دعوة إلى إلغاء الجيوش العربية!!
د/ علي عبد الباقي
هناك اتفاق بين الباحثين والمراقبين العسكريين على أن الدول العربية من أكثر دول العالم إنفاقًا على السلاح، وهي تمتلك جيوشًا كبيرة فيها الآلاف من الرتب التي تثير الخوف والرعب في قلوب الناس، كما أن لهذه الجيوش ميزانيات ضخمة تكفي لأن تجعل المواطن العربي الفقير والمطحون يحيا حياة رغدة، تماثل حياة أي إنسان أمريكي أو أوروبي.
ومع كل هذه الإمكانيات الضخمة، والميزانيات المرعبة، فإن هذه الجيوش عادة ما تنهزم في الحروب التي تخوضها: فانهزمت هذه الجيوش مجتمعة على أرض فلسطين عام 1948، وانهزم الجيش المصري عام 1956 ولم ينقذه إلا تدخل الرئيس الأمريكي "أيزنهاور" الذي طالب قوات العدوان الثلاثي (البريطانية والفرنسية والإسرائيلية) بالانسحاب الفوري لأنهم تصرفوا من خلف ظهره، وانهزم الجيش السوري والجيش الأردني والجيش المصري عام 1967 هزيمة مذلة على يد الجيش الإسرائيلي.
أما في أكتوبر 1973 فقد انهزم الجيش السوري، و حقق الجيش المصري نصرًا غير كامل. أما الجيش العراقي فقد انهزم مرتين أمام قوات التحالف في حرب الخليج الثانية، ثم في الحرب الأخيرة التي أطيح فيها بنظام صدام حسين، واحتلت العراق على أثر ذلك. أما الجيش اللبناني فقد انهزم أكثر من مرة أمام الجيش الإسرائيلي، ومنها ما كان عام 1978، ثم عام 1982 حينما اجتاح الصهاينة جنوب لبنان.
زيادة الإنفاق على التسليح في بعض الدول العربية لا ترتبط بالاحتياج الفعلي للسلاح لمواجهة عدو محتمل بقدر ما ترتبط بعقد اتفاقيات عسكرية للمساهمة في استمرار طاقة عمل مصانع غربية في إنتاج السلاح بنفس الكفاءة السابقة، ويبدو أن هناك اتفاقًا ضمنيًا بين هذه الأطراف لضمان الدفاع والحماية، وهو الأمر الذي يبدو متناقضًا، لأن عقد الحماية لا يتسق مع توريد أسلحة لا تحتاج إليها هذه الدول.
ورغم أن الإنفاق على الأسلحة في العالم تراجع بعد انتهاء الحرب الباردة إلى 2.4% في المتوسط عام 1996، إلا أن النسبة ظلت مرتفعة بين العرب عند 7.8% . وفي عام 1997 أنفقت البلدان العربية 35.7 مليار دولار على الأسلحة، وارتفع الرقم إلى 38.7 مليار دولار في عام 1998.
وهكذا فإن العرب ينفقون على أغراض التسلح وشراء الأسلحة الجديدة من الدول الغربية بما يعادل 60 مليار دولار سنوياً سرعان ما تتحول إلى "خردة" في المخازن أو في رمال الصحراء نتيجة عدم الاستعمال. في حين أن ميزانيات البحث العلمي في عموم الدول العربية لا تتجاوز 600 مليون دولار سنويًا، رغم أن الإنفاق على البحث العلمي من الممكن أن يساعد العرب على تحقيق الاكتفاء الذاتي في مرحلة تاريخية معينة في إنتاج السلاح لو كان هناك تخطيط إستراتيجي بعيد المدى لتعزيز استقلالية الإرادة الوطنية عن الغرب.
وبالتالي فإن قضية الإنفاق المتزايد على الجيوش العربية، والذي يأتي على حساب حياة كريمة يتوفر فيها التعليم والرعاية الصحية والحريات العامة للجميع، قضية هامة ينبغي الوقوف عندها ودراستها. فآخر الهزائم العربية مثلاً كانت على يد الجيش العراقي الذي لم يستطع منع القوات الأمريكية من دخول العاصمة بغداد.
وقد كان الجيش العراقي، على سبيل المثال، من الجيوش العربية ذات النفقات العالية؛ فخلال الفترة 1980-1985 بلغ إجمالي الإنفاق العسكري العراقي نحو 120 مليار دولار، ورغم هذا الإنفاق لم يستطع هذا الجيش الذي خرج منهكًا من الحرب لمدة 8 سنوات مع إيران الوقوف أمام القوات الأمريكية في حرب الخليج الثانية، ولا حتى الثالثة.
نفقات باهظة بلا طائل:
ويقدر تقرير "التوازن العسكري" الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن عام 2002 تعداد جيوش 14 دولة عربية - ليس بينها العراق- بحوالي مليون و708 آلاف جندي نظامي يعملون في القوات المسلحة لهذه الدول.
كما أن هناك ما يزيد على نحو 3 ملايين جندي احتياطي مستعدين لتحمل واجب القتال حين يتم استدعاؤهم لذلك، فضلاً عمن أسماهم التقرير بالقوات شبة العسكرية التي يصل تعدادها في هذه الدول إلى نحو 800 ألف جندي شبه عسكري. وتضم قائمة الدول التي أحصاها التقرير جميع دول الخليج الست (السعودية وقطر والبحرين والإمارات والكويت وسلطنة عمان)، فضلاً عن مصر وسوريا ولبنان والجزائر والمغرب وليبيا واليمن والأردن.
وبحسب نفس التقرير فقد بلغ متوسط إنفاق هذه الجيوش على التسلح عام 2001 نحو 7.2% من الناتج المحلي الإجمالي لدولها، غير أن هذا الإنفاق يتضاعف في بعض الدول العربية ويقل إلى النصف في بلدان أخرى.
وبالنسبة للعراق، كانت النفقات العسكرية تمتص قرابة نصف الناتج المحلي خلال عقد الثمانينيات قبل فرض الحصار عام 1991. أما إذا حسبنا الإنفاق العسكري كجزء من إيرادات النفط فسنجد أن الإنفاق العسكري قد بلغ مجموعه خلال 1980-1985 حوالي 120 مليار دولار.
وإذا أردنا ترجمة إنفاق الدول العربية الـ14 باستثناء العراق إلى مليارات فسنجد أنها تنفق ما يزيد على 60 مليار دولار سنويًا، تتفاوت من دولة لأخرى.
ولكن ماذا تفعل الجيوش العربية مقابل استقطاع هذه المبالغ الكبيرة من الدخل القومي لشعوبها؟ وهل دافعت فعلاً عن بلادها ضد التهديدات الخارجية؟. الجواب معلوم ولا يحتاج إلى بذل مزيد من الجهد.
دول منزوعة السلاح:
إن المشهد المؤلم الذي نراه الآن على الأرض العربية اللبنانية، حيث يواجه لبنان العدوان وهو منزوع السلاح، ليس فيه سوى مدنيين وأهداف مدنية، يجعلنا نشعر بالأسى والحسرة لأننا نشعر أننا أمة من المدنيين العزل، ونعيش في دول عاجزة عن الدفاع عن نفسها منفردة ومجتمعة، لأن دولنا فقدت الإرادة السياسية.
إلا أن جوهر الأزمة يتعدى مجرد فقدان الإرادة السياسية إلى العجز عن اللحاق بركب العصر في مجال التقنية المتطورة. فالعرب عاجزون عن منازلة "إسرائيل" لأنهم يقيمون خارج العصر ليس في المجال العسكري فقط، بل في كل مجال حيوي آخر من مجالات العلوم، والصناعة، والتطور السياسي، والثقافة.
ورغم هذا الفشل الذريع في المجال العسكري أمام الأعداء، فإن دولنا تجيد تمامًا وبامتياز التصدي للمدنيين العزل الذين يخشى أن يعترضوا على فساد أو قمع أو ظلم أو ما شابه ذلك.
ونتيجة لازمة لهذا الوضع فإن الأمة من محيطها إلي خليجها أصبحت منزوعة السلاح، كشأنها عشية أن زحف عليها الاستعمار في القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي، فاكتسحها من أقصاها إلى أقصاها، ولم تفلح سياسات التسليح وإعداد الجيوش في إصلاح هذه الأوضاع المتدهورة.
الخروج من هذا المأزق يتطلب مشاريع تنمية شاملة، أو على الأقل تنمية في المجال الصناعي ـ العسكري، كما فعلت الصين والاتحاد السوفييتي وحتى الهند وباكستان. المشاريع العربية والإسلامية المماثلة منذ بدايات القرن التاسع عشر أجهضت مرارًا وتكرارًا، إما بتدخل أجنبي، أو بأخطاء داخلية، أو بالاثنين معًا.
حركات المقاومة فضحت الجيوش:
إن الذي يقود المقاومة الآن ويتولى القتال على كل الجبهات العربية (من العراق وفلسطين إلى لبنان) ليس هو الجيش أو الدولة، بل عناصر ومنظمات مدنية تقوم بمهام كان ينبغي أن تتولاها الجيوش والدول، التي لا تكتفي بالوقوف متفرجة، بل أحيانًا تقف في خندق العدو.
وإذا كان ما تقوم به هذه المنظمات الشعبية المدنية يزعج العدو الصهيوني ويسبب له كل هذا الارتباك، فكيف إذا كان الحال هو انخراط حشود عربية جرارة من سورية والأردن ولبنان ومصر والسودان واليمن وغيرها من الجيوش العربية؟
ولعل هذا يثير تساؤلاً مهمًا وهو: لماذا لا يفتح النظام العربي الطريق لدعم حركات المقاومة وتعزيزها بالمال والسلاح، كي تنجح فيما فشلت فيه الجيوش؟.
ولماذا لا تتخذ الدول العربية كل ما يلزم لتوسيع دائرة المجابهات مع العدو الصهيوني، بحيث يمكن تشتيت قدرته، فلا يعود لهذا العدو قيمة الشريك الكامل لأمريكا في المنطقة بكامل الجدارة والأهلية؟.
والإجابة التي سيجيب بها العارفون ببواطن الأمور هي أنه لا توجد لدى الحكومات العربية إرادة سياسية لمقاومة "إسرائيل" ومعارضة الإرادة الأمريكية.
كل يوم، يفتضح أكثر فأكثر قصور الموقف العربي الرسمي تجاه قضية فلسطين وأرضها وشعبها.
وقد جاءَت قصة الجندي الإسرائيلي الأسير، وما تبعها من تصعيد للعدوان الصهيوني في قطاع غزة والضفة لتعري مغالطات المواقف الرسمية العربية التي تدعي دعم الشعب العربي الفلسطيني، والوقوف إلى جانبه. فقد اقتصر الموقف العربي الرسمي على الوساطة لإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي، بل لقد مارس الموقف الرسمي العربي الضغط على الجانب الفلسطيني، وليس الوساطة.
خطورة هذه السياسات العربية الرسمية أنها وقعت في وهم التصور أن مصالحتها مع "إسرائيل"، وإقامة علاقات طبيعية معها سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا قد يجنبها المخاطر التي يمثلها المشروع العدواني الصهيوني، متجاهلة أن ذلك يتم على حساب شعب فلسطين وحقوقه، وعلى حساب الأرض العربية والمقدسات في فلسطين، أي أنها تضحي بفلسطين وشعبها وأرضها معتقدة أنها بذلك تنقذ نفسها كأنظمة وكأقطار، طالما أنها تسترضي "إسرائيل"، وتسترضي السيد الأمريكي .ولذلك نلاحظ أن كل هذه الجرائم التي ترتكبها "إسرائيل" بحق الشعب الفلسطيني لم تؤثر سلبًا على العلاقات القائمة بين عدد من الدول العربية و"إسرائيل"، ولم تدفع أحدًا منهم لقطع علاقاته مع "إسرائيل".
هذه السياسات العربية القائمة على الخضوع للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، وإسقاط لغة مقاومة العدو من قاموسها، وإعفاء جيوشها من مهمة الدفاع عن الأراضي والمقدسات العربية ضد الغزو الأجنبي، مع ما يستنزفه تسليح هذه الجيوش من أموال هائلة من ثروات الأمة، دون استفادة من هذا السلاح، أو استخدامه في أغراضه الصحيحة ـ تشجع "إسرائيل"، ومن خلفها الإدارة الأمريكية على تصعيد عدوانها ضد الشعب الفلسطيني، والاستمرار في احتلال أرضه.
- التصنيف: