العودة إلى الروح ... (مقدمة السلسلة)
فارق كبير جدا بين الحى والميت؛ الأول مفعم بالحركة والحيوية، تسري في بدنه حرارة الحياة، له تأثير فيما حوله و فيمن حوله، بينما الثاني جثمان يابس متحجر، تجمدت في أوصاله برودة الموت الساكنة التي تتلفع بالصمت والجمود.
"روح من الله، ونبراس حياة، بل طوق نجاة، فهل من لبيب يتلقاه؟!"
فارق كبير جدا بين الحى والميت؛
الأول مفعم بالحركة والحيوية، تسري في بدنه حرارة الحياة، له تأثير فيما حوله و فيمن حوله، بينما الثاني جثمان يابس متحجر، تجمدت في أوصاله برودة الموت الساكنة التي تتلفع بالصمت والجمود.
فارق كبير جدا يعرفه كل من تعامل مع الموت، و شهد منظر الجثة التي تقلب يمنة و يسرة فلا يتحرك فيها ساكن، وهي التي كانت منذ لحظات تملأ الدنيا صخبا ونشاطا!
هذه المقابلة بين الموت والحياة، طالما ضرب بها الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم الأمثال، نعم تكرر هذا المثال في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم؛ يقول الله تبارك وتعالى: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]، ويقول تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21]، ويقول رسوله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت»، (رواه البخارى).
هذه نماذج سريعة تبين تلك المقابلة بين حالة الحياة بحراكها وحرارتها، و بين حالة الموت بسكونها وبرودتها،
والمتأمل في تلك المقابلة، يعجب من هذا التضاد الرهيب والبون الشاسع بين الحي والميت، و كيف أن الحال يتبدل، وينقلب الوصف رأسا على عقب بالانتقال من الأول إلى الثاني؛ فيخبو بريق الحياة في عينيه حتى يختفي تماما، و تتيبس الأطراف، و تسري في البدن تلك البرودة الصامتة، و يتحول في لحظات إلى جثة هامدة..
كيف أنتقل من هذه الحالة إلى تلك؟!
بشيء واحد نزع منه فصار إلى ما صار إليه،
لقد نزع السر الذي جعله الله من أمره وفي علمه،
لقد نزعت الروح!
فلما نزعت حدث كل هذا الانقلاب في حال من نزعت منه.
الروح هي أصل وسر تلك الحياة التي تنبض في العروق، والبريق الذي يلتمع في العيون، والحركة التي يختلج بها القلب، والحرارة والحيوية التي تسري في جسد الحي، و متى ما نزعت خبا كل ذلك.
هل تتصور أن الله جل و علا، سمى الوحي المنزل بتلك الروح التى هى سر الحياة؟!
نعم الله جل وعلا ذكر أن الوحي المنزل هو روح من أمره،
ما أعظم الإسم، وما أعجب الوصف؟!
لهو في ظني، أعجب ما سمي به القرآن، وأخطر ما به وصف؛
قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّـهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّـهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورة: 52-53].
لقد وصف القرآن بأوصاف كثيرة وبليغة، فهو النور المبين، وهو البيان والتبيان، وهو الشفاء والرحمة للمؤمنين، وهو الهدي والفرقان بين الحق والباطل، وهو أحسن الحديث والموعظة والبلاغ، وغيرها من الأوصاف والمسميات التي وصف الله بها كتابه العزيز وسماه بها.
لكن تسميته بالروح، لها قيمة مختلفة،
لها دلالة تحتاج إلى وقفات،
وكأن القلوب من دون القرآن ميتة، والنفوس من دون القرآن يابسة متجمدة، والفكر من دون القرآن بارد ساكن.
باختصار، مؤمن من دون قرآن عبارة عن جسد خاوٍ من الروح.
هل نظرت من قبل للقرآن هذه النظرة؟
هل تفاعلت معه من هذا المنطلق؟؟
هل تعاملت مع كتاب الله على أنه روح تحتاج إلى أن تبث في قلبك، وتسمو بها نفسك، وتسري حيويتها في أوصالك، فتمشي بها بين الناس لتكون ممن قال الله فيهم: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122]. وليس كمن قال فيه: {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122].
هل فعلت؟
وهل أنت فاعل؟
نحتاج أيما حاجة، لأن ننظر إلى القرآن هذه النظرة، و أن نتعامل معه من منطلق مختلف عن منطلق كثير من الناس، الذين لا يتعاملون معه إلا كترانيم لا يفقهونها، أو كوسيلة لتحصيل الثواب هي مع حسن مقصدها تظل هدية، وكم من أناس شغلتهم الهدايا عن الوصايا، والفروع عن الأصول.
القرآن في الأصل كتاب تغييري، مفترض أن تنقلب حياة المرء رأسا على عقب -للأفضل طبعا- إذا سرى فيها، و تسربت إلى أركانها آياته، وتسربل بنورها واقعه.
كم من قلوب كانت متشحة بالسواد، ونفوس ميتة قد أحياها الله بهذا الكتاب؟
كم من بعيد عن الله، مسرف على نفسه، مرضيا لهواه، هداه الله بتلك الروح من أمره؟
أكرر..
إن هذا القرآن كتاب منهج وتغيير، فلا ينبغي أن يعامل على أنه فقط وسيلة لتحصيل ثواب التلاوة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ} [الرعد: 31] وتقدير الكلام في الآيات: لكان هذا القرآن.
تأمل هذه الأحداث الجسام التى تكاد تكون مستحيلة؛ من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى، هذا القرآن قدرته التغييرية كفيلة بإنفاذ تلك الأفعال الكونية الجسيمة، بل وما هو أعظم منها.
فهل تكون قلوبنا أقسى من جبال راسيات، التي لو أنزل عليها هذا القرآن لخشعت وتصدعت؟!
إن شاء الله لن تكون كذلك.
ينبغي علينا فقط أن نشعر بهذه الحاجة الملحة للعودة إلى القرآن،
بل إلى عودته إلى قلوبنا التي شارف بعضها على الوفاة الإيمانية!
ينبغي أن نتناول القرآن من منطلق العودة؛ عودة الروح إلينا،
بل وعودتنا إليها،
هذا ما نتناوله في هذا الكتاب وهذه السلسة،
نقف مع آية من آياته أو قصة من قصصه أو مثل من أمثاله الجامعة المانعة،
نستطرد حول المعاني، ونطوف في ظلال المشاعر، ونرفل في نعيم المبادىء التي تبث من خلال هذا القرآن العظيم.
هي محاولة لإحياء ما مات من تلك المعاني والمشاعر والمبادئ القرآنية في القلوب والعقول، من خلال إعادة بث الروح القرآنية إليها، وشهود تلك الآيات كأنها رأى عين.
نعيش مع أبطالها، نحزن لحزنهم، وتتهلل أساريرنا لفرحهم، ونواجه معهم الظالمين والطغاة، ونصدع معهم بكلمات الحق التى قذفوها فى صدر الباطل.
نبحر مع نوح، ونسمو مع إبراهيم، ونصبر مع أيوب، ونسبح مع داوود، ونصمد مع الغلام فى وجه صاحب الأخدود، ونتزلزل مع المؤمنين في مواجهة الأحزاب.
ننتقل من مشهد إلى آخر، وقصة إلى أخرى، وندور مع المعاني والأمثال حيث دارت، باذلين وسعنا للعودة
العودة إلى الروح.
فهل عسانا نعود إليها؟!!
وتعود إلينا؟؟
- التصنيف: