أوراق في السيرة و الأخلاق - عبد القطيفة!
حرص مصمِّمو الأزياء والمجلات النسائية على فرض وتعميم ما يُسمِّيه جان ميزونوف بـ "عبادة الرشاقة" والتعبير عن العودة إلى الطبيعة عبر تحرير الجسد والابتهاج بالعري. وبما أن الملابس "التقليدية" عنوان على التصرُّف تحت مسؤولية الجماعة فإن الانسياق خلف الموضة شكَّل مدخلًا حيويًا يسمح بالاستقلال عن الوصاية الاجتماعية ولتحرُّرالذي يبلغ حدّ الاستفزاز!
أنتجت الحداثة المعكوسة في مجتمعنا الإسلامي المعاصر تغييرًا مُشوَّهًا، وانزياحًا سالبًا عن الثوابت والقيم والإطار المرجعي الذي يحكم فكر المسلم وسلوكه اليومي. فطفت إلى السطح وثنية جديدة تستحث الإنسان ليعبد منتوج يديه، وليُسلِم قيادة روحه وجسده لنشوة استهلاك بغيضة.
لقد أنعم الحق سبحانه على الإنسان بنعمة اللباس فقال: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:26]، وجعل زينة الملبس مكملة للعبادة الحقة التي يُتقرَّب بها إليه في قوله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].
بيد أن ما قرَّره النص القرآني بكونه وسيلة لغايةٍ مُثلى، أضحى اليوم تحت تأثير الموضة وبدائل الفراغ الروحي في الغرب مرمى وغاية لا يستشعر المرء قيمة لوجوده ووظيفته الإنسانية في الحياة إلا بتحقيقها. وامتدت نزعة الاستهلاك الحادة التي تُغذيها الإعلانات والسينما إلى البناء القيمي، فعمدت إلى تفكيكه وتذويب خصوصياته في نسق من الإشباع المُتجدِّد.
تُولَّد الهوس المعاصر بالملابس عن نزعةٍ تحرُّرية سادت فترة الستينات من القرن الماضي، حيث تضخم الاهتمام بالجسد على المستويين العاطفي والقيمي، وتشكَّلت منظومة من التصورات والممارسات التي تُعيد النظر في القواعد الاجتماعية المتحكمة في مظهر الأفراد.
خلال هذه الفترة حرص مصمِّمو الأزياء والمجلات النسائية على فرض وتعميم ما يُسمِّيه جان ميزونوف بـ "عبادة الرشاقة" والتعبير عن العودة إلى الطبيعة عبر تحرير الجسد والابتهاج بالعري. وبما أن الملابس "التقليدية" عنوان على التصرُّف تحت مسؤولية الجماعة فإن الانسياق خلف الموضة شكَّل مدخلًا حيويًا يسمح بالاستقلال عن الوصاية الاجتماعية ولتحرُّرالذي يبلغ حدّ الاستفزاز!
لكن بغض النظر عن الرسائل التي يتم توجيهها والوظيفة الرمزية التي يؤديها اللباس اليوم كوسيلة اتصال وإيحاء بوضع اجتماعي مُعيَّن، فإن الإفراط في التأنق والهوس بكل جديد في صيحات الموضة قد أفضى إلى حالة من التنميط والتفاهة، يقول ميزونوف: "فالملابس المبتكرة واللافتة للنظر تؤدي في الحقيقة دورًا تعويضيًا، إنها تُعبِّرعن محاولات تدعو للشفقة لإخفاء كراهية للذات مثيرة للدهشة أكثر مما تُعبِّر عن الابتهاج" (جان ميزونوف وماريلو شفايتزر: الجسد والجمال. شركة الخدمات التعليمية. القاهرة 2006م، ص: [109]).
هكذا إذن يُعلي الفرد من شأن قطيفته، ويُصبِح عبدًا لكل منسوج حريري أو قطني يخفي هشاشته!
من منظور آخر يخفي ذيوع وانتشار اتجاهات الأزياء، برأي أجنر فوج، صراعًا اجتماعيًا بين الشرائح العليا والدنيا: "إن أبناء المجتمع المحرومين من الامتيازات ربما يسعون إلى إخفاء مكانتهم الدنيا ومن ثم يعمدون إلى محاكاة أسلوب الطبقة العليا مما يُفضي إلى نوع من التضخم في الأساليب" (أجنر فوج: الانتخاب الثقافي. المجلس الأعلى للثقافة. القاهرة 2005م، ص: [281]).
وليت الأمر يقف عند حدود التضخم! فالهوس بالانتساب لوضع اجتماعي أرقى، وبث صورة مرغوبة عن الذات حتى وإن تأكد زيفها، أسفر اليوم عن اغتراب يَقرنه إيريك فروم بالوثنية كما أوردها الفكر النبوي. إن إنسان العصر محكوم اليوم من طرف الأشياء التي صنعتها يداه، وصارت حكمته وقوته وباقي خصائصه الإنسانية رهينة أوثان مؤسسة على التبضع والامتلاك والرضاعة الأزلية (إيريك فروم: الإنسان المستلب وآفاق تحرُّرِه. نداكوم للطباعة والنشر، الرباط 2003م).
يُغذِّي الافتتان باللباس وصيحات الموضة في الحضارة الغربية أوهام تحرُّر تستبلِد العقل والوجدان. فالرقابات الاجتماعية والاضطهاد المعقلن لمجتمع الوفرة يُولِّدان لدى الفرد حاجة لا تقاوم إلى إنتاج واستهلاك ما هو زائد عن الحاجة، ويؤسسان لمعايير اختيار تدعم في النهاية مساعي التكييف والقولبة. وحين يُمنح المرء حرية الاختيار بين سادته، أو بين تشكيلة من البضائع والخدمات التي تُخلد بلادته، فإننا نكون بصدد حرية منظمة ومصطنعة تستعيد بخبث ذكريات الرق والعبودية (هربارت ماركوز: الإنسان ذو البُعد الواحد. دار الآداب. بيروت 1988م، ص: [43] وما بعدها)!
هذا التنديد بهيمنة النمط الاستهلاكي، والاعتراض على تسليع الوجود الإنساني وتدمير القيم التي تُشكِّل أدوات التلاحم الاجتماعي يُحيلنا على البُعد الضائع والإيقاع المؤلم الذي يضبط حركة الحياة في المجتمعات الغربية. وهو المآل الذي حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من الانقياد لأسبابه، ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تعِسَ عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطِيَ رضي وإن لم يُعط لم يرض»، وسِرُّ الدعاء عليه بالتعاسة مردّه إلى ما ينشأ عن الولع الزائد بالأشياء من اتباع للهوى، وانحراف عن المقصد الرباني من تسخير النعم. فمن كان عبدًا لهواه، كما قيل، لم يصدق في حقه (إياك نعبد)!
إن الوسطية التي تحكم علاقة المسلم باللباس تُمثِّل إحدى تجليات التكريم الرباني للإنسان. وسطية قائمة على حصر وظائفه في ستر العورة وإظهار أثر نعمة الله عليه دون تفريط يُزري بالمظهر أو إفراط يُولِّد الكِبر. وهذا التكريم القائم على مبدأي الاستخلاف والتسخير يجعل من كل عناصر الكون خادمة للوجود الإنساني حتى يتفرَّغ ابن آدم لأسمى تكليف وهو عبادة الخالق وعمارة الأرض. فحرُّيٌ بمن حظي بهذه المكانة ألَّا يخلد إلى هواه ويُعطِّل منهجًا ربانيًا ضمن له التوازن والطمأنينة والكيان النفسي الموحَّد.
حميد بن خيبش
كاتب إسلامي