اشتراط أخذ قرض للحصول على المنحة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أما بعدُ:
فنحن طلبةٌ مسلمون تحصَّلنا إثر تفوُّقنا في امتحان الثانوية العامة قبل سنوات على منْحة دراسيَّة مِن بلدنا العربي لِمُزاولة تعليمنا العالي في بلدٍ أُوروبي في اختصاصات هندسية.
هذه المنحة تُقَدَّر بـ٥٢٥ يورو شهريًّا إلى حين التحصُّل على الشهادة الجامعية، وبعد تمتُّعنا بهذه المنْحة لسنوات، تَمَّ في بداية هذا العام وبشكْلٍ مفاجئ رفْعُ قِيمة المنْحة الشَّهْريَّة إلى ٨٠٠ يورو، وهي ليستْ منْحة محْضَة، بل تتكوَّن مِن قسمَيْن:
- عنصر في شَكْل منْحة بقيمة ٦٠٠ يورو في الشهر، وعنصر تكميلي يسند في شَكْل قرْض جامعي مقداره ٢٠٠ يورو في الشهر، ويجب على كل مَن يرغب في مُواصَلة التمتُّع بالمنحة الالتزام والإمضاء على الآتي:
- ألتزم بتسْديد كامل المبالغ المقترَضة (مع إضافة نسبة 2.5 % سنويًّا طيلة مدة التسديد، بعنوان: تغطية مصاريف الإدارة والتصرُّف)، وذلك في أجَل لا يتجاوز 10 سنوات من تاريخ تخرُّجي أو انقطاعي نهائيًّا عن الدِّراسة.
مع العلْم أنَّني اتَّصلْتُ بالمكلَّفين بهذا الأمر، فأَكَّدُوا لي أن رفْضَ العنصر التكميلي - أي: القرض الجامعي - يؤَدِّي إلى إلغاء كامل المنْحة التي تبعث إلينا، هذه المنحة التي تُمَثِّل حاليًّا مصْدر رزقنا الوحيد لتغْطية مصاريف العيش والدراسة.
وعلى هذا الأساس نسأل فضيلتكم:
1 - أن تُبَيِّن لنا حُكْم الله في هذا القرْض؟
2 - وهل هو منَ الربا المحرَّم تحت العنوان المذكور أعلاه؟
3 - وماذا نفعل إذا كان منَ الربا؟
4 - وهل يجوز لنا قَبُول ذلك الالتزام بنيَّة الحُصُول على حقِّنا الذي وُعِدْنا به في أول الأمر (منحة ٥٢٥ يورو شهريًّا)، والذي سنُحرم منه إذا رفضنا الالتزام؟
5 - بالنِّسبة للمتفوقين من الملتزمين في امتحان الثانوية العامة خلال السنوات القادمة، هل يجوز لهم قَبُول المنحة بالشروط الجديدة لمزاولة تعليمهم العالي في الخارج؟
نطلب من فضيلتكم أن ترشدنا في أسرع وقتٍ ممكن؛ لأنَّنا مُطالَبون ببعث الالتزامات سريعًا.
وجزاكم الله خيرًا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومن والاه، أما بعدُ:
فالقرضُ المذْكُور يدْخُل في ربا الديون المجمَع على تحريمه، وقد اتَّفَقَ المُسلمون على أن كلَّ قرْض جرَّ نفعًا فهو ربًا، ومِن المقرر عند أهل العلم أنَّ ربا الجاهلية الذي كانت العرب تتعامَل به قبل الإسلام، وهدمه الإسلام، إنما كان قرضًا مؤجَّلاً بزيادة مشروطة، فكانتِ الزيادةُ بدلاً من الأجل فأبطله الله، كما قالَهُ الإمام الجصَّاص في "أحكام القرآن"، وهو عيْن ربا النَّسيئة، الذي حرَّمه الله، وحرَّمه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأجْمَع أهلُ العلم على تحريمه، وقد سبق أن أصدرنا فتاوى في ذلك فراجعها على موقعنا: "هل القرض يعتبر ربًا أم لا؟"، و"قرض ربوي"، و"الاقتراض من البنك بسعر تفضيلي"، و"هل القروض الربوية حلال في هذه الظروف؟".
وعليه؛ فما دام الحال كما ذكرتَ: أن منحة ٦٠٠ يورو مشروطة بأخْذ قرض بقيمة ٢٠٠ يورو يُسَدَّد بفائدة 2.5 % سنويًّا طيلة مدَّة التَّسْديد، وأنه يجب على الطالب الراغب أخْذ المنحة الالتزام بذلك القرض الربوي - فلا يَجُوز مواصلة الدراسة مع ذلك الشرط، ولا يجوز أخذ هذه المنحة إذا كنت لا تتحصل عليها إلا بأخذ قرض؛ لأن الربا من أكبر الذنوب وأقبحها وأخطرها أثرًا على الفرد والمجتمع، وهل يظن مسلم صحيح الإيمان أن الله يُبارك في علْم أخَذ في سبيل تحصيله قرضًا ربويًّا؟!
فعليك ببذل ما في وسعك في إقناع المسؤولين أنك لا ترغب في أخْذ ذلك القرْض، وأنه يمكنك تدبير أمورك بالمنحة فقط، فإن أصرُّوا على موقفهم، فلا يجوز لك القَبول؛ لأنه لا يجوز التعامُل بالرِّبا إلا عند الضرورة المُلجئة؛ لأن الله لم يتوعَّد بالعقاب على ذنبٍ مثلما توَعَّد على الرِّبا؛ قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279].
قال الإمام الشَّوْكاني في "فيض القدير": "قد دلَّتْ هذه على أنَّ أكْل الربا والعمل به منَ الكبائر، ولا خلاف في ذلك، وتنكير الحرب للتعظيم، وزادها تعظيمًا نسبتها إلى اسم الله الأعظم، وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته".
وقال الشيخ السعدي: وأما مَن لَم ينْزجر بموعظة الله، ولم يقبلْ نصيحته، فإنه مُشاقّ لربِّه، محارب له، وهو عاجز ضعيف، ليس له يدان في محارَبة العزيز الحكيم الذي يمهل للظالم ولا يهمله، حتى إذا أخذه، أخذه أخْذ عزيزٍ مقتدر؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]، وهذه الآية مِن آخر ما نزل من القرآن، وجعلتْ خاتمة لهذه الأحكام والأوامر والنواهي؛ لأنَّ فيها الوعد على الخير، والوعيد على فعل الشَّرِّ، وأنَّ من علم أنه راجع إلى الله فمجازيه على الصغير والكبير، والجلي والخفي، وأن الله لا يظلمه مثقال ذرة - أوجب له الرغبة والرهبة، وبدون حلول العلم في ذلك في القلب لا سبيل إلى ذلك".
فإن استطعت أن تنفق على نفسك حتى تكمل دراستك، أو تعمل هناك وتدرس في نفس الوقت، أو تلجأ لبعض المراكز الإسلامية؛ ليعينوك على إتمام دراستك - فلا بأس بذلك، وإن لم تتمكن من شيء من هذا، فارجع إلى بلدك وأكمل بها دراستك.
أما الطلبة المتفوقون في اختبارات الثانوية العامة في الأعوام القادمة، فلا يجوز لهم قَبول تلك المنحة إن كانت مشروطةً بنفس القرْض الربوي.
وكذلك لا يجوز الاستمرارُ بنيَّة الحُصُول على المنْحة التي وعدتم بها في أول الأمر؛ لأنَّ المانحين قد وَضَعوا الشرط الربوي المذكور، ولا أعلم دليلاً من الشرع يُجيز الوُقُوع في الربا من أجل تحصيل وعْدٍ بهبة.
ولتعلم - أيها الأخ الكريم - أنَّ مَن ترَك شيئًا لله عوَّضَه الله خيرًا منه؛ كما صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الحياة الدُّنيا دار ابتلاء وامتحان، وأن تلك هي الغاية الكبرى من الخلق، فترْك المنحة الدراسية في البلد المذكور أمرٌ صعب بلا شك، ولكن مَن يصبر يعوِّضه الله خيرًا؛ قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7]، وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1، 2]، فحيث يبتلي الله عباده؛ ليعلم المجاهدين منهم والصابرين؛ كما قال سبحانه في الآية الأخرى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، وأعظم الجهاد جهاد النفس، وأعظم الصبر الصبر عن الشهوات وعما حرَّم الله.
والله نسأل أن يعجل لكم الفرج، وأن يهدي أُلئك المسؤولين إلى الصواب،،
والله أعلم.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- التصنيف:
- المصدر: