الأطفال يدفعون ثمن الفوضى في العراق

منذ 2006-06-16

الرياض/ طارق راشد

جاء في إحصاءات قامت بها الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة والحكومة العراقية المؤقتة، أن حالات سوء التغذية لدى الأطفال في العراق قد تضاعفت تقريباً منذ أن تعرضت البلاد للغزو الأجنبي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية منذ (20) شهراً مضت. فقد قالت دراسة قامت بها وزارة الصحة العراقية بالتعاون مع المعهد النرويجي الدولي للعلوم التطبيقية وبرنامج الأمم المتحدة للإنماء، بأنه بعد أن انخفضت منذ عامين مضت معدلات الإصابة بنقص التغذية الحادة بين الأطفال ممن هم دون الخامسة إلى 5 بالمائة، عادت وارتفعت بشكل حاد لتصل إلى 7.7 بالمائة في العام الحالي.

 

  ويعني ذلك أن حوالي (400000) طفل عراقي يعانون من الجفاف، وهناك حالات مرضية تتميز بالإسهال الحاد ونقص خطير في البروتين. ويقول 'ألكسندر ماليافين'، وهو أخصّائي في صحة الأطفال لدى بعثة اليونيسيف في العراق: "أن هذه الأرقام تشير بشكل كبير إلى اتجاه تدني صحة الأطفال". وتشير الأبحاث إلى التكلفة البشرية الصامتة التي يتم دفعها في جميع أنحاء بلد يَشيع فيه عدم الاستقرار وسوء الإدارة.


ومع ارتفاع هجمات المقاومة وازدياد شدة ضراوتها، فإن تدهور الخدمات الأساسية يؤدى إلى وفاة الكثيرين، في حين قال العديد من العراقيين بأنهم كانوا يتوقعون تحسن ظروف المعيشة نتيجة تولي الأمريكيين مقاليد إدارة البلاد. أما الآن فإن معدل إصابة الأطفال بسوء التغذية يعادل تقريباً مثيله في بوروندي، وهي دولة تقع في وسط أفريقيا، وتمزقها الحروب منذ عقد من الزمان. كما أنه أعلى بكثير من المعدلات الموجودة في أوغندا و(هاييتي).

 

ويقول خالد مهدي، وهو مدير مركز أبحاث التغذية بوزارة الصحة: "إن الناس يشعرون بالدهشة من هذا الأمر". ويقوم المعهد منذ أكثر من عقد بإجراء مسوح عن التغذية، وكان آخرها في شهر نيسان (أبريل) وأيار (مايو) غير أنه لم تُنشر نتائجها بعد. ويعزو مهدي وغيره الزيادة في معدلات سوء التغذية إلى الماء غير النقي وإلى إمدادات الكهرباء التي لا تكفي احتياجات تنقيطه من خلال الغلي. وفي المناطق الفقيرة، حيث يعتمد الناس على الكيروسين كوقود لمواقد الطهي، فقد تدهورت صحة المواطنين لارتفاع الأسعار، و بسبب الاقتصاد الذي أُصيب بالشلل من جراء البطالة.

ويقول كاظم وهو عامل يدوي في أثناء زيارته لابنه المريض عبد الله الذي يرقد في مستشفى بغداد الرئيسي: " لقد ساءت الأمور بالنسبة لي منذ بدأت الحرب" .وقد بلغ وزن عبد الله (11) رطلاً فقط. ويقول كاظم: " في عهد النظام السابق كنت أعمل في المشاريع الحكومية، أما الآن فليس هناك أية مشاريع". ويضيف كاظم قائلاً: " وعندما أجد عملاً أحصل على (10 إلى 14) دولاراً في اليوم. وأن حالف زوجتي الحظ في العثور على علبة اسوميل، والتي أوصى بها الأطباء كعلاج لسوء التغذية، فإنها تدفع في مقابلها 7 دولارات".

 

 

  أما سعاد أحمد، والتي جلست القرفصاء فوق أحد الأسرة في نفس العنبر، وهي تحاول أن تخفف عن حفيدتها هبة البالغة من العمر أربع سنوات فقد أصبحت شبيهة بالهيكل العظمي نتيجة إصابتها بالإسهال الحاد، "ولكن السيدة في الفراش المجاور دفعت (10) دولارات كثمن للدواء نفسه". ويحب أن يفاجأ مسؤولوا الصحة العراقيين الزائرين بقولهم "بأن مشكلة التغذية التي كان أطفال العراق يعانون منها منذ عقد من الزمان كانت السمنة"!!


في حين يقولون بأن سوء التغذية لم يظهر سوى في أوائل التسعينيات مع فرض الأمم المتحدة للعقوبات التجارية التي وقفت الولايات المتحدة وراءها كعقاب لنظام صدام حسين على غزوه للكويت في عام 1990. وقد ساعدت جهود الإغاثة الدولية وبرنامج الأمم المتحدة للنفط مقابل الغذاء في التقليل من الأثر المدمر للعقوبات، كما انخفض معدل الإصابة بسوء التغذية الحادّة بين الأطفال العراقيين من ذروته التي بلغت 11 بالمائة في 1996 إلي 4 بالمائة في عام 2002.

 

غير أن الغزو الأجنبي في آذار (مارس)، 2003 وما تبعه من أعمال السلب والنهب الواسعة قد دمر البنية الأساسية للحكم في العراق، كما أن أعمال العنف المتواصلة في جميع أنحاء البلاد قد أبطأت من خُطا إعادة الإعمار إلى درجة توقفها التام. وقد قال مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية وهو مجموعة بحث مقرها واشنطن في آخر تقرير أعده مؤخراً لخمسة قطاعات من قطاعات إعادة الإعمار في العراق، بأن قطاع الرعاية الصحية هو صاحب أسرع إيقاع في تدنّي مستواه. ويقول أحد الإداريين في المستشفى التعليمي المركزي لطب الأطفال ببغداد: "صدّقني، لقد اعتقدنا بأن أمراً سحرياً سوف يحدث مع سقوط صدام حسين وبداية الاحتلال الأجنبي بقيادة الولايات المتحدة. ومن ثم فنحن نشعر بالدهشة لعدم حدوث أي شيء ".

 

ويضيف المسؤول قائلاً: "إن الناس تتحدث الآن عن كيف كانت أيام صدام حسين أفضل بكثير". وأشار المسؤول الإداري الذي رفض الإفصاح عن اسمه الكامل، إلى قلق الأطباء العراقيين على سلامتهم؛ إذ يُنظر إلينا على أننا أغنياء وعلى صلة بكبار المسؤولين، ومن ثم فنحن هدف للصوص والمبتزين، بل ولأولئك الذين يشعرون تجاهنا بمجرد الحسد أو الرغبة في الانتقام. ثم قال بأنه تم اغتيال عدد كبير من الأطباء، ولذا قامت وزارة الصحة بإرسال طلب للإسراع بمنح تراخيص حمل أسلحة للأطباء.

كما أدى العنف إلى هروب وكالات الإغاثة الدولية التي قدمت الخبرات إلى العراق بعد الغزو الأمريكي. وبعد حادث انفجار سيارة مفخخة في مقر الأمم المتحدة في بغداد، والذي أودى بحياة (20) شخصاً في العام المنصرم، تم إخلاء إدارة برامج الأمم المتحدة الخاصة بالعراق من الأردن المجاورة. كما قامت منظمة أطباء بلا حدود بإخلاء موظفيها من العراق في هذا الخريف وهي المعروفة بتحملها للمخاطر وكونها واحدة من المنظمات التي ساعدت في إحياء وزارة الصحة العراقية في الأسابيع التي تلت الغزو.

 

وقامت منظمة كير انترناشيونال بإنهاء نشاطها في تشرين الأول (أكتوبر) بعد اختطاف مديرة عملياتها الضخمة في العراق 'مارجريت حسن'، والتي يُعتقد الآن أنها قد لقيت حتفها. لقد ظلت المنظمة الضخمة التي تتخذ من مدينة أتلانتا مقراً لها تزاول نشاطها في العراق خلال ثلاثة حروب، حيث وفرت الإمدادات للمستشفيات، وقامت برعاية عشرات المشاريع التي وفّرت مياه الشرب النظيفة للعراقيين. وطبقاً لأحد الإحصاءات، فإن 60 بالمائة من سكان الريف و20 بالمائة من سكان الحضر لا يحصلون إلا على المياه الملوثة للشرب. كما أن خطوط الصرف الصحي في البلاد في حالة سيئة للغاية.

وتقول زينا يحيى، وهي ممرضة بمستشفى للأمومة ببغداد: " حتى إننا نعاني من جودة مياه الشرب. فلو وضعت الماء في كوب زجاجي لرأيت أنه غير نظيف بصورة واضحة. ولقد سمعت بوجود حالات مصابة بحمى التيفوئيد". وتشير الإحصائيات الخاصة بالتغذية إلى أن الحال أسوأ بكثير في جنوب العراق الذي يسكنه أغلبية من الشيعة المسلمين، وهي المنطقة التي تعرضت للإهمال والاضطهاد إبان حكم صدام حسين. غير أن الأطباء يقولون بأن سوء التغذية يحدث أينما كان الماء غير نظيف، وكان الآباء فقراء لم يتعلموا كيفية وقاية أنفسهم من الأمراض.

تقول يسرا جبار البالغة من العمر (20) ربيعاً، وهي تقبع في عنبر مليء بالذباب بمستشفى بغداد للأمومة: " لا أكل بشكل مناسب". في حين تقول أمها: إن الماء في الحي الذي نسكن فيه بمدينة الصدر-وهي منطقة عشوائية في الجانب الشرقي من العاصمة بغداد يسكنها الشيعة- عادة ما يكون ملوثاً. أما أخوها فقد أصيب بعدوى الصفراء. وتقول يسرا جبار: " يخبرني الأطباء بأنني مصابة بالأنيميا ". ويقول الأطباء بأن معظم النساء الحوامل بالمستشفي يعانون من نفس المرض. وتضيف يسرا جبار: "هذا أمر متوقع، فمنذ بداية الحرب وهناك الكثير من البطالة، وبدون عمل لا يملك المرء المال للحصول على غذاء مناسب". ويقول العراقيون بأن مثل هذه الظروف لها عواقب من الناحية السياسية.

وعادة ما يبين سكان بغداد للمراسلين الأجانب إلى أنه بعد حرب الخليج في عام 1991 كانت العاصمة في حالة يرثى لها، غير أن حكومة صدام قامت باستعادة إمدادات الكهرباء والكيروسين في غضون شهرين فقط. ويقول المسؤول في المستشفى التعليمي: " نعم هناك ثمن يُدفع لكل حرب، ونعم هناك ضحايا. ولكن ماذا بعد ذلك؟"

وفي النهاية بالله عليكم، ألا يستحق العراق البناء من جديد، ليس من أجل الكبار بل من أجل الصغار؟!

 


المصدر: الإسلام اليوم