فليعدوا للحصار ساحات في لندن وباريس

منذ 2008-02-04

ولعل هؤلاء قد ظنوا أنّهم بقتل أعداد من الأمة سوف يلحقها الفناء شيئاً فشيئاً، ولكن لا أدري هل يدركون أنّ أمة الإسلام ليست هي المليون ونصف الذين في غزة، بل هي تقارب اليوم المليار ونصف المليار؟


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أمّا بعد:

{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [سورة النساء: 76]، حقيقة قررها الله عز وجل في كتابه، ولذلك تجد أنّ كيد أوليائه مكرر ومعاد، ولا يتعلمون من الدرس، وأنّ كل كيد أولياء الشيطان ينقلب عليهم بشرط صبر المؤمنين وتقواهم {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [سورة آل عمران: 120]، ومن أمثلة ذلك سلاح الحصار ـ ذلك السلاح الإبليسيّ ـ الذي يجاوز في ظلمه وطغيانه كل حدود العقل والمنطق والإنسانية المزعومة، والذي لا يدانيه سلاح في ظلمه وبغيه إلاّ سلاح ذبح الأطفال بالسيف، ذلك السلاح الذي استخدمه فرعون مع بني إسرائيل يوم أن كانوا هم حملة لواء التوحيد؛ فعجَّل الله له العقوبة في الدنيا وأماته شر ميتة، وكان من شدة ظلمه أن جبريل ـ عليه السلام ـ لم يكن يحب له أن يتوب حتى لا تـُغفر له هذه الجرائم، فكان يدس في فمه من طين البحر حتى لا ينطق بكلمة الإسلام عند الغرغرة، وكانت العقوبة الإلهية قد سبقت بالطمس على قلبه فلم يتكلم بالإيمان إلاّ بعد الغرغرة فذهب إلى النّار وبئس المصير.

وأمّا سلاح الحصار فقد استـُخْدم عبر تاريخ الصراع بين الإسلام والكفر، وكانت أبرز أمثلته وأفجعها تلك التي كانت من مشركي قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين، ولبني هاشم وبني المطلب مؤمنهم وكافرهم، حتى يجبروهم على تسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت بنودها في غاية الصرامة فقد جاء فيها: "ألاّ ينكحوا منهم ولا يـُنكـِحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سبباً من أسباب الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحاً ولا تأخذهم بهم رأفة، ولا يخالطوهم ولا يجالسوهم ولا يكلموهم ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل".

واستمر هذا الحصار ثلاث سنوات ولكنها لم تمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن ينزل إلى مكة لدعوة العرب إلى الإسلام، ولم تمنع أبا طالبٍ ـ على كفره ـ أن ينزل إلى مكة لكي يهجو الذين اتخذوا قرار المقاطعة، حتى قيض الله لها من سعى في نقضها رغم كفرهم، وفي ذات الوقت أرسل عليها جنداً من جنده، أرسل عليها الأرضة فأكلتها، فـَفـُكّ الحصار، والحمد لله رب العالمين.

ولنا على هذا الحصار وعلى غيره من الحصارات، ومن آخرها الحصار الإسرائيلي لغزة عدة وقفات:

1- دخل بنو هاشم وبنو المطلب في الحصار، وتحمل فيه أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كبر سنه المشاقّ، وذلك ليعرف الجميع أنّ القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ففتح قلوب البعض للإيمان، بينما أعطى البعض رغبة وإصراراً على الدفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم بمحبة ألقاها الله له في قلوب معظم الخلق لاسيما عمه أبو طالب.

2- استمر الحصار ثلاث سنوات، بينما لا نكاد نتحمل نحن الحصار على إخواننا ثلاثة أيّام، وهذا مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أشد النّاس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه» [رواه البخاري]، فكانت التربية العظيمة لهؤلاء الذين غير الله بهم وجه الأرض.

3- قاد الحصار أبو جهل وأبو لهب وغيرهما، وهم أنواع من البشر بلغوا في الطغيان مبلغ فرعون وهامان؛ ولذلك تجاوزوا ما عرف به العرب قبل الإسلام من الكرم والشجاعة ونجدة الملهوف، وأعمى الحقد الأسود قلوبهم رغم أنّ الجهاد لم يكن قد شرع للمسلمين بعد، ممّا يدل على أنّ هذه النوعية لا تطيق أن ترى موحـِّداً على وجه الأرض وإن لم تكن بينه وبينهم مواجهة شاملة.

4- كان معظم قريش رافضين لهذا الحصار الجائر، ولكنهم خافوا من القاعدة الفرعونية الشيطانية "من ليس معنا فهو علينا"، كما يدل على ذلك قصة سعي المطعم بن عدي وغيره في نقض الصحيفة.

5- كان الحصار سبباً في انتشار دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في أنحاء الجزيرة العربية، حيث كان المشهد يبعث على الفضول والسؤال: ما لقريش وقد خلعت عنها رداء الإنسانية وارتدت ثياب الذئاب والثعالب؟! وما لبني هاشم يجوعون وتجوع نساؤهم وتموت أطفالهم جوعاً وهم مع ذلك صامدون؟!

كل هذه الأسئلة طارت بها وفود العرب من موسم حج إلى آخر، كل هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشـِعـْب لم يبرح مكانه ولله في خلقه شئون، وكذلك كان هذا الحصار الأخير على غزة سباً في أن يسمع رجل الشارع الأوروبي والأمريكي عن غزة ـ الذي كان منذ سنوات قليلة لا يعرف أين تقع فلسطين فضلاً عن غزة ـ فإذا به يخرج في مظاهرات لوقف الوحشية الصهيونية على غزة.

6- المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، لا يحبون من كفر بالله {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [سورة المجادلة: 22]، ومع ذلك فيبقى الكفار ثلاثة أقسام:

- قسم كفر وصد عن سبيل الله: فذلك سبيله سبيل فرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب وشامير وشارون ـ عليهم لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين ـ، ومن غابت عنه نهاية فرعون فعنده نهاية شارون ما زالت لم تنتهِ بعد؛ ليعرف أنّ لعنات المسلمين تصيب في مقتل ولو بعد حين.

- وقسم آخر: نظل على دعوته إلى الله دون أن ندعو عليه باللعنة التي هي الحرمان من الهداية والموت على الضلال، بل نظل حريصين على دعوته للنهاية.

- وقسم ثالث: له على المسلمين يد نكافئه بها ـ إن استطعنا ـ دون حب ولا موالاة، ومن هؤلاء أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، الذي تمنى صلى الله عليه وسلم هدايته ولكن لم يقدِّر الله له ذلك، ولكنه لم يصله من المسلمين أذى حياً ولا ميتاً، ومنهم المطعم بن عدي الذي سعى في نقض الصحيفة، والذي دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في جواره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما نصره الله في بدر: «لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» [رواه البخاري].

وإذا كان هذا مع الكافر فمن باب أولى مع المسلم المقصر، أو الذي لا يتبنى المشروع الإسلامي، فمن سعى من هؤلاء لرد الظلم عن مسلم فلا شك أنّ الأمة لا تقف منه موقف المشارك فيه أو المـُعـْرِض عن إزالته.

7- تكرار استعمال سلاح الحصار من الكفار ضد المسلمين يدل على أنّهم يتصورون أنّ المسلمين مثلهم عبيد لبطونهم وفروجهم، أو على أحسن الأحوال لأموالهم وأهليهم، ونسوا أنّ من الأمة امرأة فقدت وليدها فكفكفت دموعها وتزينت لزوجها لتصبره، فرُزقا في ليلتهما بذرية مباركة ببركة هذا الصبر وببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.

ونسوا أنّ من الأمة من خرج للجهاد بعد أن بنى بامرأته ـ ولم يكن قد جامعها ـ ثم يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يلقي على عروسه نظرة قبل المعركة، ولكنها كانت قد رأت رؤيا، أنّ زوجها سوف يموت في هذه المعركة شهيداً، فأصرت على أن يجامعها رجاء أن ترزق منه بمولود سيكون حتماً يتيماً، ولكن مرحباً باليتيم مادام سيكون ابناً لشهيدٍ وقد كان، ونادى المنادي للجهاد وخرج الزوج من غير غسل فنال الشهادة، وغسلته الملائكة، وصار غسيل الملائكة، وكانت نطفته قد علقت حملاً في رحم امرأته، ثم كان ذلك الحمل عبد الله بن الغسيل الذي بارك الله فيه، وفي حفظه للقرآن، وفي أولاده أحفاد الغسيل الذين حفظوا القرآن، ونعمت الأم والجدة فيما بعد بزوجها الغسيل وابنه ابن الغسيل وأحفاده أحفاد الغسيل.

ومنّا امرأة بـُشرت في غزوة أحد بموت أبيها وأخيها وزوجها وهي ـ مع ذلك ـ تسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قيل لها هو بخير قالت: "كل مصيبة بعده جلل".

هل نسي هؤلاء الكفار هذه النماذج أم يذكرونها؟! ولكنّهم في ذات الوقت يتصورون أنّ الأمة لم تعد تعرف عنهم شيئاً، وأنّها لا تعرف إلاّ الرقص والغناء أو الكرة على أحسن الأحوال، ولكن خاب ظنهم فرغم انتشار سمومهم في العالم الإسلامي إلاّ أنّ الأمة ما زالت موصولة بفضل الله بماضيها المشرق.

8- ولعل هؤلاء قد ظنوا أنّهم بقتل أعداد من الأمة سوف يلحقها الفناء شيئاً فشيئاً، ولكن لا أدري هل يدركون أنّ أمة الإسلام ليست هي المليون ونصف الذين في غزة، بل هي تقارب اليوم المليار ونصف المليار؟

هل يدرك هؤلاء أنّ شباب المسلمين يتزوجون متى استطاعوا الباءة رغم جهود المفسدين في الدعوة إلى تأخير سن الزواج؟

هل يدركون أنّ المسلمين لاسيما في البلاد التي تترمل فيها زوجات الشهداء يتزوجون مثنى وثلاث ورباع؟

هل يدركون أنّه رغم الجهود المضنية في الترويج لدعوة تحديد النسل فإنّ المسلمات ينجبن ما بقيت فيهن قدرة على ذلك؟

هل يدركون تلك العجيبة من عجائب التدبير الإلهي أنّ أرحام المسلمات في غزة قد كثرت فيها التوائم ـ بفضل الله ـ؟

وقبل هذا كله، هل يدركون أنّ الإسلام دين عالمي ليس قاصراً على العرب، وأنّ إخواننا الذين يدخلون في دين الله أفواجاً عددهم في تزايد بفضل الله عز وجل في تل أبيب نفسها فضلاً عن كل بقاع الدنيا وكل قاراتها؟

وإذا كان شيطانهم لم يجد لهم حيلة في مواجهة الإسلام إلاّ الحصار، فليعدوا ساحات لحصار المسلمين في لندن وباريس وروما ونيويورك وواشنطن، أو فليعدوا ساحات يحرقون فيها أنفسهم كمداً على انتشار الإسلام رغم كل ما يبذلون في محاولة إيقافه، كما فعل ذلك القس الألماني الذي أحرق نفسه وصدق الله تعالى إذ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة الأنفال: 36-37].


كتبه الشيخ د.عبد المنعم الشحات

موقع صوت السلف
www.salafvoice.com


المصدر: صوت السلف

عبد المنعم الشحات

أحد المشايخ البارزين بمسجد أولياء الرحمن بالاسكندرية للدعوة السلفية و منهجه منهج أهل السنة و الجماعه و سلف الأمة من الصحابة و التابعين لهم باحسان