التربية الإبداعية

منذ 2014-05-31

لعل هذا هو السؤال الأول الذي ينقدح في ذهن الكثير من الآباء والأمهات عند الحديث عن التربية الإبداعية، ودورها الفاعل في إخراج جيل متميز في طباعه، متميز في طريقة تفكيره متميز في نظرته للأشياء، جيل تحتاجه الأمة وتتمناه وهي في أشد الحاجة إليه.

ما هي التربية الإبداعية؟

لعل هذا هو السؤال الأول الذي ينقدح في ذهن الكثير من الآباء والأمهات عند الحديث عن التربية الإبداعية، ودورها الفاعل في إخراج جيل متميز في طباعه، متميز في طريقة تفكيره متميز في نظرته للأشياء، جيل تحتاجه الأمة وتتمناه وهي في أشد الحاجة إليه.

ولعل الإجابة على السؤال، تكمن في شرح مفهوم التربية الإبداعية، فكلما كان المربون أقدر على فهم هذا المفهوم كلما كانوا أكثر إبداعًا في إيصاله إلى أبنائهم، وأكثر قدرة على ترجمته إلى إجراءات تربوية ومناهج تربوية.

ولأن ديننا الحنيف قد وجهنا إلى الإبداع والتفكر وإعمال العقل، ولأننا نستمد منه أصول تربيتنا لأبنائنا، فنحن الآن نتطلع إلى معرفة مفهوم التربية الإبداعية من الوجهة الإسلامية؛ حتى نتمكن من تأهيل جيل مسلم مبدع، جيل فريد.

فما هو مفهوم التربية الإبداعية إذًا؟

التربية الإبداعية هي التي تهتم بحفظ العقل من الزيغ والافتتان باللهو والهوى، كما تجنبه ما يهدم العقل، ومن جانب آخر تتطلع التربية الإسلامية إلى تنمية الجانب الإبداعي بما يجعل الفرد يُحسن تدبير أموره، ويبدع في مهنته ويرقى بها، حتى يكون أكثر إنتاجاً وأدق عملاً في أقصر وقت وبأقل تكلفة وجهد، وهذا يتطلب عناية بجانب الابتكار، وهو ما سوف يبينه هذا البحث من خلال عناية التربية الإسلامية بالتربية الإبداعية، وحفظ العقل (التربية الإبداعية في منظور التربية الإسلامية، خالد بن حامد الحازمي).

وقد بيّن العديد من المتخصصين في مجال التربية الإبداعية، أن التربية الإبداعية هي: تنشئة الناشئين وإعدادهم على نحو يستطيعون في مجال تخصصاتهم الإيجاد والابتكار والإتقان والتحسين (مقداد يالجن، جوانب التربية الإسلامية، ص 488).

ويعرفه آخر بأن الإبداع: عملية إنتاج شيء جديد سواء كان اختراعًا أو فكرة، ويجب أن يكون أصيلاً وحديثًا (حلمي المليجي، جوانب علم النفس المعاصر، ص 235).

التربية الإسلامية والإبداع:

لقد اهتمت التربية الإسلامية بالإبداع ودفعت عقول المسلمين إليه، حتى يتمكنوا من تدبر آيات الكون وما فيه ويستخرجوا من تأملهم وتفكرهم وإعمال عقولهم، ما يعود على البشرية جميعًا بالنفع والتقدم.

إن نظرة واحدة متأملة في كتاب الله تبين لنا هذا الحشد من الآيات التي تدعو إلى التأمل والتفكر وإعمال العقل، فيقول ربنا سبحانه: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24].

وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17].

وغيرها من الآيات كثير يدعونا إلى التأمل والتفكر ويحث الآباء والأمهات على أن يتخذوا من الإبداع منهجًا في تربية أبناء الإسلام وآمال الأمة.

فلقد اهتمت التربية الإسلامية بقضية الإبداع اهتمامًا كبيرًا، وفي مجالات عديدة، بما يحقق للإسلام والمسلمين والبشرية النفع والتقدم، كما أنها ضبطت عملية الإبداع بأن وجهتها توجيهًا خيرًا، بعيدًا عن الإفساد والدمار، ونظرًا لكثرة مجالات الإبداع وتنوعها بما لا يسع المقام لذكرها، فهذه بعض النماذج الإبداعية في عدد من المجالات العامة (التربية الإبداعية في منظور التربية الإسلامية، خالد بن حامد الحازمي).

مثال ونموذج:

وهذا مثال ونموذج لنوع واحد من أنواع الإبداع التي حث عليها الإسلام، ألا وهو الإبداع العلمي، فلقد جاء الإسلام والناس في جاهلية جهلاء، في عباداتهم واعتقاداتهم وأخلاقهم، وفي علومهم ومعارفهم، حتى إن عدد الذين يقرءون ويكتبون في قريش هم سبعة عشر رجلًا، منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنهم (البلاذري، فتوح البلدان، ص 660).

وجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدد يكتبون، منهم: سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، فكان يكتب العربية والعبرية رضي الله عنهم.

وبعد ما جاء الإسلام تفتقت تلك العقول وأبدعت في تفوقها، وتواصل هذا الإبداع في الأمة، فتولدت علوم ومعارف، ما كان لأحد قبلهم بها معرفة، ومن ذلك: علم أصول الفقه، الذي أول من صنف فيه الإمام الشافعي، وأول من صنف في الفقه الإمام مالك بن أنس، وأول من صنف في غريب القرآن الكريم أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأول من عمل العَرُوض هو الخليل بن أحمد، وأول من وضع الإعراب أبو الأسود الدؤلي، وأول من صنف في صنعة الشعر عبد الله بن المعتز (الأوائل، أبو هلال العسكري، ص (253)، بتصرف).

فوائد التربية الإبداعية:

أما فوائد هذه التربية الإبداعية، فهي كثيرة جدًا، ومنها على سبيل المثال:

الابتكار:

يعتبر الابتكار من أبرز ثمار التربية الإبداعية، لما فيه من الاختراع غير المسبوق، فليس عجيبًا أن نرى أبناؤنا في الصف المتوسط قادرون على الاختراع والابتكار وتحويل علوم الرياضيات والفيزياء إلى مخترعات، ليس عجيبًا أن نراهم يحاولون ذلك بحب وحماسة، طالما أننا نغذي عندهم روح الإبداع ونفسح لهم المجال حتى يتقدموا ونشجعهم على ذلك وندعمهم.

فالابتكار لا يأتي في أغلب الأحوال وأظهرها إلا من أولئك الذين تلقوا تربية نموذجية متفوقة، أو أُتيحت لهم الفرصة للتعلم والتفكير، سيما إذا كان ذلك في إطار توجيه تربوي متألق فاعل.

لذلك فإن الدراسات النفسية تقرر أن الأطفال أفضل ما يتعلمون عندما يُعْطَون الفرصة للتعلم بطرائق تتناسب مع قابليتهم وحوافزهم، وبالتالي فإنه حين يغير المعلمون من طرقهم في التعليم إلى طرق ذات معنى يتوافق مع قابلية الطلاب، فإنما يحققون فيهم التربية الإبداعية المتألقة (الإبداع وتربيته، فاخر عاقل، ص (152)).

التطوير:

دائم التفكير في كيفية تحسين الأشياء، كيف يمكن أن أحسن طريقة مذاكرتي، كيف أنتفع بما أشاهده من برامج، وكيف يمكن إعادة استخدام هذا الشيء...إلخ.

ما ذكرناه إنما هي روح أبنائنا المبدعين التي تُبث في الأشياء فتبحث دائمًا عن تطويرها، وآلية الاستفادة القصوى منها، إنها روح الإبداع المرفرفة بداخلهم، والتي فتح الآباء نوافذها فحلقت في سماء التطوير والإبداع.

فالتطوير من سمات التربية الإبداعية التي تحقق في أفرادها الميل إلى التطوير والتحسين والبحث عن ذلك مع عدم الوقوف عند المألوف والمعتاد، سيما في المجالات التي يخضع التقدم فيها لتطوير أدواتها، وإجراءاتها، وليس ذلك التطور محصورًا في الآليات الصناعية والكيميائية والفيزيائية والهندسية كما هو اعتقاد كثير من الناس، بل إن مجالات التطور أرحب من ذلك، فهي في الإدارة، وفي اللوائح والأنظمة، وفي طرق وأساليب البحث العلمي، وأدواته، ومنهجيته، وغير ذلك.

والنزعة التطويرية هي من ثمار التربية، إذا أحسنت التربوية استخدام المناهج التربوية والمعرفية التي تحقق ذلك (التربية الإبداعية في منظور التربية الإسلامية، خالد بن حامد الحازمي).

ترتيب الأولويات:

التربية الإبداعية تنمي لدى أبنائنا القدرة على ترتيب الأولويات حسب أهميتها وتأثيرها والحاجة إليها، فنجد اهتماماتهم حسب الأولويات، ويصل الأمر إلى ترتيب كلماتهم ومفرداتهم بحيث يصبح حديثهم أكثر تأثيرًا وترتيبًا وكأننا نتحدث مع شاب كبير، إنها قوة التربية الإبداعية.

ومنهج التربية الإسلامية مبني على ترتيب الأولويات، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في نزول القرآن الكريم: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً" (رواه البخاري) (التربية الإبداعية في منظور التربية الإسلامية، خالد بن حامد الحازمي).

حسن الاختيار:

كم من الطلاب يتخرجون من المرحلة الثانوية، ويقتدون ببعضهم في الالتحاق بالدراسات الجامعية، ثم يكتشف كثير منهم بعد مضي سنتين أو أكثر أنه أساء الاختيار لمجاراة الأتباع والخلان. وهنا يأتي عمق التربية المدرسية في توليد وتحقيق الإبداع في حسن الاختيار، الذي يحفظ وقت وجهد الإنسان من الضياع والتبديد.

ومنهج التربية الإسلامية يحث أتباعه على حسن الاختيار، وتَحَمُّل تَبِعَات إساءة الاختيار، لذا علينا أن نربي أبناءنا على أن يعملوا تفكيرهم دائمًا ويوازنوا بين المصالح والمفاسد، ونعلمهم كيف يضعون أهدافهم وكيف يسعون في تحقيقها وكيف يصلون إليها، ونعودهم، بعد أن نعلمهم أن يتحملوا مسئولية اختياراتهم، فنحقق الثنائية الهامة: التعليم والبيان من جهة والتدريب من خلال الصواب والخطأ من جهة أخرى.

وفي الختام

كان ما ذكرناه تفتيح آفاق ووضع لقضية الإبداع في دائرة الضوء وبؤرة التركيز؛ حتى يستشعر الآباء أهميتها وخطورتها ويواصلون البحث والتعرف؛ فيزدادوا خبرة وقدرة وتأهلًا لما يناط بهم من مسئولية التربية الإبداعية.. ونستكمل الحديث عن التربية الإبداعية في لقاءات قادمة.
 

عمر السبع