من أسباب زيادة الإيمان ونقصانه

منذ 2014-06-11

المؤمن كلَّما كان من الفتن والمعاصي أبعدَ، كان حفاظه على سلامة قلبه وازدياد إيمانه أكثر، وكلَّما تهاوَن بالذنوب وتعرَّض للفتن، نقص إيمانه.

الحمد لله الذي حثَّ على الإكثار من الطاعات؛ لينال العبد بذلك انشراح الصدر وسعة العيش وهناء الحياة؛ فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].

والصلاة والسلام على خير الوَرَى، وخير مَن وَطِئ بقدمه الثَّرَى، صلاة وسلامًا دائمَين إلى يوم الدين.

أما بعد:

اعلم أخي المبارَك أننا صِرْنا نعيش زمانًا يعزُّ على الإنسان أن يستمسِك بإيمانه حينما يزيد، ولربما شكا كثيرًا من قلبه المتقلِّب، ولربما تذكَّر زمانًا عاشه مرَّت عليه لحظاتٌ كان قلبه في سعادة تمنَّى تَكرارها، ولربما تفكَّر وتذكَّر طاعاتٍ بدأت تزول شيئًا فشيئًا، ورأى من نفسه تهاونًا في كثيرٍ من الطاعات؛ فتارة ينظر في وتره، وتارة في صيامه، وأخرى في صلاته للضحى، وأخرى في بقية نوافله، وتارة في أذكاره، وأخرى في أخلاقه وقلبه، فإذا بقلبه يتحسَّر هنا ويزيد حسرةً هناك، وأعظم منه حسرةً مَن لم يحاسِب نفسه ولم يتدارَك قلبه، فيغيثه بما يغذيه ويقوِّيه.

فأحببتُ أخي أن أذكِّر نفسي قبل أن أذكِّرك بما يقوِّي الإيمان ويزيده في القلب، ويساعِد العبد على الثبات؛ فجمعتُ أسبابًا عشرة راجيًا من الله تعالى بها سبيل الدلالة لقلبي وقلبك، فإليك هذه الأسبابَ رعاك الله.

اعلم أخي المبارك أن الإيمان يزيد بأمور، وبضدِّها ينقص الإيمان، فممَّا يزيد الإيمان عشرةُ أسباب، أسوقها لك مع أدلتها:

أولًا: معرفة الله جلَّ وعلا بأسمائه والحسنى وصفاته العُلَى:

وممَّا يدلُّ على ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨].

ووجه ذلك: أن العلماء أعرَف الناس بأسماء الله تعالى وصفاته، فاستحضروها في دعائهم وفي جميع شؤون حياتهم، حتى كانوا أخشى الناس، والخشية أثرٌ لقوة الإيمان في قلوبهم، وإلاَّ فالعلم الذي لا يُورِث هذه الخشية علم مدخُول نسأل الله السلامة والعافية.

قال ابن رجب: "العلم النافع يدلُّ على أمرين:
أحدهما: على معرفة الله وما يستحقُّه من الأسماء الحسنى والصفات العُلَى والأفعال الباهرة؛ وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه، وخشيته ومهابته، ومحبته ورجاءه، والتوكُّل عليه، والرضا بقضائه والصبر على بلائه.

والأمر الثاني: المعرفة بما يحبُّه ويرضاه، وما يكرهه وما يسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال، فيُوجِب ذلك لِمَن علمه المسارعة إلى ما فيه محبة الله ورضاه، والتباعُد عمَّا يكرهه ويُسخِطه، فإذا أثمر العلم لصاحبه هذا فهو علمٌ نافعٌ، فمتى كان العلم نافعًا ووقَر في القلب فقد خشَع القلب لله وانكسر له، وذلَّ هيبةً وإجلالًا، وخشيةً ومحبة وتعظيمًا"؛ (انظر: "فضل علم السلف على فضل الخلف" في ص [64- 65]).

وقال أيضًا في [ص 67]: "فالعلم النافع ما عرَّف العبدَ بربِّه، ودلَّه عليه حتى عرفه ووحَّده، وأنِس به واستحيا من قربه، وعَبَده كأنه يراه"، ا.هـ.

وإذا وصَل العبد إلى عبادة ربِّه كأنه يراه، لا شكَّ أنه وصَل إلى مرتبة عظيمة من الإيمان؛ لأنه وصل إلى أعظم المراتب وهي الإحسان.

 

ثانيًا: طلب العلم الشرعي:
ويدلُّ عليه ما تقدَّم من قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فالعلم طريقٌ للخشية التي هي علامةٌ لما وقَر في القلب من إيمان، وذلك يأتي بالعلم النافع كما تقدَّم؛ ولذا يقول الإمام أحمد: "أصل العلم الخشية".

وأيضًا لمَّا تكلَّم أحد الناس عن الإمام الزاهد العابد معروف الكرخي رحمه الله في مجلس الإمام أحمد وقال عنه: إنه قصير العلم، نهرَه الإمام أحمد وقال: "أمسك عافاك الله وهل يُرادُ من العلم إلا ما وصل إليه معروف"؛ ولذا جعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم طريقًا إلى الجنة فقال: «مَن سلَك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة» (رواه مسلم).

 

ثالثًا: التأمُّل في آيات الله الكونية ومخلوقاته جل وعلا:
ويدلُّ على ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]، وقوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، وقوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس:101].

فإن العبد إذا تفكَّر في آيات الله تعالى في هذا الكون، عرف عظمة الله تعالى فازداد إيمانه.

قال عامر بن عبد قيس: "سمعت غيرَ واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكُّر" (انظر: "الدرر المنثور" [2/409]).

 

رابعًا: قراءة القرآن وتدبره:
ففي قراءته وتلاوته يزداد الإيمان؛ ويدلُّ على ذلك قول الله عز وجل في وصف المؤمنين الصادقين: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:٢]، وكذلك تدبُّره ففيه أعظم النفع لزيادة الإيمان، وأمَّا القلوب الغافلة فلا تتدبَّره؛ ويدلُّ على ذلك قول الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤].

قال ابن القيم رحمه الله: "قراءة آية بتفكُّر وتفهُّم خيرٌ من قراءة ختمة بغير تدبُّر وتفهُّم، وأنفع للقلب، وأدعَى في حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن".

وقال أيضًا: "فليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبُّر القرآن، وإطالة التأمُّل، وجمع الفكر على معاني آياته، فإنها تُطلِع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها... وتثبِّت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيِّد بنيانه وتوطِّد أركانه" (انظر: "مدارج السالكين" [1/485]).

فإذا تدبَّر العبد آيات الله تعالى وما فيها من وعد ووعيد وجنة ونار، والأعمال التي تسوق إليهما زادُ إيمانه ويقينه بوعد ربه ووعيده.

 

خامسًا: الإكثار من ذكر الله تعالى:
ويدلُّ على ذلك قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي موسى: «مثَل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه مثَل الحيِّ والميت» (رواه البخاري).

فذكْر الله عز وجل فيه حياةٌ للقلب، فيزداد إيمان العبد كلَّما أكثر من ذكر ربِّه، ويموت القلب وينقص إيمان العبد كلَّما كان بعيدًا عن ذكر ربه، وفي هذا علامة على الغفلة؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9]، وقال في وصف المنافقين الذين مُلِئت قلوبهم كفرًا وبُعْدًا عن الله تعالى: {وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء:142].

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "لكلِّ شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل" (انظر: "شعب الإيمان" [1/396]، و"الوابل الصيب" [60]).

قال عمير بن حبيب: "الإيمان يزيد وينقص، فقيل: فما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا ربَّنا وخشِيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسِيناه وضيَّعنا فذلك نقصانه" (انظر: "الإيمان"؛ لابن أبي شيبة [7]).

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "الذكر للقلب مثل الماء للسمَك، فكيف يكون حال السمك إذا فارَق الماء؟" (انظر: "الوابل الصيب" [63]).

 

سادسًا: تقديم ما يحبُّه الله ورسوله على هوى النفس:
ويدلُّ على ذلك حديث أنس قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذَف في النار» ( متفق عليه).

قال ابن حجر: "قال البيضاوي: وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانًا لكمال الإيمان؛ لأن المرء إذا تأمَّل أن المنعِم بالذات هو الله تعالى وأن لا مانِح ولا مانِع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأن الرسول هو الذي يبيِّن مراد ربِّه اقتضى ذلك أن يتوجَّه بكليَّته نحوه؛ فلا يحبُّ إلا ما يحبُّ، ولا يحبُّ مَن يحبُّ إلا من أجله..." (انظر: "الفتح" المجلد الأول كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان).

 

ومن أعظم علامات محبة الله ورسوله: تقديم ما يحبُّه الله ورسوله على هوى نفسه؛ قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، وكذا مما يزيد الإيمان الحب في الله، وكراهة الوقوع في الكفر، فيبتعد عن كلِّ ما يهوِي به إلى ذلك.

 

سابعًا: حضور مجالس الذكر والحرص عليها:
ويدلُّ على ذلك حديث حنظلة الأُسَيدِي قال: قلت: نافَق حنظلة يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟»، قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضَّيْعات، نسينا كثيرًا، فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذِّكر لصافحتْكم الملائكة على فُرُشِكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة» (رواه مسلم).

والضَّيْعات: هي معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة.

وقال معاذ بن جبل لأحد أصحابه يتذاكَر معه: "اجلس بنا نؤمن ساعة"؛ رواه البخاري في (صحيحه) معلَّقًا، وقال ابن حجر في (الفتح): "وهو عن الأسود بن هلال قال: قال لي معاذ بن جبل: اجلس بنا نؤمِن ساعة".

وفي رواية: كان معاذ بن جبل يقول للرجل من إخوانه: "اجلس بنا نؤمِن ساعة، فيجلسان فيذكران الله تعالى ويحمدانه" (انظر: (الفتح) المجلد الأول كتاب الإيمان، باب بني الإسلام على الخمس).

قال أبو الدرداء: "كان ابن رواحة يأخذ بيدي ويقول: "تعالَ نؤمِن ساعة، إن القلب أسرع تقلُّبًا من القِدْر إذا استجمعت غليانها" (انظر: (الزهد والرقائق)؛ لابن المبارك، وانظر: (الإبانة الكبرى)؛ لابن بطة).

وفي (شعب الإيمان)؛ للبيهقي: عن عطاء بن يسار أن عبدالله بن رواحة قال لصاحبٍ له: "تعالَ حتى نؤمِن ساعة، قال: أوَلسنا مؤمنين؟ قال: بلى، ولكنَّا نذكر الله فنزداد إيمانًا".

قال شيخ الإسلام ابن تيميًّة في (الفتاوى): "كان الصحابة رضي الله عنهم يجتمعون أحيانًا: يأمرون أحدهم يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: يا أبا موسى، ذكِّرنا ربَّنا فيقرأ وهم يستمعون".

ولأن العبد في مجالس الذكر يسمع ما يحثُّه على طاعة غفل عنها، وما يذكره في معصية وقع فيها؛ لينتهي.

 

ويدخل تحت هذا السبب سببٌ آخر من مقوِّيات الإيمان، وهو مصاحبة الأخيار، وتقدَّم نماذج للصحابة في ذلك؛ ويدلُّ عليه قول الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يخالل» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، والحديث صحَّحه الحاكم، وصحَّح إسناده النوويُّ).

قال المباركفوري: " «على دين خليله»؛ أي: على عادة صاحبه وطريقته وسيرته، «فلينظر»؛ أي: فليتأمَّل وليتدبر، «مَن يخالل»: من المخالَّة وهي المصادقة والإخاء، فمَن رضِي دينه وخلقه خالَلَه، ومَن لا، تجنَّبه، فإن الطِّبَاع سَرَّاقة، والصحبة مؤثرة في إصلاح الحال وإفساده، قال الغزالي: مجالسة الحريص ومخالطته تحرِّك الحرص، ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهِّد في الدنيا؛ لأن الطباع مجبولة على التشبُّه والاقتداء" (انظر: (تحفه الأحوذي) كتاب الزهد).

قال الشاعر:
عَنِ المَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقَارَنِ يَقْتَدِي


وقال آخر:
فَصَاحِبْ تَقِيًّا عَالِمًا تَنْتَفِعْ بِهِ *** فَصُحْبَةُ أَهْلِ الخَيْرِ تُرْجَى وَتُطْلَبُ
وَإِيَّاكَ والفُسَّاقَ لاَ تَصْحَبَنَّهُمْ *** فَقُرْبُهُمُ يُعْدِي وَهَذَا مُجَرَّبُ
فَإِنَّا رَأَيْنَا المَرْءَ يُسْرَقُ طَبْعُهُ *** مِنَ الإِلْفِ ثُمَّ الشَّرُّ لِلنَّاسِ أَغْلَبُ

وفي المثل (الصاحب ساحب)، فصاحب الإيمان يسحبه إلى ما فيه زيادة الإيمان، والعكس بالعكس.

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثَل الجليس الصالح والسوء كحامِل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إمَّا أن يحذِيَك، وإمَّا أن تبتاع منه، وإمَّا أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إمَّا أن يحرق ثيابك، وإمَّا تجد ريحًا خبيثة».

و«يحذيك»؛ أي: يعطيك، والأدلة وأقوال السلف كثيرةٌ في أثر الصحبة الصالحة في زيادة الإيمان.

 

ثامنًا: البعد عن المعاصي:
لا شكَّ أن اقتراف المعاصي سببٌ في نقصان الإيمان، والبعد عنها ومدافعتها سببُ زيادته، فمن عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

وإن من طاعة الله تعالى أن يبتعد الإنسان عن المعاصي، والفتن، فأيُّ عبدٍ أراد أن يعيش قلبه سليمًا من الأمراض لا تضرُّه الفتن ما دامت السماوات والأرض، فليبتعد عنها ولينكرها.

ويدلُّ عليه حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلب أُشرِبها نُكِت فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نُكِت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصير على قلبين؛ على أبيض مثل الصفا فلا تضرُّه فتنةٌ ما دامت السماوات والأرض، والآخَر أسود مُربادًّا كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلاَّ ما أُشرِب من هوَاه» (رواه مسلم).

و «مربادًّا»؛ أي: مخلوطًا حمرة بسواد، «كالكوز مجخيًا»؛ أي: كالكأس المنكوس المقلوب الذي إذا انصبَّ فيه شيء لا يدخل فيه.

قال القاضي عياض: "ليس تشبيهه بالصفا بيانًا لبياضه، لكن صفة أخرى لشدَّته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل، وأن الفتن لم تُلصَق به ولم تؤثِّر فيه كالصفا، وهو الحجر الأملس" (انظر: (شرح مسلم)؛ للنووي، المجلد الأول، كتاب الإيمان).

 

وهكذا المؤمن، كلَّما كان من الفتن والمعاصي أبعدَ، كان حفاظه على سلامة قلبه وازدياد إيمانه أكثر، وكلَّما تهاوَن بالذنوب وتعرَّض للفتن، نقص إيمانه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "غضُّ البصر يُورِث ثلاث فوائد: حلاوة الإيمان ولذَّته، نور القلب والفراسة، قوة القلب وثباته وشجاعته" (انظر: الفتاوى [10/ 252]).

 

قال ابن المبارك:
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ القُلُوبَ *** وَقَدْ  يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ  القُلوبِ *** وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا

 

تاسعًا: الإكثار من النوافل والطاعات:
فكلما أكثر العبد من النوافل نال ثمرات كثيرة؛ منها: محبة الله له ومعيَّته؛ فلا يصدر من جوارحه إلا ما يُرضِي الله جل وعلا وأيضًا يكون مُجاب الدعوة، وإذا نال العبد هذه الثمرات زاد إيمانه؛ لأنه نال محبة الله ورضاه عنه، مع ما في النوافل من ثمرات.

ويدلُّ عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه».

فليجتهد العبد ويُكثِر من النوافل في الصيام والصلاة والذكر وسائر أعمال البر.

 

عاشرًا: سؤال الله تعالى زيادة الإيمان وتجديده:
ويدلُّ عليه حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه وعبدالله بن عمررضي الله عنه قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليَخْلَق في جوف أحدكم كما يَخْلَق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدِّد الإيمان في قلوبكم» (رواه الطبراني عن ابن عمر وقال الهيثمي: (إسناده حسن)، ورواه الحاكم عن ابن عمرو وقال: (رواته ثقات)، وأقرَّه الذهبي، وحسَّنه الألباني في الصحيحة [1585]).

وقوله: «إن الإيمان ليخلق»؛ أي: إنه ليَبْلَى، فالمؤمن إذا أحسَّ بقسوة في قلبه وفتور ونقص في الإيمان، سأل الله تعالى أن يجدِّد الإيمان ويزيده في قلبه؛ فقد كان السلف يحرصون على هذا الجانب، فيسألون الله عز وجل زيادة الإيمان.

فهذا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "اللهم زدنا إيمانًا ويقينًا وفقهًا"؛ قال الحافظ في (الفتح [1/48]): (رواه أحمد في الإيمان وإسناده صحيح)، وتقدَّم قول معاذ لبعض أصحابه: "اجلس بنا نؤمِن ساعة".

وكذلك قول ابن رواحة لأبي الدرداء: "تعالَ نؤمن ساعة"، وكان أبو الدرداء يقول: "من فقه العبد أن يعلم أمُزْدَاد هو أو مُنْتقَص -أي: من الإيمان - وإن من فقه العبد أن يعلم نزَغَات الشيطان أنَّى تأتيه".

 

ما تقدم من الأسباب العشرة هي من أهمِّ أسباب زيادة الإيمان، وهناك أسباب أخرى: كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزيارة القبور، وتأمُّل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والقراءة في سِيَر السلف، الاهتمام بأعمال القلوب؛ كالخوف والرجاء، والمحبَّة والتوكُّل وغيرها، والدعوة إلى الله تعالى والتقلُّل من الدنيا ومن المباحات والفضول في الطعام والكلام والنظر، وتنويع العبادة، وتذكُّر منازل الآخرة، ومناجاة الله تعالى والانكسار بين يديه، وتعظيم حرماته، والولاء والبراء.

وبضدِّ أسباب زيادة الإيمان نعرِف أسباب نقصانه، أسأل الله أن يزيدنا إيمانًا ويجدِّده في قلوبنا.

عبد الله بن حمود الفريح

حاصل على درجة الدكتوراه من قسم الدعوة والثقافة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، عام 1437هـ.