أشيروا علي

منذ 2013-11-12

تبدو نقيصة الاعتداد بالرأي والانفراد بوهم الصواب كإحدى أسوأ النقائص التي يكشف عنها السجال الإعلامي والسياسي الدائر اليوم. ولعل من المفارق حقاً أن يُنعت الحكام والممسكون بزمام السلطة بشتى نعوت الاستبداد والفردية في اتخاذ القرار وتدبير الشأن العام، بينما تضج كل مؤسسات المجتمع بمواقف وسلوكيات وتبريرات تغذي سطوة الفرد على الجماعة. فهل يتطلب الأمر مجرد استعادة مكرورة لكل ما قيل عن فضيلة التشاور، وما حفلت به كتب المتقدمين من علماء الأمة والمتأخرين عن فقه الشورى؟




ولنا أن نتساءل عن جدوى التصدي لمظاهر الاستبداد والانفراد بالرأي في غياب نموذج أسري تندمج فيه الشورى مع باقي عناصر البناء القيمي الذي تحرص الأسرة على تمريره!

إننا في مواجهة جيل جديد تلعب الوسائط التكنولوجية دوراً خطيراً في تشكيل قيمه وتصوراته. وهو وضع يفرض ترسيخ قيم الحوار والتشاور، واستنطاق عقول الصغار لاستخراج ملكاتهم الدفينة. وليس في الأمر تعارض مع ما يبديه بعض الآباء من حرص على تنئشة صغارهم وفق منظور ديني، وإنما التعارض ينشأ عادة من المغالاة في تمرير معاني الطاعة والامتثال إلى الحد الذي تنتفي فيه شروط الحوار الأسري.

يقول الدكتور محمد وقيع الله "إن أصغر وحدات الأمة تكويناً وتأثيراً في ثقافتها السياسية هي بلا شك خلية الأسرة التي يتلقى فيها الإنسان التوجيهات الأولى لالتزام المثل العليا في الطاعة والانضباط والتضحية وأداء الواجبات، والتسامح والتعاون والتشاور. ويتوقع من الأسرة الراشدة أن تمكن طفلها من إبداء آرائه، وتشجعه على ذلك، وتقابل آراءه الحسنة بالقبول والاستحسان، وتتيح له فرص ممارسة الشورى باكراً منذ سنواته الأولى، وتزيد له في هـذه الفرص كلما تقدم في السن، ثم تضاعفها بقدر ملحوظ خلال سنوات المراهقة، حيث يتنامى ميله للاستقلال الشخصي، وتعوده مع ذلك على تحمل نتائج قراراته الخاصة، وتساعده على تصحيح أخطائه برفق، مع إعطائه الحق في الاحتجاج المهذب على ما يراه خطأ في قرارات الأسرة.

وهكذا تتمكن الأسرة من تدريب أعضائها منذ الصغر، وتقودهم على نهج الاستقلال والنضج الشخصي والاجتماعي والسياسي. وبهذا تؤدي الأسرة خدمة كبيرة لأبنائها، وللمجتمع، ولثقافة الأمة السياسية ككل" (د. محمد وقيع الله: الشورى ومعاودة إخراج الأمة، بحث فائز بجائزة الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني العالمية، 2007م، ص:[153]).

و حين يهمل الآباء الشورى كقيمة إنسانية رفيعة، يتوزع الأبناء داخل المجتمع بين مذعن خائف ومستبد بالرأي والقرار. فينتفي التكامل بين الأفراد وتتبدد أجواء الثقة، ويضج المجتمع بسلوكيات مرضية كضعف الإخلاص والأداء الوظيفي وإهدار الموارد والطاقات المبدعة.

تتحمل المؤسسة التربوية وزر تعطيل ثقافة الشورى بترددها في اعتماد طرائق تدريسية حديثة تبعث في نفوس الطلاب روح المبادرة والاستقلالية في الرأي والقرار. فلا يزال التلقين أكثر الأساليب رواجاً في المدارس العربية رغم المحاذير التي أثارها عدد من الباحثين بشأنه، ولا يزال للمدرسين سطوتهم على العملية التعليمية داخل الفصل لأسباب يضيق المقام بعرضها. هكذا تنشأ الأجيال داخل نظم تربوية تصوغهم في قوالب متشابهة وجامدة سمتها التقبل السلبي والاتكالية والعجز عن تغيير الوضع السائد (د. يزيد السورطي: السلطوية في التربية العربية، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2009م، ص: [19]).

أما مؤسسات المجتمع المدني فتشكل فضاء ثالثاً للتسلُّط والاعتداد بالرأي حين تغيب الشورى كبوصلة إيمانية وسلوك موجه. ولعل المتتبع لأشكال الصراع السائد داخل هذه المؤسسات، سواءً كانت أحزاباً أو نقابات أو جمعيات وتعاونيات، يدرك أن جوهر الصراع مرتبط في الغالب بنزعة فردية تأبى إلا التحايل على إرادة المجموع، واعتماد الولاءات الضيقة المغذية للاستبداد بديلاً عن القدرة والكفاءة والرؤى المبدعة.

وبذلك تتحول القيادات السياسية والثقافية والمجتمعية إلى زعامات تستنسخ حضور المستبد أو الطاغية في البنية السياسية العليا للمجتمع.

إن الشورى قبل أن تكون قاعدة قانونية أو مبدأ عاماً في رسم السياسات وإدارة شؤون الحكم، هي قيمة إنسانية عليا تؤهل الفرد للاندماج الفاعل في مشاريع الإصلاح والتنمية، والاستجابة للتحديات الحضارية. لذا؛ فالكتابة الإسلامية المعاصرة مدعوة لتطوير مدخل تربوي يوفر للأسرة والمدرسة تطبيقات عملية قوامها الممارسة الشورية، وتأهيل الفرد لتحمل مسؤوليته كاملة في صنع القرار.

هي الحاجة إذن إلى تربية على الشورى تعيد رسم الحدود بدقة بين الأفراد ومؤسسات المجتمع، وتجعل قمة هرم التنمية والبناء الحضاري مسطحة، تتسع للجميع!

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي