تذكرة (ذهاب) بلا (عودة)!

منذ 2014-03-28

أما آن الأوان لكِ يا نفسي أن تتوبي توبةً نصوحًا؟

(مَـدخـل):

يا مُقيماً قد حَان منه رحيلُ *** بعدَ ذاكَ الرحيلِ يومٌ عَصيبٌ
إن للموتِ سَكرةً فارتقِـبها *** لا يـُداويك إن أتـتـك طَـبيـبٌ

قبل موعد إقلاع الطائرة بساعات توجهت (أمل) إلى المطار منتظرة للرحلة الفاخرة التي حجزت فيها تذكرة ذهاب بلا عودة لأول مرة منذ أن سافرت إلى تلك البلاد لتعود إلى ديارها بعد سني الغربة المريرة. لكم انتظرت مجيء هذه اللحظة! سنوات وسنوات من العمل والكد وها قد أتت تلك اللحظة التي ستنعم بعدها بالراحة في كنف ذلك البيت الفخم الذي تعبت من أجل تأسيسه.

إن هذا المشهد هو حالنا جميعًا في هذه الدنيا الزائلة ولكن مع اختلاف المشاعر والترتيبات، حتمًا سيجئ اليوم الذي ننطلق فيه بتذكرة (ذهاب) إلى (القبر) بلا (عودة) إلى هذه الدنيا، فالدنيا مهما طالت ما هي إلا مرحلة ونقطة عبور وليست بمستقر كما قال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» (أخرجه البخاري).

ولكن هنا وقفة وتأمل.. هل يا تُرى نحن على انتظار لتلك الرحلة أم إنها ستأتي فجأة لأننا لم نرتب لها؟؟

هل يا تُرى في هذه السنوات عملنا بجد واجتهاد لننعم بعد ذلك بالراحة في دار الخلود؟؟

هل يا تُرى أسسنا (بيتًا جميلًا) نسكن فيه بعد هذه الرحلة الطويلة؟؟ أم إننا على العكس من ذلك تمامًا؟؟

لا نريد (مجاملات) بل نريد أن نصارح أنفسنا بالحقيقة علّنا نقف وقفة مع أنفسنا تكون فيها (نجاتنا).. فلنتخيل أنفسنا عندما تأتينا الرحلة فجأة ويأتي ملك الموت يطرق الباب.. يا له من مشهد يقول عنده المسرف على نفسه: {رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10].

يا الله! معقول سأموت؟؟ لا، لا ما زال هناك الكثير لم أفعله.. إن مت على هذا الحال فما سيكون مصيري؟ يا رب أمهلني قليلًا كي أتزود لهذه الرحلة، ولكن هيهات هيهات فالجواب هو: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11]. وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99، 100].

ويقبض ملك الموت الروح، وتأتي حياة البرزخ في (القبر) وما فيه من سؤال الملكين ثم العذاب أو النعيم فإما أن يكون القبر روضة من رياض الجنة وإما أن يكون قطعة من نار جهنم. قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13، 14].

وفي هذا المشهد تتباين الأقوال فالمؤمن يتعجل قيام الساعة والكافر الفاجر الفاسق لا يتمنى قيام الساعة لما رآه من هول القبر وفظاعته.. لِمَ لم أعمل لمثل هذا اليوم.. أكانت كل هذه السنين قليلة؟ أم هو الهوى والنفس والشيطان؟؟

ويحكِـ يا نفسي عملتِ من أجل ما هو أتفه وتركتِ ما هو (أجلّ شأنًا).. يا لسفاهة عقلي وضعف منطقي!!

هذا المنزل هو أيضًا منزل مؤقت ومع هذا فيه كل هذه الأهوال والشدائد.. فما بالكم بما هو آت؟؟

هو يوم القيامة؛ يوم الحشر؛ يوم الطامة الكبرى؛ {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88، 89]. كل الخلائق مجتمعون، والصحف تتطاير، والنار تزأر، والصراط منصوب، كلٌ له شأنه، لا أنساب ولا معارف ولا أصدقاء، الكل يقول: "نفسي، نفسي، نفسي".

آهٍ منكِ يا نفسي! ماذا قدمتِ لهذا اليوم؟؟ للأسف لم أحجز في رحلة فاخرة كما فعلتُ في الدنيا.. بل رحلتي من أصعب وأشق ما يكون.. العرق ألجمني، والشمس تحرقني، أمشي ببطء، وأزل هنا وهناك وتلسعني النار، وشربة من الحوض ليست من نصيبي.. يا إلهي! ماذا أفعل؟

أتذكر حياتي السابقة: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}.. كم ضيعت من أوقات، وكم سخرت من الدعاة، وكم سوفت التوبة، وكم أملت لنفسي، حتى ظننت أني سأبقى في هذه الدنيا.. وتأتي المرحلة الأخيرة والمنزل الخالد (الجنة) أو (النار)، دارُك وأنتَ وما بنيت:

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها *** إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخيرٍ طابَ مسكنُهُ *** وإن بناها بشرٍ خَابَ بانيها

إما سعادة بلا شقاء، وإما شقاوة وعناء؛ قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ . وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ . يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ . فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ . خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ . وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:103- 108].

بعد كل هذا يا (نفسي) ما هو قرارك؟؟ هل ستتمادين في الغي والضلال؟؟ هل ستبحرين في بحور العصيان؟؟ هل سترمين بنفسك إلى هذه المآسي والأهوال؟؟ أم إنه قد آن الأوان لتعودي إلى ربك وتتوبي توبةً نصوحًا؟؟

(مَـخـرج):

قَـدِّم لنَـفـسِـك تـوبةً مرجوةً *** قبلَ المماتِ وقبلَ حبسِ الألسُنِ
بَادِر بها غَلق النفوسِ فَإنهَا *** ذُخـرٌ وغـنمٌ للـمُنيـبِ المُـحسنِ