِنْه فعْلُ واجب، ولا ترْكُ محرَّم، وهذا من أمْحل المحال: أن يقوم بقلب العبد إيمانٌ جازم لا يتقاضاه فعْل طاعة ولا ترْك معصية.

ونحن نقول: الإيمان هو التَّصديق، ولكن ليس التَّصديق مجرَّد اعتقاد صدق المخبِر دون الانقياد له، ولو كان مجرَّد اعتقاد التَّصديق إيمانًا، لكان إبليس وفرْعون وقومه، وقوم صالِح واليهود الذين عرفوا أنَّ محمَّدًا رسول الله كما يعرِفون أبناءهم - مؤمنين مصدِّقين؛ وقد قال تعالى: {
فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33]؛ أي: يعتقدون أنك صادق، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، والجُحود لا يكون إلاَّ بعد معرفة الحقّ؛ قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواًّ} [النمل: 14]، وقال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، وقال تعالى عن اليهود: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].

وأبلغ من هذا: قول النَّفريْن اليهوديَّين لمَّا جاءا إلى النَّبيِّ، وسألاه عمَّا دلَّهما على نبوَّته، فقالا: نشهَد أنَّك نبيّ، فقال:
«ما يَمنعُكما من اتِّباعي؟» قالا: إنَّ داود دعا أن لا يزال في ذريَّته نبي، وإنَّا نخاف إنِ اتَّبعْناك أن تقتُلَنا اليهود؛ النسائي، والترمذي.

فهؤلاء قد أقرُّوا بألسنَتِهم إقرارًا مطابقًا لمعتقدِهم أنَّه نبيّ، ولم يدخُلوا بهذا التصديق والإقرار في الإيمان؛ لأنَّهم لم يلتزموا طاعتَه والانقياد لأمره، ومن هذا كُفْر أبي طالب؛ فإنَّه عرف حقيقة المعرفة أنَّه صادق، وأقرَّ بذلك بلسانه، وصرَّح به في شِعْره، ولم يدخل بذلك في الإسلام.

فالتصديق إنما يتمّ بأمرين، أحدهما: اعتقاد الصِّدْق، والثاني: محبَّة القلْب وانقِياده.

ولهذا قال - تعالى - لإبراهيم: {
يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104، 105]، وإبراهيم كان معتقِدًا لصدْق رؤْياه من حين رآها؛ فإنَّ رؤيا الأنبياء وحْي، وإنَّما جعله مصدِّقًا لها بعد أن فعل ما أُمر به.

وكذلك قوله:
«والفرْج يصدِّق ذلك كلَّه أو يكذِّبه»؛ البخاري، ومسلم، فجعل التَّصديق عمل الفرْج، لا ما يتمنَّى القلْب، والتَّكذيب ترْكه لذلك، وهذا صريح في أنَّ التَّصديق لا يصحّ إلاَّ بالعمل.

وقال الحسن: ليس الإيمان بالتمنّي ولا بالتحلِّي، ولكن ما وقر في القلْب وصدَّقه العمل، وقد رُوِي هذا مرفوعًا.

والمقْصود أنَّه يَمتنع مع التَّصديق الجازم بوجوب الصَّلاة، والوعْد على فعلِها، والوعيد على تركها، وبالله التوفيق". اهـ،،

والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام