وجود الله – مناظرة فلسفية
لقد سألوا أعرابيا بدويا عن وجود الله فقال لهم "الأثر يدل على المسير أفلا تدل بحار ذات أمواج وسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج على العلي القدير"؟؟!!
سؤال سيدة ملحدة: الكمبيوتر أكيد موجود لأني أقدر أتعرف عليه بحاستين من خمس حواس: شايفاه ولمساه وساعات بسمع صوته؛ أكيد له ريحة خاصة وطعم مش عايزة أعرفه. ده "عالم الشهادة"، ولكن هناك موجودات بالرغم من غيابها عنا وعدم تجليها لحواّسنا. وهنا نذهب لعالم الغيب بحثاً عن الذرة، والكهرباء، والله والشيطان حتى نتعرف على الفرق الهائل بين نوعين من المعرفة الغيبية أي المعلومات/الادعاءات:
النوع الأول من الادّعاءات/المعلومات: يدعي علماء الفيزياء النظرية وجود جسيمات صغيرة داخل الذرة لا يراها أحد. هذا غيب. هل هذا النوع من الغيب يستحق أن نحترمه عقلياً؟
الإجابة هي: بنى علماء الفيزياء معجّل تحت الأرض -في سويسرا- وصرفوا عليه بلايين الدولارات في محاولة لإثبات وجود تلك الجسيمات أو تكذيب تلك الادعاءات الغيبية.
النوع الثاني من الادعاءات/المعلومات أبوك يلقطك منذ لحظة ولادتك ويدّعي في أذنك معلومة غيبية: الشيطان موجود. يتلو الأذان في أذنيك لحمايتك منه. ثم يتبع ذلك مجموعة أخرى من ادعاءات/معلومات غيبية: الله موجود، الجنة، النار، الملائكة، الجن الذين يساعدون السحرة، الأشباح والأرواح الشريرة. هل هذا النوع من الغيب يستحق نفس الاحترام العقلي الذي حظى به النوع الأول؟ هل نجمع بلايين الدولارت ونبني معملاً في السماء بحثاً عن هذه الجسيمات -أقصد الأجسام- الضخمة من للتحقق من وجودها؟ أم هل يتعارض ذلك مع التحذير الأبوي من الشيطان الرجيم الذي سمعته وعمري لحظة أم لحظتان؟ هل التنقيب والشك مسموح بيهم من الأساس أم أن أحد هذه الادعاءات/الأشياء لغيبية (الله) سيعاقبك بشدة لو لعبت بديلك وسيلقيك في شئ آخر غيبي (النار)؟
هل ترقى ادعاءات النوع الأول من المعرفة للمقارنة مع النوع الثاني؟
ردي على السؤال: حضرتك تكلمتي عن وجود الكمبيوتر كوجود أكيد لأنك ترينه وتلمسينه وتشمين رائحة أثر سخونة البروسيسور، ولكن السؤال، هل فعلا أنتِ متأكدة من وجود الكمبيوتر؟ هل تشعرين بالكمبيوتر "نفسه" أم بأثره على خلايا دماغك؟
كيف ستقنعين كائنا ليس لديه حاسة البصر أن الكمبيوتر وجود له لون؟ كيف ستقنعين كائناً آخر فقد حاسة السمع بأن الكمبيوتر له مروحة تصدر ضجيجًا؟ بل السؤال الأكبر هو كيف ستقنعين كائنا ليس له أي حواس أن الكمبيوتر موجود أصلًا؟
إننا نحاول إقناع أنفسنا عن طرق غير متعمقة في التفكير بأن ما نراه هو موجود لذاته وأن الوجود الموضوعي يختلف عن "آثار الوجود" مع أننا لو دققنا النظر والفكر فسنجد أننا ونحن نائمون نرى كمبيوتر آخر ونجزم بوجوده أثناء الحلم، لماذا؟ لأن أدمغتنا استقبلت إشارات في مراكز الحواس تخبرنا بوجود كمبيوتر وهذه الإشارات هي نفسها التي تستقبلها أدمغتنا ونحن مستيقظون للدلالة على وجود الكمبيوتر الأول!
السؤال هنا هل هناك معنى لوجود الكمبيوتر بشكل موضوعي مستقل عن تأثير هذا الوجود فينا؟ أم أن تأثيره في أدمغتنا عن طريق حواسنا هو من دلنا
على وجوده؟
السؤال بصيغة أخرى، هل الوجود منفصل عن "آثار الوجود"؟
إن كل ما نشعر به حولنا في العالم وندعي أنه موجود يقينا لمجرد أننا نستطيع تذوقه ما هو إلا آثار وجود وليس وجود.
في الحقيقة لكي نكون علميين في تفكيرنا يجب أن نستغني عن تعريفنا الكلاسيكي للوجود بتعريف آخر وهو أن الموجود هو من له أثر على أدمغتنا يستوي في هذا الاحساس بهذه الآثار أثناء النوم أو أثناء اليقظة!
إن الكمبيوتر الذي رأيته في الحلم يحمل نفس درجة "حقيقة الوجود" للكمبيوتر الذي رأيته في اليقظة.
إن لهما نفس "الآثار" وهذا هو المهم لأنه ليس لدينا أي دليل آخر على الوجود الفعلي بالمعنى الكلاسيكي.
يستطيع جهاز موصل بأدمغتنا أن يوصل لاحساسنا أننا عشنا حياة كاملة، هل نحن الآن على يقين أننا لسنا تحت تأثير هذا الجهاز المحفز لخلايا الاحساس في المخ؟
إن الخروج العلمي من هذا المأزق أن نعتبر أن "الوجود" ما هو إلا "آثار الوجود” وأن لا معنى علمي للوجود بلا أثرٍ له.
نأتي الآن إلى وجود الإلكترون، أن أحدا لم ير قط إلكترونا (مع أنه من مثال الكمبيوتر الرؤية ليست إلا أثرا لوجود) ولكن كل ما نستطيعه هو أن نلتقط أثر الإلكترون على فيلم حساس أو بإثارته لشلة التلفاز وخروج فوتونا يصل ليعيننا (أو بالأحرى لمخنا!!) وفي الحقيقة هذا كاف جدا لوضع "فرضية" وجود ما نسميه الآن بالإلكترون.
إن وجود الإلكترون أصبح "حقيقة" لا لأننا رأيناه أو تذوقناه، بل لأننا قسنا أثره في المعمل وافترضنا فرضا أو نظرية بأن هناك ثمة شئ له خصائص شحنة وكتلة ولف مغزلي لابد من "وجوده" حتى بحدث هذه الآثار التي نراها ولكن ماذا عن مثال آخر كالجرافيتون؟ إن العلماء قد صنعوا مسرعات جبارة ليكتشفوا ما إذا كانت نظرية الأوتار الفائثة أو نظرية (م) صحيحة، ولكن ماذا ينتظر العلماء حتى يقولوا بوجود الجرافيتون؟
إن الجرافيتون يعتبر خيطا مغلقا في نظرية الأوتار الفائقة وهذا الخيط هو الوحيد -دون باقي الجسيمات الأولية- القادر على الهروب من كوننا هذا إلى كون آخر موازي أو (بران) بتسمية نظرية م.
ولكن ماذا سوف نقيسه في المعمل؟ هل سنراه؟ هل سنشمه؟ لا لا.
إن أقصى ما نطمح إليه هو أن نرى اختلالا معمليا لقانون حفظ الطاقة وبالتالي نستنتج أنه كان ثمة جرافيتون موجود ثم فر إلى عالم موازي!! مع أن العالم الموازي هو الآخر فرضية للنظرية! إذن نرى المنطق العلمي يتفق مع المنطق الفلسفي وهو أن الوجود ليس إلا "أثر" وأنه ليس له تعريف منطقي إن لم يكن له أية أثر.
حسناً. وجود الله..
لقد سألوا أعرابيا بدويا عن وجود الله فقال لهم "الأثر يدل على المسير أفلا تدل بحار ذات أمواج وسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج على العلي القدير"؟؟!! دعينا نتخلص من الحكم المسبق على هذا البدوي أنه متخلف وأنه لا يحسن التفكير، ألم يفكر هو بنفس المنطق العلمي الذي فكر به العالم السويسري القابع في الهوة المكيفة في مسرع سيرن؟؟ إنه فكر بالأثر أيضا واعتبر أن الأثر هو دليل على الوجود. قد يتفق الناس أو لا يتفق مع البدوي البسيط في صحة ما توصل إليه، ولكن كل منصف سيتفق ويقر بأن الأعرابي البدوي قد فكر تفكيرا علميا راقيا من غير أن يدري أن الكون هذا بأسره هو أثر وجود الله بالنسبة لهذا الرجل البسيط كما أن اختلال بقاء الطاقة لوهلة هو أثر وجود الجرافيتون بالنسبة لنا في مسرع سيرن في القرن الواحد والعشرين المبدأ هو هو، الأثر هو الفيصل، وينفي العلم والفكر الحديث أن يكون هناك وجود بأثر ووجود من غير أثر فإما وجود بأثر أو لا وجود على الإطلاق
عندما أفكر أنا كعاشق للفيزياء وكمهندس للإلكترونيات المتكاملة في قوانين الطبيعة التي تحكم الكون بداية من اللإلكترون في سحابته الإلكترونية في الذرة إلى النجوم النيوترونية والثقوب السوداء أتعجب بشدة، إن هذه القوانين بتعقيدها هي أثر ولا شك عندي في وجود عقل رياضي جبار أحكم كل قوانين الطبيعة بهذه الصورة وألّف معادلاتها بل ووضع لها صيغها وقيم ثوابتها الفيزيائية إنني أجد أن ثبوت قوانين الطبيعة وعد تقلبها بشكل مجنون هو دليل "أثر" على عدم عقل مؤلف هذه القوانين وعدم تقلب مزاجه من لحظة إلى أخرى!! إنني أتعجب لماذا هذه القيم بالذات للثوابت الفيزيائية؟ لمذا لم يكن ثابت بلانك = 1 بدلاً من كونه = 1 مقسموما على عشرة مرفوعة لاس 33 تقريا؟ من اختار هذه القيمة؟ ولماذا هي بالذات؟ لابد بالنسبة لي من وجود عقل مدبر اختار تلك القيمة بعناية لغرض في نفسه قد أعلمه أو لا أعلمه ولكني على يقين من أن وجود قوانين رياضية للطبيعة وثبات هذه القوانين وثبات قيم ثوابتها الفيزيائية هي "آثار" لوجود قوة مدبرة عظمى ليست موجودة داخل الكون "أثر وجودها" كما أن الجرافيتون ليس موجودا داخل اختلال قانون بقاء الطاقة في كوننا "أثر وجوده" قد يختلف معي الناس في صحة وصولي للنتيجة ولكني أظن إنهم لن يخالفونني أن ما فكرت به هو منهج علمي فلا فرق بالنسبة للمفكر بين وجود الكمبيوتر ووجود الجرافيتون ووجود الله، كلهم موجودون لأن كلهم لهم آثار!! ولا حيلة لنا في معرفة وجود أي منهم بدون الأثر ولا حيلة لنا أيضا في نفي وجود أي منهم مع وجود الأثر.
إنني أتخيل اأننا قلنا للبدوي البسيط (الذي فكر تفكيرا علميا نظيفا) أننا نحن العلماء نصرف بلايين الدولارات لااكتشاف آثار الجرافيتون حتى نتأكد من وجوده، فما بالك أجزمت بوجود الله من غير أن تصرف سنتا واحد.
سيبتسم ابتسامة هادئة ويقول، التفسير بسيط، إن وجود الله أوضح من وجود الجرافيتون لأنه آثاره ممتدة وموجودة للعيان دائما أما وجود الجرافيتون فإثباته صعب لأن آثره سيمتد لجزء زمني متناهي الصغر ثم يختفي، فيجب أن نعد له التكنولوجيا المعقدة لالتقاط أثره مما يكلفنا أموالا طائلة.
عذراً، لقد أطلت في الكتابة جداً ولكن اضطررت أن أرسخ فكرة "معنى الوجود" وأن حواسنا ليست إلا أدوات للاستدلال على وجود الكرسي أو المنضدة كما أنها هي نفسها بالإضافة إلى عقلنا هم أدوات للاستدلال على وجود الجرافيتون وهم أدوات أيضا للاستدلال على وجود الله، أما مسألة وجود الجنة والنار والشياطين والملائكة هي توابع لاقتناعنا بوجود الله من خلال الدين الذي نختاره ولا داعي في نظري للبحث فيهم إذا لم نقتنع بداية بوجود الله ونقتنع أن قضية الوجود هي هي لا تفرق بين أي موجود، فالوجود بالأثر ولا غير حتى إن توهمنا غير ذلك.
رد السيدة: لفه طويلة قوي يا أحمد حتى تثبت وجود الله الذي رأي أنه من الحكمة أن يخفي نفسه ويحملك مشقة إثبات وجوده أو أثر وجوده؛ أليس كذلك؟
ردي اﻷخير: الله لم يخف نفسه أبدًا يا سيدتي الفاضلة، أنا أراه بروحي كما أنت ترين المنضدة بعينيك، ولكن المعضلة أنك ﻻ تعترفين بروحك من اﻷساس فطبيعي أﻻ ترينه بها ﻷن حاسة رؤيته المباشرة وهي الروح غير موجودة بالنسبة لك إهماﻻ لها لا حقيقة بها.
كثيرًا ما يكون من المعضلات إيضاح الواضحات، يضطر اﻹنسان أحيانًا ﻷن يخاطب من ﻻ يعترف إﻻ بما يتذوق بلغته حتى يصل إليه ليزيل الغمة عن روحه (التي ينكرها!! يالها من مهمة معقدة!!) ويأمل أن يزيل الغشاوة التي رانت على حواسه العليا -النابعة من روحه مباشرةً- فيجد المخاطب "الباحث الحقيقي عن الحق" بعد اقتناعه عقليًا أن الله تعالى أصبح أظهر له من الشمس في رائعة النهار ﻷن روحه قد عادت إليه وأصبح حيًا حقيقة ﻻ وهمًا.
أحمد كمال قاسم
كاتب إسلامي
- التصنيف: