هكذا هي الدنيا! فاحزم أمرك للرحيل

منذ 2014-05-19

كما تتناثر أوراق الخريف تتناثر أوراق التقويم هنا وهناك، تحمل معها خلايا العمر، وكلمات الأفكار، ومشاعر الإنسان.. يوماً من الأيّام كانت تنمو وتكبر، كانت تحلم وتطمح، كانت تعيش اللذّة، وتعاني الألم.. كانت تعيش الرغبة، وتقتحم ميادين العمل.. واليوم وقفت عند حدّها، توقّفت أحلامها، تبدّد طموحها.. بل تحوّل من هنا الصغيرة الضيّقة.. إلى هناك الواسعة الفسيحة.. إلى الفضاء الرحب.. إلى عالم الغيب..

كما تتناثر أوراق الخريف تتناثر أوراق التقويم هنا وهناك، تحمل معها خلايا العمر، وكلمات الأفكار، ومشاعر الإنسان.. يوماً من الأيّام كانت تنمو وتكبر، كانت تحلم وتطمح، كانت تعيش اللذّة، وتعاني الألم.. كانت تعيش الرغبة، وتقتحم ميادين العمل.. واليوم وقفت عند حدّها، توقّفت أحلامها، تبدّد طموحها.. بل تحوّل من هنا الصغيرة الضيّقة.. إلى هناك الواسعة الفسيحة.. إلى الفضاء الرحب.. إلى عالم الغيب..

ما أكثر الذين يتحسّرون على الشباب، ويندبون أيّامه؟! ولكنّني بحمد الله عشت لذّة الشباب، بقوّته وأحلامه، وطموحه وآلامه، وجدّه ما استطعت واجتهاده.. وأعيش اليوم بحمد الله لذّة الشيخوخة بنضجها ومشاعرها، وما اجتمع لها من خبرة الحياة وتجارب الأيّام..

ويتملّكني شعور عارم أنّ نعمة الشيخوخة في طاعة الله مع ما فيها من الضعف والعلل، لا تقلّ عن نعمة الشباب في طاعة الله.. ففيم تشتدّ حسرة كثير من الناس على الشباب الذاهب، وتباكيهم على أيّامه الخوالي؟!

ولست مع أبي العتاهية في قوله:
 

أيا من يؤمّل طول البقاء *** وطول البقاء عليه ضرر
إذا ما كبرت وفات الشباب *** فلا خير في العيش بعد الكبر


إنّه منطق دنيويّ مادّي، يؤسّس للسلبيّة ويدمّر النفس، فخيركم من طال عمره وحسن عمله، كما جاء في الحديث الشريف، وللحياة في الكبر متعة ومباهج لا يعرفها الشباب.

إنّ المشكلة دائماً في الإنسان ومشاعره.. إنّه يشكو ويتذمّر دائماً من حاضره، ويهرب من يومه لأمسه، ومن غده لأمسه.. فمتى يعيش لحظته الحاضرة بالعمل والأمل، والنظر الإيجابيّ إلى المستقبل.. تناثر أوراق التقويم يحمل معه ذكريات جميلة، وأخرى مؤلمة.. فهل نستطيع تحويل الذكريات كلّها إلى ذكريات جميلة؟  نعم! نستطيع ذلك إذا وضعنا في حياتنا "معادل الاحتساب الإيمانيّ".. العمل لله.. الصبر لله.. التعلّق بالله.. ابتغاء الأجر من الله.. الاستعداد للآخرة.

مشاعر الرحيل مؤلمة .! محزنة.. موحشة.. يخفق لها القلب، وتدمع لها العين.. ولكنّها عندما تكون من آلام وأحزان.. من سجن ضيّق.. من حرمان طال أمده.. إلى حبيب طال الشوق إليه.. إلى عالم فسيح، حيث لا ظلم ولا ضرر، ولا همّ ولا كدر.. عندما يعلم الإنسان أنّه على طريق الراحلين.. عندها يكون الرحيل حبيباً.. عندها يقول الراحل:  عجّلوني.. عجّلوني.. يقول: وا طرباه!  غداً ألقى الأحبّه.. محمّداً وصحبه.

ما بين الطفولة والشيخوخة محطّات ومحطّات، ومطبّات في الحياة ومنزلقات، وفتن حالكات، والسعيد من حفّته من الله العناية، وأحاطت به أسوار الرعاية، وأكرمه الله بيقظة القلب والبصيرة، فأوقد العزيمة، وجدّ المسيرة.. واتّعظ بقول الربّانيّين الحكماء من قبله، ووضعه نصب عينيه، وجعله شغله وهمّه:
 

لا تعجبن من هالك كيف هلك *** بل فاعجبن من سالك كيف نجا
لحظةً يا صاحبي إن تَغفُلِ *** ألفَ مِيلٍ زادَ بُعدِ المنزلِ
رامَ نقشَ الشوكِ يوماً رَجلُ *** فاختفَى عن ناظريه المَحملُ


ما بين الطفولة والشيخوخة تتنامى مشاعر الرحيل وتتقاصر، وتغيب وتحضر، وتتباين المشاعر منها والمواقف.. وأكثرها مشاعر المقت والنفور..! ويفتن الناس بالناس، وتختلط الأوراق، وتضيع المبادئ.. وكلّ الناس يغدو ويروح، «فبائعٌ نفسَه، فمُعتِقُها أو مُوبِقُها» [أخرجه مسلم]، كما يقول نبيّنا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.

وربّما في لحظات استثنائيّة خطيرة، من نزول البلاء والضيق أن يتمنّى الإنسان الرحيل، لا حبّاً به، ولكن كرهاً بواقعه، أو يقدم عليه بنفسه واختياره، ولا يعلم أنّه يحلّ مشكلته بما هو أكبر منها وأخطر، ولكنّ الهدي النبويّ يقول له: «لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّياً فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْراً لِي» [رواه مسلم (8/ 64) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه].

مشاعر مع كلّ رحيل.! ما بالك أيّها الإنسان كلّما اقتربت خطاك من النهاية على هذه الأرض ازداد تشبّثك بالحياة؟! وكلّ عضو فيك يقول لك: "لقد انتهى مفعولي، أو كاد!".. حقّاً كما قال ربّنا: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: من الآية 185].

{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الإنشقاق: 6].. {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 6].. {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50].

أيّها الإنسان!  أما علمت أنّ من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه.. فلماذا تبغض الرحيل وتأباه.. وتهرب منه وهو لاقيك؟! وأنت تعلم أنّ رحلة البداية لها نهاية، وأنّ إحدى رجليك في الدنيا، والأخرى في القبر، وأنّ حياتك كلّها منحة من الله وابتلاء.. وأن ليس بعد هذه الدار إلاّ الجنّة أو النار..

شتّان بين راحل وراحل: راحل يُساق إلى ربّه كما يُساق المجرمون: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن: 41].

وراحل يزفّ كما تزفّ العروس، بالحبّ والتكريم، وبشريات النعيم: {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فُصِّلت: من الآية 30]. أيّها الإنسان! أنت سيّد المخلوقات في هذا الوجود.. الكون كلّه يغبطك على مكانتك، إلاّ الشيطان، فإنّه عدوّك الأوّل الأخطر.. فلا تجعله يستحوذ عليك ويخزيك.. ولا تجعل للشيطان عليك سبيلاً، فترحل معه إلى الجحيم.

تحرّر أيّها الإنسان من عالم الطين وأثقاله، تحرّر من وحشة الأرض.. وأحسن ظنّك بالله.. وانظر هناك إلى عالم الغيب.. فالرحمة الكبرى تنتظرك، فأقبل إلى مولاك ولا تتردّد.. أنّب نفسك على توالي الغفلات، وتراكم الزلاّت، وابرأ من حولك وطولك وقوّتك، واعلم أن لا ملجأ لك من الله إلاّ إليه، فاطّرح ببابه، وتذلّل بين يديه، واذرف في خلواتك دمع الخوف والندم، والحبّ والشوق، واعلم أنّ ذلك كلّه مفتاح التوفيق والرضا، وباب القبول عند عالم السرّ والنجوى..

يا ربّ! حنّت الطيور إلى أوكارها، وحنّ كلّ حبيب إلى حبيبه، فيا ربّ لا تقطع حبّي وحنيني حتّى ألقاك وأنت راضٍ عنّي.. ليس لي من بضاعة أقدم بها عليك سوى ذلّي وافتقاري، وحبّي وحنيني.

اللهمّ اجعل الموت خير غائب ننتظره، والقبر خير بيت نسكنه... وحبّب إلينا لقاءك، وأكرمنا بلذّة مناجاتك، واصطفِ قلوبنا مع قلوب من أحببت من عبادك.. اللهمّ إنّ مغفرتك أوسع من ذنوبنا، ورحمتك أرجى عندنا من عملنا، فاغفر لنا وارحمنا، وتقبّل منّا صالح ما أعطيتنا، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقلّ من ذلك.

{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [الكهف: 10]. 

 

عبد المجيد البيانوني