تاريخ المسلمين في البرازيل - الشيخ عبد الرحمن البغدادي في بلاد السامبا
كنت قد سمعت وقرأت منذ عامين بوجود مخطوطة تتحدَّث عن زيارة أحد علماء المسلمين للبرازيل في قديم الزمان، وبدأت رحلة بحث مضنية عن هذه المخطوطة، أو أي خيط يدلني عليها، وحينما حصلت على بعض الورقيات منها فرحت فرحًا شديدًا لأن هذه المعلومات القليلة أعطتني تصورًا عن وضع المسلمين في البرازيل في ذلك الحين، إلى أن حصلت عليها كاملة منذ حوالي شهر ففتحت أبواب معرفتي لحقائق ما تعرَّض له المسلمون في البرازيل من عذابات وما لا قوه في سبيل المحافظة على دينهم...
القسم الأول
"في ليلة والنوم أسبل علي والسِّنة، رأيت ما يرى النائم أني في كنيسة قائم، كاشِفًا عن رأسي مثل النصارى لابسًا لباسهم لا أتوارى، متمثلًا بين يدي الصورة التي هي رسم ذات عيسى المطهَّرة، ومعي أقوام أقول لهم قولوا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4]، فقمتُ مرعوبًا من هذا المنام وقصصته على أصحابي فقالوا: أضغاث أحلام، ولكن احذر من الذنوب فإنها مُشوِّهة للقلوب، وبعضهم قال غير ذلك والله تعالى أعلم بما هنالك"، رؤية رآها الشيخ عبد الرحمن البغدادي[1] قبل 15 عامًا من وصوله إلى البرازيل، ورواها في مخطوطته "مسلية الغريب"[2].
كنت قد سمعت وقرأت منذ عامين بوجود مخطوطة تتحدَّث عن زيارة أحد علماء المسلمين للبرازيل في قديم الزمان، وبدأت رحلة بحث مضنية عن هذه المخطوطة، أو أي خيط يدلني عليها، وحينما حصلت على بعض الورقيات منها فرحت فرحًا شديدًا لأن هذه المعلومات القليلة أعطتني تصورًا عن وضع المسلمين في البرازيل في ذلك الحين، إلى أن حصلت عليها كاملة منذ حوالي شهر ففتحت أبواب معرفتي لحقائق ما تعرَّض له المسلمون في البرازيل من عذابات وما لا قوة في سبيل المحافظة على دينهم.
هذه المخطوطة تُعد -بلا شك- عمدة للدارسين والمتابعين لتاريخ المسلمين في البرازيل، لأن من كتبها عالِم جليل وأديب مخضرم، استطاع أن يصف كل ما رأى، وأن يضع تصوراته لإنقاذ الجالية المسلمة في ذلك الوقت، لقد أضافت هذه المخطوطة بُعدًا آخر على تاريخ الإسلام والمسلمين في البرازيل.
كان الاعتقاد السائد لدى الدارسين لتاريخ الإسلام والمسلمين في البرازيل أن قصة المسلمين الأفارقة الأوائل الذين عاشوا في البرازيل تنتهي بثورة 1835م في ولاية باهيا، إلى أن وصلتنا هذه المخطوطة لتستكمل حلقة مفقودة في تاريخ المسلمين في البرازيل، ولتؤكد أن الإسلام استمر تواجده وبفاعلية في دولة البرازيل، وإن كان مستترًا لسنين طويلة بعد هذه الثورة.
حاول المسلمون خلالها أن يتوحَّدوا وكان هناك تواصل منظٌَّم بين تجمعاتهم المنتشرة في دولة البرازيل الكبيرة، ومارسوا شعائر دينهم التي شابها الكثير من التحريف نتيجة قتل مشايخهم واندساس بعض اليهود بينهم والذين عمِلوا على تبديل أوليات الدين الإسلامي، ولذلك كانوا حريصين على بقاء الشيخ عبد الرحمن البغدادي بينهم لكي يُعلِّمهم أمور دينهم كما سيتبين لنا من قراءة المخطوطة.
كان الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله البغدادي الدمشقي، عالِمًا أديبًا ذو مواهب متعددة، يكتب الشعر والأدب، ويتقن العلوم المختلفة إضافة للعلوم الشرعية، ويتقن اللغتين العربية والتركية، وكان محبًا للسفر والتِجوال، ولقد سافر إلى الدولة العلية العثمانية في الأستانة وكان ذلك في عهد السلطان عبد العزيز الأول[3].
وترقَّى في المناصب ليصير إمامًا للبحرية العثمانية، وحينما عَلِم أن هناك سفينتان ستسافران إلى البصرة مرورًا برأس الرجاء الصالح طلب الإذن لمرافقة إحداهما، وكان ذلك في عهد أمير البحار محمد صالح آتيش باشا، وكان قصد الشيخ كما ذكر: "فطلبت المسير بإحداهما قصدًا للسياحة والتأمُّل بكل ساحة، إذ هي تزيد اليقين ويتأكد بالنظر لعظمة القدير المبين"[4].
وقد بدأت الرحلة في أوائل جمادى الأولى سنة 1282 هجرية؛ وحينما وصلت السفينتان للمحيط الأطلسى هبَّت عاصفة قوية، وحملتهما إلى بلاد بعيدة تبين بعد ذلك أنها "ريو دي جانيرو"[5] عاصمة دولة البرازيل في ذلك الوقت.
وهناك قرَّر الشيخ البغدادي أن يبقى في البرازيل بقصد تعليم المسلمين "وهناك تركت البوابير لأجل تعليم المسلمين الذين بهذه البلاد مقيمين محتسِبًا لوجه ربِّ العالمين"[6].
أول لقاء للشيخ مع المسلمين في البرازيل
يروي الشيخ البغدادي أول لقاء له مع المسلمين في مدينة ريو دي جانيرو فيقول:
"في اليوم الذي وصلت فيه البوابير إلى ريو دي جانيرو أجرت نظامات الدول من إطلاق المدافع النارية وإظهار الشنان للعساكر الشاهانية، وفي اليوم التالي خرجت ضباط العساكر الإسلامية للتفرُّج على هذه البلدة السنية وكذلك الداعي؛ فلما وافيت الأسكلة وشاهدت الصور والأمثلة، فإذا برجلٍ من السودان قدِم عليَّ وأشار بقوله "السلام عليكم" إليَّ وخصَّني بها من دون القوم بالتعظيم لأن لباسي مشتمِلًا على العمامة والهيئة الرسمية وفيه الإشارة العلمية، وبما أن لباسه لباس طوائف الأفرنجية ما رددت عليه هذه التحية وظننت أنه تعلمها للاستهزاء وخاطبته بالعربي والتركي فما فهم ولا بالإيماء بل تكلم بلغة البرتكزية، فَسِرت وما ألقيت له بالي لِما غلب على ظني أنه مستهزيء بالكلية".
"فتفرجنا في ذلك اليوم -على بعض ما سأذكره وإليه أُشِير- ورجعنا في المساء إلى البوابير، كل مِنَّا بالسلامة قرير؛ لأننا لاقينا في الطريق نوعًا من الشدة والضيق، وبعدها وردت متفرِّجوا الإفرنج من كل فج عميق، وأذن القماندار لهم بالتفرُّج، وأعد ذلك من مكارم دولتنا العلية وقصدًا لإشهار فضلها ولو كانت عن ذلك غنية"؟
"فدخل أمم لا تحصى ومن جملتها بعض من السودان، وحين دخولهم كل منهم يبادر بالسلام ويقول "إيو مسلم"[7] فما فَهِم أحد من ضباط العساكر ما قال؛ لأنه ليس فيهم من يتكلم بالبرتكيز بل يعرِفوا لغتي الفرنسيس والإنكليز، فخاطبوهم بهما فما فهموا ما خوطبوا ومكثوا قليلًا وذهبوا".
"وبعد أن قل المتفرِّجون بمدة قليلة؛ جاء من هذه السودان شرذمة جليلة وتكلموا مثل الكلام الأول وقعدوا عندنا إلى وقت الظهيرة، فقمنا إلى أداء ما فرض الله تعالى علينا، فقاموا جميعاً وتوضأوا وصلوا مثلنا، فتحققنا أنهم مسلمون ولواجب الوجود يدينون، فأخذنا لذلك العجب وتمايلنا من الطرب! وأظهرنا لهم الإكرام وحُسن الالتفات التام".
في مساء هذا اليوم؛ طلب المسلمون الإذن بالإنصراف، وعادوا في بعد ذلك ومعهم مترجم يجيد اللغتين العربية والبرتغالية، لاحظ الشيخ البغدادي أنهم حاسري الرؤوس وكان ذلك يعد نقصًا في المروءة في ذلك الوقت ومع ذلك أظهر لهم البشاشة، وقام بواجبهم بكل احترام، وقام بعمل اجتماع ليتعرَّف على أحوالهم فأخبره هذا المترجم أن هؤلاء العبيد جُلِبوا من إفريقيا قبل 60 عامًا وكانوا أسرى للحروب التي وقعت في ذلك الوقت بين الممالك الإفريقية، وأنه تم جلب أكثر من 50 مليونًا إلى الأمريكتين.
ذكر الشيخ البغدادي على لسان المترجم:
"والمسلمون منهم طائفة قليلة غير أن قلوبهم بالجهالة عليلة؛ لأنهم خرجوا من بلادهم صغار ما فيهم من تعلَّم دين النبي المختار، ولما شاهدوكم زاد بهم الفرح وزال عنهم الترح، ومرادهم أن تذهب معهم إلى دُورِهم وتنظر في أمورهم، كي يتعلَّموا منك اللازم من الدين وتطمئن قلوبهم عن يقين".
كانت هذه دعوة صريحة من المسلمين للشيخ البغدادي لكي يصحبهم ويتعرَّف على أمورهم ويُعلِّمهم مبادئ الدين ويطمئنوا على إسلامهم، ولذلك طلب الشيخ من القماندار الإذن بالذهاب معهم بعد أن شرح له قضيتهم، فأذِن له واعتبر هذا الطلب من المسلمين دليلًا على ثبات الإسلام في صدورهم، وطلب منه أن يطلب منهم صالح الدعاء له، وكان الإذِن يتطلب أن يبقى معهم الشيخ لأيام قليلة يعود بعدها للسفينة حتى تستمر رحلتهم مرة أخرى.
ملاحظة ودراسة واقع المسلمين
لقد بدأ الشيخ البغدادي يُسجِّل ملاحظاته حول سلوكيات المسلمين؛ حتى يستطيع أن يُشخِّص أمراضهم ومن ثم يجد العلاج الناجع، وقد تبيَّن له أنهم شديدي الجهل "رأيت من جهلهم ما يُبهِر الأفكار"، وخلال هذه الفترة لفت انتباهه أمرين، الصلاة والمترجم.
أولًا: الصلاة
لاحظ أنه حينما صلى بهم المغرب وعند قيامه لأداء السنة اقتدوا به؛ فطلب منهم أن يصلوا فرادى ففعلوا، يقول فرأيت الرجل منهم بعد أن ينوي تكبيرة الافتتاح قائمًا يميل مرة لليمين ومرة للشمال ويسجد للأرض لاثمًا بلا ركوع ولا سجود ولا قراءة ويُكرِّر ذلك ما شاء بدون الجلوس الأخير فارِشًا للرمل الأبيض -عِوض الحصير- ويخرج منها بدون سلام ويقول ما يريد فيها من الكلام متوشِّحًا بوِشاح أبيض وبعضهم أزرق وإذا ضايقه البلغم أعد كاسة بها بصق.
ثانيًا: المترجم
لاحظ أن الناس يُعظِّمون ذلك المترجم، ويستفتونه في كل صغيرة وكبيرة، فتشكَّك أن يكون هو الذي عَلَّمهم هذه الطريقة الخاطئة في الصلاة، فسأله الشيخ عن دينه، فقال المترجم إنه مسلم ولكنه خرج من بلده وهو صغير السن وليس لديه الكثير من العلم والمعرفة بالدين، ومع ذلك فهو أعلم من هؤلاء المسلمين المتابعين له.
ومما زاد شك الشيخ البغدادي في هذا المترجم؛ أنه قال له أنهم في بلاد الأجانب ولا يقدرون على أداء الفرائض، وضرب مثالًا على ذلك: أنه في رمضان الماضي اكتفى بصيام 15 يومًا من رمضان لشدة الحرارة وأنه ليس عليه ذنب ولا لوم ولا يجب عليه إعادة الصوم! هذا الكلام جعل الشيخ يتأكد أن ذلك المترجم يُخفي شيئًا عظيمًا "فتعجبت من خلطِ جوابه، ونفرَ طبعي منه لتزويق إرابه".
تعامل الشيخ مع هذا الواقع بشيءٍ من الحكمة، ومن خلال دراسة الخطوات التي اتخذها معهم لبيان الحق وتعليمهم أصول الدين يتبيَّن لنا أننا أمام عالِم وداعية من طراز فريد؛ إذ لم يُنكِر عليهم صراحةً أفعالهم ولا على هذا المترجم، وذلك خوفًا من نفورهم وكسر خواطرهم، بل استحسن ما عملوه، وطلب من المترجم أن يطلب منهم الاقتداء بأفعاله.
استجمع الشيخ البغدادي فكره وحواسه، ورأى ضرورة أن يبدأ معهم بأمور العقيدة قبل تعليمهم الوضوء والصلاة، وكذلك لم يظهر لهذا الترجمان أنه اكتشف أمره لأنه محتاج إليه لترجمة ما سيقوم به من أمور التعليم يقول الشيخ "ثم ضربتُ أخماسٍ في أسداسٍ وجمعت فكري والحواس، أني إذا التفت إلى تعليم القوم كيفية الوضوء والصلاة والصوم، فاتني تعليمهم الفرض الأعظم الذي هو على كل فرض مقدَّم، وهو معرفة واجب الوجود والقِدَم، وكذلك إن أظهرت للترجمان ما تحققته من الزور والبهتان عدمته لأني محتاج إليه في مادة اللسان كيف وقد فهمت أنه ليس في هذه البلاد غيره يرتجى في الترجمة خيره، فكتمت سري وطلبت المعونة ممن يعلم أمري، وبدأت أولًا في التكلم على معرفة الباري المتعال المنزَّه عن النظير والمِثال".
واستمر الشيخ البغدادي على هذا الحال ثلاثة عشر يومًا يصل الليل بالنهار، ويُكرِّر مجالس الوعظ، ويُزيِّن دروسه بذكر صفات المولى سبحانه وتعالى ومحاسن النبي محمد صلوات ربي وسلامه عليه، وكانت هذه العملية تتم في دار كبيرة استأجرها المسلمون لهذه الغاية، وواضح أنهم لم يُطلِقوا عليها اسم "مسجد" لتخوُّفِهم من الدولة ورقابتها الصارمة ضد أي مظاهر إسلامية في ذلك الحين.
بعد هذه المدة تبيَّن للشيخ من خلال فهمه وفراسته أن كلامه ووعظه لم يُغيِّر شيئًا من سلوك المسلمين، فرد هذا الأمر إلى أمرين، الأول إما أن يكون هذا المترجم لا يحسن التكلم باللغة البرتغالية ولا يستطيع ترجمة هذه الأمور العلمية، أو أن يكون المترجم قد فهم مقصود الكلام ولكنه بدَّل وحرَّف فيه كما يشاء وهذا الاحتمال هو الذي تحقق الشيخ منه بعد أن أتقن اللغة البرتغالية.
لم يُعِر الشيخ القضية الاهتمام اللازم لأنه كما قال "ولكن لعلمي أن هذه المدة قصيرة ولستُ من أمري على بصيرة، قلت ما بيدي حيلة أكثر مما أظهرته ولا أقدر على زيادة مما أبديته، ولا أعلم لسان القوم" وطلب منهم الإذن وعاد مرة أخرى للسفينة، مع وعد لهم بأن يعود مرة أخرى.
تأثَّر الشيخ البغدادي تأثرًا شديدًا بواقع المسلمين المؤلم، ولدى وصوله للسفينه استقبله القماندار وكان مشغول البال عليه، ودار بينهما حوار طويل بدأه القامندار بالعتب عليه أنه قد تأخر كثيرًا وطلب منه أن لا يذهب مرةً أخرى لهؤلاء المسلمين، وعلَّل ذلك بأمرين، الأول أنه توجد اتفاقيات بين الدول تمنع التدخل في الشؤون الداخلية، ولو علِمت دولة البرازيل بما قام به الشيخ لحدثت أزمة بينها وبين الدولة العثمانية ويكون القماندار هو المسؤول، والثاني أن المسلمون في البرازيل يكتمون إسلامهم وقد عرف رُبَّان السفينة ذلك من خلال سؤاله لبعض الإنجليز، وأن السلطات الحاكمة تعتبرهم نصارى.
هذا الحديث لم يمنع الشيخ البغدادي أن يصف ما رأى وشاهد ويترك لقائد السفينة أن يُفكِّر في الأمر جيدًا، فالموضوع يتصل بأخوة له في الدين سيطرت عليهم الجهالة وهم بحاجة إلى من يعلمهم قال الشيخ:
"فقلت إن ما ذكرت قرين الأصول فاسمع ما أقول: إن هذه الأهالي غلبت عليهم الجهالة وهم منها في أسوأ حالة، وشرحت له بعض ما شاهدت من صلاتهم وما هم فيه".
هذا الحديث أثَّر في رُبَّان السفينة ولكنه وقع بين نارين إن سمح للشيخ بالبقاء على أرض البرازيل؛ لم يسلم من اللوم من الدولة العثمانية، وإن لم يسمح له يخشى من بطش المولى سبحانه وتعالى، وصعوبة الجواب يوم القيامة إذا ما سئل عن هؤلاء المسلمين، وخصوصًا أنهم أول من التقى بهؤلاء المسلمين وعلِموا ما هم عليه من الفساد والتحريف، والواجب يملي عليهم أن يقوموا بعملية الإصلاح، وظل النقاش مستمرًا والتفكير في هذه القضية يستحوذ عليهم مدة ثلاثة أيام، وأوكلوا الأمر إلى الله سبحانه وتعالى.
كان المسلمون قد نفذ صبرهم وقرَّروا العودة إلى السفينة ومقابلة رُبَّانِها والحديث معه مباشرة وإقناعه بضرورة بقاء الشيخ البغدادي معهم، وفعلًا جاء وفد كبير منهم ومعهم مترجم آخر يُجيد الإنجليزية والبرتغالية وقالوا له "نحن ما نريد منكم حطام ولا نبغي حماية ولا عن أنفسنا وقاية، فقط نريد منكم التعليم لهذا الدين المستقيم، لأننا كنا نظن أنه ليس في الدنيا سوانا مسلمين... وأننا على الطريق المبين، وأن جميع البيضان هم طوائف الخرستيان، إلى أن منَّ الله تعالى ورأيناكم فعلِمنا أن ملك الباري واسع، والدنيا ليست بلاقع بل معمورة بالمسلمين فلا تبخلوا علينا بتعليم هذا الدين، وإن قلتم لنا هاجروا إلى بلاد الإسلام وتعلَّموا الصلاة والصيام نقول إن علينا من الشروط من كل أمر منوط، إن من هاجر مِنَّا بنفسه يخرج من حطام الدنيا وما خوَّله لنفسه ويتركه للدولة خالصًا ولا يكون في إعطائه حائصًا، وهذا مما يصعب على النفوس حيث هذه البلاد صارت لنا وطنا مأنوس، فاعمل معنا هذا المعروف وأنقذنا من هذا الأمر المخوف، واسمح لنا بالباباز بوجه الانجاز ودعوا له بصالح الدواعي".
كانت هذه الكلمات كافية لتحريك مشاعر رُبَّان السفينة للاستجابة لطلب المسلمين، فقد أوضحوا أنهم لا يريدون شيئًا من حطام الدنيا وأنهم لا يطلبون الحماية، وكل ما يحتاجونه أن يتفقهوا في دينهم، وواضح من أقوالهم أنهم كانوا يعرفون مفهوم الهجرة، غير أنهم كانوا يعتبرون أنفسهم مواطنون برازيليون، وهذا يدل على سعيهم لتوطين دعوة الإسلام في البرازيل، كذلك كان الكثير منهم ما يزال تحت العبودية لأنه كان يدفع مستحقات حريته لسيده.
أرسل القماندار واستدعى الشيخ الذي رأى المسلمون فاستخبر عن أمرهم فأخبره قائد السفينة بما دار بينهم وخيره بين البقاء مع المسلمين أو السفر وجعل القرار النهائي له، لم يتردد الشيخ البغدادي لحظة واحدة وهكذا عهد العلماء فقال "أذهب معهم وأبذل نفسي ولو لاقيت رمسي وأطلب بذلك رضاء الله وأساله التوفيق لما يحبه ويرضاه".
وطلب من المسلمين حمل أمتعته وكتبه، لقد تحرَّكت مشاعر العالِم الصادق، والداعية الحريص على هداية الناس، وهو يعلم علم اليقين أن هناك مخاطرة كبيرة لبقائه في البرازيل، لأن أمر الإسلام مستتر عن العيون، ولو علمت الحكومة البرازيلية في ذلك الحين أو شعرت بأي مظاهر إسلامية يكون جزاء صاحبها الإعدام أو الحبس أو النفي، لقد أعلن الشيح البغدادي أنه ماضٍ في طريق الدعوة حتى لو قدَّم نفسه رخيصة إذا كان العوض هو نيل رضوان الله تبارك وتعالى.
كانت هذه ليلة الوداع بين قائد السفينة والشيخ البغدادي "وفي هذه الليلة سهرت مع جناب القماندار وليس معنا ثالث سوى المنزه عن أن يشبه بحادث"، وطال الحديث بينهما وامتد إلى صلاة الفجر واتفقا على جملة أمور مهمة تدل على وعي شامل من القبطان والشيخ بأمور الدعوة الإسلامية، وكذلك تسهل مهمة قائد السفينة حينما يرجع إلى تركيا بدون الشيخ البغدادي "واتفقنا على الكتمان والقناعة، وأن لا أحمل القوم ما لا يطيقون دفاعه"، هذين أمرين هامين في الدعوة إلى الله وخصوصًا في الظروف التي كان يمرُّ بها المسلمون في البرازيل كانت تقتضي الكتمان حتى لا يُفضَح أمرهم وتقضي الدولة عليهم قضاءً تامًا، وكذلك عدم حدوث أزمة بين حكومة البرازيل والدولة العثمانية بسبب وجود الشيخ البغدادي، والأمر الآخر أن يُيسِّر الشيخ الأمور الدعوية وأن يكون خفيفًا عفيفًا مع هؤلاء المسلمين.
من جانبه وحتى تسير الأمور بشكلٍ طبيعي أمام الحكومة البرازيلية؛ قام قائد السفينة بإرسال رسالة إلى الحكومة البرازيلية يُبيِّن فيها أن الشيخ البغدادي خرج متفرِجًا على بلدة "ريو دي جانيرو" وقد أُعجِبَ ببساتينها وجمال مبانيها، وتأخر في العودة إلى السفينة، وأنه على عجلة من أمره ولا بد له من الرحيل، فجاء جواب الحكومة البرازيلية بأنه يستطيع الرحيل ومتى عثروا على الشيخ البغدادي سيرسلونه مكرَّمًا على أول سفينة، وبهذه الطريقة أمَّن قائد السفينة نفسه وكذلك العلاقات بين الدولتين من أن تُصاب بانتكاسة ويكون هو السبب في ذلك.
استقبل المسلمون الشيخ البغدادي بالفرح والسرور، وكان الشيخ قد بدأ في رسم خطة لملامح العمل الدعوي والتحرُّك وسط الجالية المسلمة خلال الفترة القادمة، فما هي معالِم هذه الخطة؟ وكيف تعامل الشيخ مع المشاكل المختلفة التي كانت تمرُّ بها الجالية؟
هذا ما سنعرِفه في الحلقة الرابعة بإذن الله.
ــــــــــــــــــــــ
[1]- (عبد الرحمن بن عبد الله البغدادي الدمشقي، ولد في مدينة بغداد ثم انتقل إلى مدينة دمشق، ومنها إلى عاصمة الخلافة العثمانية حيث عين إمامًا للبحرية العثمانية من قبل أمير البحر في ذلك العهد محمد صالح آتيش باشا، لم تتوفر لدي معلومات مفصلة عن الشيخ عبد الرحمن البغدادي غير التي ذكرها في مخطوطته).
[2]- (مخطوطة للشيخ عبد الرحمن البغدادي سمَّاها "مسلية الغريب بكل أمر عجيب" يروي فيها رحلته من إستنبول وصولًا إلى البرازيل، ومدة الثلاث سنوات التي قضاها هناك بين المسلمين، وعودته إلى مكة ثم الشام ونهاية بإستنبول مرة أخرين والمخطوطة موجودة في مكتبة برلين وتُعَد من أدب الرحلات).
[3]- (السلطان عبد العزيز بن الخليفة محمود بن عبد المجيد تولى الخلافة 1277هـ وعُزِلَ منها 1293هـ، قام بالعديد من الإصلاحات في الدولة العثمانية وطور الجيش والأسطول البحري العثماني ليُصبِح ثالث قوة بحرية في ذلك الوقت، ورفض كافة الدساتير الأوروبية، هذه التغيرات التي لم ترق إلى الغرب فقاموا بتشويه صورته، فتم العمل على عزله ثم اغتياله بعد ذلك).
[4]- (مخطوطة مسلية الغريب).
[5]- مدينة ريو دي جانيرو "نهر يناير"، تم تأسيسها عام 1565م، ويبلغ عدد سكانها 13 مليون نسمة، العاصمة السابقة لدولة البرازيل بعد أن كانت باهيا العاصمة الأولى، من أجمل مدن العالم وتقع على المحيط الأطلسي).
[6]- (مسلية الغريب).
[7]- (هذه كلمة باللغة البرتغالية "Eu Muslim" وتعني "أنا مسلم").
- التصنيف:
- المصدر: