هل يجوز اتباع من يبيح الموسيقى؟
قد سالت دار الإفتاء المصرية عن حكم الموسيقي فلم يحرموها تحريم مطلق بل حللوها ان لم تكن محركة للغرائز او تدعو الي محرم و لكني اسمع الكثير من الاقاويل انها محرمة تحريم مطلق فهل علي من اثم ان اتبعت قول دار الإفتاء المصرية بحيث انها الجهة العليا في تحرير و اصدار الفتاوي؟
قد سالت دار الإفتاء المصرية عن حكم الموسيقي فلم يحرموها تحريم مطلق بل حللوها ان لم تكن محركة للغرائز او تدعو الي محرم و لكني اسمع الكثير من الاقاويل انها محرمة تحريم مطلق فهل علي من اثم ان اتبعت قول دار الإفتاء المصرية بحيث انها الجهة العليا في تحرير و اصدار الفتاوي؟ و شكرا
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فإن الواجب على جميع المسلمين إتباع الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة؛ ولا يأخذ من أقوال أهل العلم إلا ما وافق الدليل؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، وقال تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف:3]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ»؛ رواه أحمد والترمذي عن العرباض بن سارية، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
فلا عذر لأحد عند الله في إتباع قول يعلم بوجود الدليل على خلافه.
قال الإمام الشافعي: "واتفقوا أنه لا يحل لأحد قد استبانت له سنة من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتركها لقول أحد كائناً من كان".
أما العامي فمذهبه مذهب من يفتيه، فإذا أشكل عليه أمر من أمور دينه، سأل من يثق بعلمه، وعليه أن يختار الأعلم والأتقى والأورع من أهل العلم، حسب وسعه؛ فلا يجب عليه تقليد أحد بعينه؛ قال أبو عمر بن عبد البر: لم يبلغنا عن أحد من الأئمة أنه أمر أصحابه بالتزام مذهب معين لا يرى صحة خلافه، بل المنقول عنهم تقريرهم الناس على العمل بفتوى بعضهم بعضاً، لأنهم كانوا على هدى من ربهم، ولم يبلغنا في حديث صحيح ولا ضعيف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أمر أحداً من الأمة بالتزام مذهب معين لا يرى خلافه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: "ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يوجبه ويخبر به، بل واتباع الشخص لمذهب شخص بعينه لعجزه".
إذا تقرر هذا؛ فحكم الإسلام في الموسيقا كغيره من بقية مسائل الشرع يجب عليك أن تتبع فيها ما صح من الأدلة.
والذي يظهر أن ما نقلته عن حكم الموسيقا هو خطأ محض، ومخالف لما صح من الأدلة، ولكلام الأئمة المتبعين كالأربعة وغيرهم، فالقولُ بإباحتها قولٌ ضعيفٌ جدًّا، أو شاذٌّ لا يُلتفت إليه، وقد نقل الإجماع على تحريم سَماع المعازف القرطبي، وابن الصلاح، وأبو الطيب الطبري، وابن القيم، وابن رجبٍ الحنبلي، وابن حجر الهيتمي،
وغيرهم.
وقد ثبت تحريم آلات المعازِف بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6]؛ روى شيخُ المفسِّرين الإمام الطبري عن عبدالله بن مسعود وهو يُسأل عن هذه الآية، فقال: "الغناء، والذي لا إله إلا هو"، يُردِّدها ثلاث مرات، وروي عن ابن عباس: "الغناء وأشباهه"، وعن جابر بن عبد الله قال: "هو الغناءُ والاستماع له"، ورُوِيَ عن مجاهدٍ قال: "هو الغناء أو الغناء منه، أو الاستماع له"، وعن عكرمة قال: " {لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]: الغناء".
أما السنة: فمنها ما رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزْم، عن أبي مالكٍ الأشعري رضي الله عنه قال - صلى الله عليه وسلم -: «ليكونن مِن أمتي أقوامٌ، يستحلون الحِر، والحرير، والخمر، والمعازف»، وقوله يستحلون، ظاهر الدلالة في أنها حرامٌ، وسيأتي أناسٌ يصيرونها حلالًا، وهم بذلك آثمون مُعتدون.
وهذا الحديثُ مِن أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - حيث تضمن الإخبار عن غيبٍ قد وقع، وتضمن أيضًا أن المعازف حرامٌ؛ لدلالة كلمة يَسْتَحِلُّون، وهي لا تكون إلا للمُحَرَّم.
ومنها: ما رواه ابن ماجه وابن حبان عن أبي مالكٍ الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيشربن ناسٌ من أمتي الخمر، يُسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير»؛ والحديث صححه الألباني في "غاية المرام" وغيره.
ومنها ما رواه البَزَّار في مسنده، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة، عن أنس بن مالكٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صوتان مَلْعونان في الدنيا والآخرة: مزمارٌ عند نعمةٍ، ورنةٌ عند مصيبةٍ»؛ قال المنذري في الترغيب والترهيب: رواته ثقات، وصححه الألباني.
ومنها ما رواه الحاكم والبيهقي والترمذي مختصرًا، وحسَّنه، عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني لم أنه عن البكاء، ولكني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين؛ صوتٍ عند نغمة لهوٍ ولعبٍ، ومزامير الشيطان، وصوتٍ عند مصيبةٍ؛ لطْم وُجوهٍ، وشق جيوبٍ، ورنة شيطان»؛ والحديث حسنه الألباني رحمه الله.
ومنها ما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله حرَّم عليَّ - أو حرَّم - الخمر، والميسر، والكُوبة»، قال: «وكل مسكرٍ حرامٌ»، قال سفيان: فسألت علي بن بذيمة عن الكوبة؟ قال: "الطبل"؛ والحديث صححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند، والألباني في السلسلة الصحيحة، وشعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند.
أما الإجماع: فقد انعقد إجماع العلماء قديمًا على تحريم استعمال آلات اللهو والمعازف إلا الدُّف، وممن حكى الإجماع الإمام القرطبي، وأبو الطيب الطبري، وابن الصلاح، وابن القيم، وابن رجبٍ الحنبلي، وابن حجرٍ الهيتمي.
قال القرطبي رحمه الله: "أما المزامير والأوتار والكوبة، فلا يختلف في تحريم استماعها، ولم أسمع عن أحدٍ ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك، وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والفسوق، ومهيّج الشهوات، والفساد، والمجون؟ وما كان كذلك لم يشك في تحريمه، ولا تفسيق فاعله، وتأثيمه"؛ انتهى نقلًا عن (الزواجر عن اقتراف الكبائر) لابن حجر الهيتمي، وقال: "الكبيرة السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والأربعون والخمسون والحادية والخمسون بعد الأربعمائة ضرب وترٍ واستماعه، وزمرٌ بمزمارٍ واستماعه، وضربٌ بكوبةٍ واستماعه".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة" - ردًّا على ابن مطهر الرافضي في نسبته إلى أهل السنة إباحة الملاهي-: "هذا من الكذب على الأئمة الأربعة، فإنهم متَّفقون على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو كالعُود ونحوه، ولو أتلفها متلفٌ عندهم لم يضمن صورة التالف، بل يحرم عندهم اتخاذها". اهـ.
وقال ابن الصلاح في الفتاوى: "وأما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعتْ، فاستماع ذلك حرامٌ عند أئمة المذاهب، وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبتْ عن أحدٍ ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع...، إلى أن قال: فإذًا هذا السماع غير مباحٍ بإجماع أهل الحل والعقد من المسلمين". اهـ.
وللعلماء في هذا المسألة مصنفاتٌ مشهورةٌ منها: "كف الرِّعاع عن مُحرمات اللهو والسماع" لابن حجرٍ الهيتمي، ومنها: "إغاثة اللهفان" لابن القيِّم، وله رسالةٌ مستقلةٌ في حكم الغناء، ولابن رجبٍ رسالةٌ في ذلك.
ومن أراد الوقوف على الأحاديث القاضية بتحريم المعازف وتخريجها، وتفصيل الكلام عليها، فلْينظر كتاب: "تحريم آلات الطرَب" للشيخ الألباني رحمه الله.
وعليه، فلا يجوز لك العمل بفتوى إباحة الموسيقا لمخالفتها للأدلة الصحيحة،، والله أعلم.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- التصنيف:
- المصدر: