حاجة الأمة اليوم إلى التوكل على الله
قال الله تعالى عن نفسه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}، وقال أيضا سبحانه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ}
كثيرا ما أتساءل عن السبب الدقيق وراء تنكب قسم من الناس لأحكام
الشرع، ولا سيما التي تحدد مسار الأمة في القضايا العامة، يفعلون ذلك
بالرغم من وضوح الطريق الشرعي لهم، وإدراكهم أنه الحق، ثم يؤثرون عليه
غيره من متاهات الكفر والضلال.
والأمثلة على هذا الداء للأسف كثيرة منها: ما يحصل في فلسطين من تجاذب
يمثل أحد أطرافه هذا التنكب؛ إذ يختارون بكامل قواهم العقلية أن
يتخبطوا في وعود إسرائيل السرابية الكاذبة، وينجذبون إلى مشاريع
أمريكا انجذاب الفراش إلى النار، فهم كمن يستجير من الرمضاء بالنار!
ولا أدري لمِ َ لا يتوجهون إلى الطريق المَهْيَع، والسراط
السوي؟
ثم لا أجد سببا في ذلك غيرَ ضعف التوكل على الله، وقلة الثقة بوعده
والعياذ بالله. تَكْبُر في أعينهم تلك القوى البشرية الضالة المضلة،
فيلجؤون إليها ويفرطون بالمقدسات والحقوق التي لا يملكونها، ويستهينون
بقدرة المسلمين المعتمدة على الله سبحانه، بل إن منهم من يسخر بتلك
المساعي، وينعتها بالخيالية والمثالية. فيا لخَطورة موقفهم عند الله
وصالح المؤمنين!
لم ْ يُجانب الصوابَ قطعا مَنْ ردّ داءَ الأمة العام إلى ضعف العقيدة
في النفوس، ولا يجانبه من يقول إن ضعف التوكل على الله تحديدا، هو سبب
جلّ التخاذل الذي ابتلي به كثير من الناس؛ فلم تعد معاني الإيمان
بقدرة الله تعالى المطلقة، وأنه كافي عباده وحسيبُهم. لم تعد تشغل في
النفوس المكان المكين بالرغم من أنهم يتلون قول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ} [البقرة: 20] وقوله سبحانه {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن
يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] وقوله جل ثناؤه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ
مَخْرَجاًّ . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ
أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق
: 2، 3] وهم يسمعون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما
يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا».
ولما ضعف تأثير التوكل على الله في النفوس نجمت عن ذلك آثار مؤسية
موهنة، ولما كان معنى التوكل من المعاني الكلية فقد عظمت آثاره
وتعددت؛ فتجد منها في الجانب السياسي كما أسلفت، وتجد كذلك في الجوانب
السلوكية الأخرى الدالة على انحراف عن الإيمان، ومن ذلك المسارعة
المحمومة على طلب الرزق، وأحيانا سلوك الطرق المحرمة في الكسب أو سبلا
مهينة للنفس. وما أحوجَهم إلى تدبر آيات الرزق فهو سبحانه مقسم
الأرزاق.
ومن الآثار الْمَعِيبة الناجمة عن غياب التوكل على الله أيضا
اللجوء إلى السحرة والمشعوذين في حال وقوع الضر أو المكروه، أو
لتخوفهم من المستقبل، بالرغم من التوجيهات الشرعية الواضحة في
ذلك.
وقد طبع ضعفُ التوكل على الله أناسا بطباع غريبة عن صفات المؤمنين،
منها النفاق وتملق مَنْ يتوهمونه ممسكا بالمصالح، كالوظائف والمناصب
والامتيازات؛ خلافا للمعتقد أن الله هو جالب النفع ومانع الضر: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي
المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ
مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران : 26] وليس بعيدا عن هذا ما
أصيب به كثير من المسلمين من ضعف الهمة والتثاقل عن المعالي.
ولا يَعْزُب عن البال أيضا تلك
الأمراضُ النفسية التي توهن بعض الناس ممن ضعف عندهم التوكل على الله
فتقوى في نفوسهم الأوهام والأفكار السيئة والهواجس والقلق.
ولو أجرينا بيننا وبين سلفنا الصالح مقابلة وبضدها تتبين الأشياء وهم
الذين تمثلوا معنى التوكل على الله فكان الله حسبَهم فحققوا ما حققوا،
ولربما عدّه البعض لولا التحقق مستحيلا؛ إذ كيف تمكنوا في تلك الفترة
القياسية من عمر الزمن أن يفتحوا تلك البلدان، ويقهروا ويدوخوا تلك
القوى والممالك المتجبرة بوسائلهم البسيطة وإمكاناتهم المادية
المتواضعة؟ فلولا تميزهم بتلك المعاني العقدية ومنها التوكل على الله
واستمداد العون منه واستحضار عظمة قدرته وصدق وعده لولا ذلك لما صغرت
في أعينهم تلك المهام الجسام، ولما هانت في نفوسهم تلك القوى المادية
الطاغية، بالرغم من كل البهرجة والصولجان، ولله درُّ ربعي بن عامر في
موقفه أمام رستم قائد الفرس بتلك الكلمات التي ما زالت تدوي بها جنبات
التاريخ؛ أنّى له كل ذاك الاعتزاز والثقة والاستعلاء بالحق؟ لولا أنه
استحضر عظمة خالقه ودينه.
ولا يفوتني في نهاية هذه العجالة أن ألفت إلى أن التوكل على الله حق
التوكل لا يعني ترك الأخذ بالأسباب الشرعية أو الواقعية التي ارتضاها
الشرع، فالمعركة يُعدّ له ما يرهب الأعداء أحدث الأسلحة والخطط
العسكرية والاستراتيجية. والسياسة تُدرس فيها أحوال الأمم ومواقفها،
وخططها، وأساليبها، ومتغيراتها، وتنتهج السبل المناسبة معهم وَفْقَ
الضوابط الشرعية. والرزق يسعى له من طرقه المشروعة للكسب، ويحرص
المؤمن فيه وفي غيره على ما ينفعه وهكذا.
وهذا لا يتنافى والتوكل على الله، ولم يجد سلفنا الصالح إشكالا في
تمثل المعنيين، والإفادة منهما، ووضع كلٍ منهما موضعه؛ فالتوكل كما
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "هو الثقة بالله وصدق التوكل أن تثق في
الله وفيما عند الله فإنه أعظم وأبقى مما لديك في دنياك". وقال الإمام
أحمد: "هو قطع الاستشراف بالإياس من الخلق"، وقال: "وجملة التوكل
تفويض الأمر إلى الله جل ثناؤه والثقة به".
فالتوكل عمل للقلب، ثم تفويض إلى الله واعتماد عليه، لا على أحد سواه،
ولا حتى على قوى الإنسان الذاتية، وأسبابه التي يملكها. وبَوْنٌ شاسع
بين من يعتمد على القوى المادية التي تبقى محدودة أبدا مهما عظمت،
وبين من يعتمد على خالق تلك القوى؛ من بيده ناصية الخلق وملكوت
السموات والأرض.
ثم بعد ذلك يأتي الأخذ بالأسباب التي أُمرنا بها، دون تقصير، أو
تواكل، مع استشعار أنها ليست هي التي تحقق المطلب، أو تنجح المأرب.
ولسان حال المؤمن: {وَمَا تَوْفِيقِي
إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}
[هود: 88].
- التصنيف: