قراءة شرعية في أوراق المحنة (2)
إفساح المجال يعني أن يكون الشباب في صلب دائرة اتخاذ القرار، وأن يمثلوا نسبة معتبرة من قيادة الحراك الدعوي والاجتماعي والثوري. نحتاج لضخ هذه الدماء الجديدة الممتلئة أملا وإبداعا أن تتقدم وتشارك في القيادة، على كل المستويات، بدءا بجماعة المسجد الصغير أو الزاوية النائية، مرورا بالأحزاب والجمعيات والهيئات، وانتهاء بالمؤسسات الضخمة والتحالفات والائتلافات.
كان الشباب طليعة ووقود الربيع العربي، الذي أحدث زلزالا استدعى انتفاضة قوى إقليمية ودولية لوأد الثورة والقضاء عليها، وجعلها عبرة لكل من يريد الحرية والكرامة في المنطقة العربية. كان الشباب القوة المبدعة التي فكرت خارج الصندوق، وحلمت بما رآه أكثر الناس مستحيلا. كان الشباب الصرخة البريئة التي أرادت أن ترد للأمة حريتها وكرامتها .. وإنسانيتها.
هؤلاء الشباب تم تهميشهم وإقصاؤهم ونسيانهم، حتى قال القائل: إن الرئيس مرسي جاء بانتخابات حرة نزيهة، والحق أنه جاء بثورة شعبية، بدونها ما كانت الانتخابات النزيهة لها وجود. والفرق كبير جدا بين القولين، لأنك إذا رأيته قد جاء بانتخابات، فستركز جهودك لحماية هذه الآلية بإعلان دستوري أو غيره، وأما إذا رأيته قد جاء بثورة الشباب فستسعى لحماية هذه الثورة، فتحمي مكتسباتها.
كان أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشباب، وكانوا أكثر أهل مشورته، وكذا خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم جميعا. ويكفي أن ترى من قبلوا دعوة رسول الله في الأيام الصعبة وفي زمان التعذيب والتنكيل، لترى كثيرا منهم دون الخامسة والعشرين، منهم: علي بن أبي طالب، سعد بن أبي وقاص، الزبير بن العوام، طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد (وهؤلاء نصف العشرة المبشرين بالجنة!)، وكان ممن أسلم قبل دخول دار الأرقم: عبد الله بن مسعود، خباب بن الأرت، عبد الله بن مظعون، قدامة بن مظعون، ومسعود بن الربيع، وكان إياس، وعاقل، وخالد، وعامر أبناء بكير أول من بايع في دار الأرقم. وأما من أسلم في دار الأرقم من الشباب فهم كثر، والأمر بعد في مرحلة الاستضعاف، بل والأرقم بن أبي الأرقم نفسه أسلم شابا.
وإذا انتقلت من المهاجرين إلى الأنصار، ستجد أن أكثر الأنصار في بيعتي العقبة كانوا من الشباب، رضي الله عنهم جميعا. وقد قص علينا القرآن أن شباب بني إسرائيل – وليس مجموع الشعب الإسرائيلي - هم من استجابوا لدعوة موسى عليه السلام للإيمان بالله، ولتحريرهم من طغيان فرعون، بينما نكص آباؤهم ممن ألفوا الذل والعبودية واستكانوا لقهر فرعون وآثروا المشي إلى جانب الحيط. فقال تعالى: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم} يقول الشيخ السعدي في تفسيره: "والحكمة -والله أعلم- بكونه ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، أن الذرية والشباب، أقبل للحق، وأسرع له انقيادًا، بخلاف الشيوخ ونحوهم، ويقول الشيخ الشعراوي في تفسيره: وكلمة «ذرية» تفيد الصغار الذين لم تلمسهم خميرة من الفساد الذي كان منتشراً، كما أن الصغار يتمتعون بطاقة من النقاء، ويعيشون في خُلُوٍّ من المشاكل، ولم يصلوا إلى مرتبة السيادة التي يُحْرَصُ عليها، ومع ذلك فهم قد آمنوا {على خوف من فرعون وملئهم}. وكلمة {على خوف} تفيد الاستعلاء، مثل قولنا: "على الفرس" أو "على الكرسي" ويكون المستعلي في هذه الحالة متمكّناً من المستعلى عليه. والكلام هنا من الحق الأعلى سبحانه يبيِّن لنا أن الخوف ليس من فرعون؛ لأن فرعون إنما يمارس التخويف بمن حوله، فمثلهم مثل زُوَّار الفجر في أي دولة لا تقيم وزناً لكرامة الإنسان. وفرعون في وضعه ومكانته لا يباشر التعذيب بنفسه، بل يقوم به زبانيته. والإشارة هنا تدل على الخوف من شيعة فرعون وملئهم. وقال الحق سبحانه هنا: {يفتنهم}، ولم يقل: (يفتنوهم)؛ ليدلنا على ملحظ أن الزبانية لا يصنعون التعذيب لشهوة عندهم، بل يمارسون التعذيب لشهوة عند الفرعون".
وهكذا كان الأمر في الأمم السابقة، فأهل الكهف {فتية آمنوا بربهم}، وقصة الغلام والساحر بإيحاءاتها المختلفة، يقصها رسول الله بوحي من الله تعالى على أصحابه وهم بعد في زمن الاستضعاف! فالمقصود أنه سنة من سنن الله في خلقه، أن الشباب هم طليعة التغيير، وتركهم وتهميشهم وإقصاؤهم سبب لارتداد الأمة إلى الذل والهوان.
إن ما وقعنا فيه بعد الثورة، أننا وبلا استثناء تقريبا رجعنا سيرتنا الأولى، فتصدر الكبار المشهد، بنفس ثقافتهم التي تتصور إمكانية التعايش مع رؤوس الفساد وقادة الاستبداد ببعض التنازلات المتبادلة .. والمركب تمشي!.
رأينا فصائل التيارات الإسلامية وما زال كل قادتها تقريبا من أصحاب اللحى أو الرؤوس البيضاء، ورأينا باقي تيارات الجماعة الوطنية وقد تصدرها نجوم الستينيات والسبعينيات.
لقد حاولت مؤسسة الرئاسة في عهد مرسي أن تطعم نفسها ببعض القيادات الشابة، لكن المحاولة كانت محدودة جدا ومتأخرة جدا. الآن .. نريد أن نتدارك هذا وأن نفسح المجال للشباب، ولا نتسلط عليهم. من الطبيعي والبديهي أنهم سيخطئون، وسيحتاجون دوما إلى ترشيد حراكهم بخبرة الكبار، لكن دون مصادرة لإبداعهم ونشاطهم أو طمس لأحلامهم.
إفساح المجال يعني أن يكون الشباب في صلب دائرة اتخاذ القرار، وأن يمثلوا نسبة معتبرة من قيادة الحراك الدعوي والاجتماعي والثوري. نحتاج لضخ هذه الدماء الجديدة الممتلئة أملا وإبداعا أن تتقدم وتشارك في القيادة، على كل المستويات، بدءا بجماعة المسجد الصغير أو الزاوية النائية، مرورا بالأحزاب والجمعيات والهيئات، وانتهاء بالمؤسسات الضخمة والتحالفات والائتلافات.
إن الاستمرار على ما نحن فيه من تهميش وإقصاء الشباب، لن يترك لهم إلا سبيلين: إما الانسحاب من هذا الواقع ورفضه، وإما التمرد عليه والصدام معه والسعي لتغييره ولو بالقوة. إن استصحاب هدايات كنوز السيرة النبوية المطهرة، في علاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشباب الصحابة، وتقديره لهم، وأخذ مشورتهم، والدفع بهم في المراكز القيادية المختلفة، كل هذا يساعدنا في كسر هذه العقبة النفسية التي تراود أفكار كثيرين في جيلنا، بأن هؤلاء الصغار لا خبرة لهم، ومن المغامرة أن نشركهم في قيادة الأمة. هذا على المستوى الحركي التنفيذي، وأما على المستوى الفكري، فمن الأحاديث الموحية لمعان عظيمة جدا في قدرات الشباب، ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الحسن والحسين رضي الله عنهما وأنهما « ». نريد أن نتأمل في هذه القدوة التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأي شيء صارا سيدي شباب أهل الجنة. لا شك أن كونهما من آل البيت، جزء من هذا الفضل لا خلاف فيه، ولكن التوجيه النبوي، يشير بالضرورة لحياتهما في هذه الدنيا وما أنجزاه فيها، بحيث يتطلع الشباب إلى هذين السيدين فيقتدوا بهما. ما هي إنجازات الحسن والحسين رضي الله عنهما؟. فتش في سيرتهما الكريمة، وستجد أن أبرز إنجاز لكل منهما كان في الشأن العام والحكم والسياسة! دعونا نقترب من هذه النقطة أكثر لنصل إلى محل القدوة، وعلامة السيادة!
محمد هشام راغب
كاتب وداعية إسلامي
- التصنيف:
- المصدر: