لبننة سوريا

منذ 2013-01-06

قَدَرُ سوريا -ولا رادَّ لقضاء الله وقدره- أن تكون ثورتها هي الحبة الأخيرة في عنقود ربيع الثورات العربية، تأتي بعد أن تمرست الأنظمة الاستبدادية في المنطقة على مواجهة ثورة الشباب والحراك الشعبي، واستفادت من تجارب البطش والقمع من الأنظمة السابقة بالمنطقة..


قَدَرُ سوريا -ولا رادَّ لقضاء الله وقدره- أن تكون ثورتها هي الحبة الأخيرة في عنقود ربيع الثورات العربية، تأتي بعد أن تمرست الأنظمة الاستبدادية في المنطقة على مواجهة ثورة الشباب والحراك الشعبي، واستفادت من تجارب البطش والقمع من الأنظمة السابقة في مصر وتونس وليبيا واليمن، فاستعدت لحرب طويلة، ورتبت أوراقها في الداخل والخارج، على سبل قمع هذه الانتفاضات الشعبية.

تأتي أيضًا بعد أن يكون العالم الخارجي وأمريكا و(إسرائيل) قد استشرف مآل هذه الثورات، وإلى ماذا انتهت؟
وبمن أتت بالحكم بعد سقوط عملائهم وأعوانهم من سدة الحكم في مصر وتونس وليبيا؟

تأتي أيضًا بعد أن عرفت القوى الدولية كيف ترتب أوراقها للحفاظ على أماكن النفوذ والسيطرة، وكيف تدير صراعاتها الجانبية؟ وكيف تتقسم دوائر النفوذ العالمية فيما بينها؟ لذلك كله كانت الثورة السورية هي الأروع والأعظم في سلسلة الثورات بالمنطقة، والأكثر وضوحًا في الاتجاه والأيدلوجية، حيث لا مكان فيها على الأرض وفي الميدان لغير الإسلاميين والمخلصين من أبناء سوريا، فالثورة الآن بطبعتها الحالية، إسلامية بامتياز، وهو ما جعل حجم الخسائر فيها هي الأكبر والأبشع.


إنجاح أية ثورة ضد الأنظمة الاستبدادية -وذلك على مر تاريخ الثورات الشعبية- اعتمد في الأساس على التناغم والتكامل والاتساق بين العمل السياسي والعمل العسكري أو الميداني، فلا المعارضة السياسية وحدها تكفي لحسم الصراع مع الأنظمة الاستبدادية، كما أن المعارضة العسكرية وحدها لا تحسم الصراع، فكلاهما لا يستغني عن بعضه البعض، ودون التناغم والتنسيق والاتفاق بين الذراع السياسية والذراع العسكرية للثورة، فالفشل هو النتيجة الحتمية.

التغيير الحادث في التركيبة البنيوية لمقاتلي الجيش الحر في الأونة الأخيرة، وتدفق مئات المجاهدين من مصر وليبيا وتونس واليمن، استتبعه تحولات كبيرة على الصعيد الميداني، وتقدم لافت للجيش الحر على عدة محاور، وتراجع واسع لشبيحة الأسد وجيشه النظامي في العديد من المناطق الحيوية في حمص وحلب والجولان، وريف دمشق ودرعا، وفي نفس الوقت فشلت مرتزقة (حزب الله) الشيعي في موازنة هذا التغير ومعادلة التفوق الحادث على الصعيد الميداني لصالح الثوار، ما حدا بالكيان الصهيوني الغاصب لأنْ يتدخل مباشرة ولأول مرة في القتال الفعلي ضد الثوار عندما قصف مواقع الجيش الحر في الجولان لرفع الحصار المفروض على جيش الأسد المحاصر هناك.


وفي نفس الوقت الذي تدخل فيه الصهاينة على خط النار، كانت الطائرات (الإسرائيلية) تحط في مطارات باريس ولندن ونيويورك، وعلى متنها أعتى الساسة الصهاينة من عينة تسيبني وباراك ونتنياهو وعاموس وغيرهم..؛ لحشد التأييد الأوروبي والأمريكي ضد الجيش الحر بطبعته الجديدة، والتحذير من مغبة سقوط الأسد، ومنع وصول الإسلاميين إلى الحكم في سوريا بعد رحيل الأسد، حتى لا يقع الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين بين فكي الإسلاميين في مصر وسوريا، خاصة والأمور تتطور بسرعة في الأردن والحراك الشعبي هناك أخذ في التصاعد، وهذا يعني سقوط حلفاء (إسرائيل) في دول الطوق جميعًا.

ومن هذا المنطلق كانت الضغوطات الأمريكية والأوروبية الأخيرة على المعارضة السياسية السورية، وتغيير الخطاب الأمريكي تحديدًا مع هذه المعارضة وطرح تساؤلات مريبة ومضحكة في نفس الوقت عن تشكيلة المعارضة، وهل هي فعلًا تمثل جميع أطياف الشعب السوري، وطبيعة الأيدلوجية التي يفكر بها قادة المعارضة، ووجود العديد من قيادات المعارضة خارج سوريا منذ سنوات طويلة؟ كأن أمريكا تجهل الإجابة عن تلك الأسئلة وفوجئت بها..!

وطبعًا بالعقل والشرع والتاريخ فلا أمريكا ولا أوروبا ولا غيرهما حريصة على مصلحة الإسلام والمسلمين والعالم الإسلامي، ومن ثم فأية قرارات تتخذها تدور بالأساس حول مصلحتها ومصلحة ربيبتها إسرائيل، فما الذي يهدفه الغرب وإسرائيل من هذه التحركات والضغوطات الكثيرة على المعارضة السياسية السورية؟


الإجابة تتلخص في كلمة واحدة: لبننة سوريا
فالضغوط التي مورست أخيرًا على المعارضة كانت تهدف لتدجينها، وإعادة صياغتها بصورة أكثر مواءمة مع التصور والطرح الغربي والإسرائيلي لسوريا الجديدة بعد رحيل الأسد، والتي تهدم معظم مؤسساتها وبنيتها التحتية بسبب القصف، حيث لا مكان لإسلاميين ذوي أشواك وأنياب، مع الحفاظ على الإسلاميين المعتدلين وفقًا للمنظور الغربي عن الاعتدال، لاحظ أن (أحمد معاذ الخطيب) الرئيس الجديد للائتلاف المعارضة هو الطبعة العربية من المفكر الغربي طارق رمضان، ولعل حديثه مع قناة الجزيرة منذ عدة أيام كشف عن جانب كبير من اعتداله.

فمشكلة المشاكل التي تعترض الثورة السورية من وجهة النظر الغربية والإسرائيلية: هو السيطرة الميدانية الكبيرة للجيش الحر الإسلامي، والشعبية الجارفة له بين صفوف الشعب الثوري، واتساع قاعدة هذه الشعبية يومًا بعد يوم، في حين تتآكل قاعدة المعارضة السياسية، بسبب علمانيتها الواضحة، وكثرة اختلافاتها، وأطماع العديد من رموزها في الوصول لكرسي الحكم مهما كان الثمن، لذلك فالغرب إزاء مشكلة حقيقية في سوريا، وهي كيفية التمكين للمعارضة السياسية المدجنة في الداخل السوري؟

والأكثر من ذلك كيفية ترويض هذه المعارضة التي رضخت للمطالب الأمريكية والأوروبية للذراع العسكرية، أو الجيش الحر بكل ما يملكه من نفوذ وشعبية داخلية؟ خاصة أن الجيش الحر الإسلامي يرفض هذا الائتلاف الجديد ويدرك الهدف من ورائه، فقد أعلنت مجموعة كتائب وألوية إسلامية في منطقة حلب بينها (جبهة النصرة ولواء التوحيد، كتائب أحرار الشام، أحرار سوريا، لواء حلب الشهباء الإسلامي، حركة الفجر الإسلامية، درع الأمة، لواء عندان، كتائب الإسلام، لواء جيش محمد، لواء النصر، كتيبة الباز، كتيبة السلطان محمد، لواء درع الإسلام) وهم أكبر المجموعات المقاتلة في شمال سوريا ضد جيش بشار وشبيحته، رفضها الائتلاف الوطني السوري المعارض مؤكدة توافقها على تأسيس دولة إسلامية.

لذلك فأمريكا وأوروبا ومن ورائهم إسرائيل يحشدون الدعم الدولي للاعتراف بهذا الائتلاف المدجن كممثل وحيد وشرعي للسوريين، في خطوة تهدف لنزع الشرعية عن المجاهدين داخل سوريا، ما ينذر بدخول المواجهات في سوريا إلى مرحلة جديدة، هي مرحلة الصدام بين الذراع السياسية والذراع العسكرية، وهي مواجهات أنبأنا التاريخ دومًا بأنها تنتهي بخسارة الطرفين حيث لا رابح في هذا الصراع أبدًا، وتؤدي لنشوء الكيانات الفاشلة، وهو عين ما ترمي لقيامه الدول الغربية وإسرائيل.


ما يجعلنا نتساءل عن الدور الحقيقي لجماعة الإخوان المسلمين داخل هذا الكيان الجديد للمعارضة، فالإخوان كما هو معروف يمثلون القوام الرئيس لجسم المعارضة الخارجية، فكيف إذًا يسكتون على هذه الخطوات المفضوحة لاحتواء المعارضة السياسية وتدجينها لخدمة المصالح الأمريكية والإسرائيلية؟!

نعم قد يكون المقابل هو وقف نزيف الدماء السورية، وهو المطلب الأهم في هذه المرحلة، ولكن هل يستبدل الاستبداد الأسدي باستبداد من نوع أخر هو استبداد أممي، بحيث يكون خاتمة كفاح الشعب السوري العظيم والذي يعد الأروع والأعظم في سبت الثورات العربية أن ينتهي به الحال إلى دولة مفككة مليئة بالفراغات السياسية والأيدلوجية شديدة الشبه بالكيان الطائفي المسمى (لبنان)، تكون سوريا معه دولة فاشلة داخليًّا موالية خارجيًّا، دولة مليشيات وطوائف وجماعات وموالاة ومعارضة، وهو ما يضمن سلامًا واستقرارًا دائمين للكيان الغاصب لفلسطين؟ فهل يكون الائتلاف المعارض الجديد هو بداية الطريق نحو لبننة سوريا؟

ربنا يستر.


شريف عبد العزيز الزهيري
 

المصدر: موقع مفكرة الإسلام