الحياة بين الهوية والتكيُّف
إن التكيُّف مع ظروف العصر مع الحفاظ على الهوية تجعل الإنسان صلبًا فكريًا من الداخل ومرنًا فِكريًا من الخارج وهذا يتيح له التعايش في المجتمعات الغريبة عنه فكريًا دون أن تزول هويته فيها أو بلفظٍ آخر دون أن يموت فكريًا فيها!
للكائن الحي خصائص يتميَّز بها عن العالم الجامد غير الحي ومنها -على سبيل المثال لا الحصر- النمو، والتغذية، والتكاثر، والاستجابة لمؤثرٍ خارجي، والهوية، والتكيُّف!
الهوية:
ماذا نقصِد بالهوية؟
مثال: كائن حي مثل السمك الذي يعيش في البحار المالحة، هل يكون لحمه مالح الطعم؟
الإجابة هي: لا!
لأنه يقاوم الوسط المحيط الذي يحاول أن يُكسِب هذا الكائن خصائصه. وطالما احتفظ الكائن بصفاته مغايرة لصفات الوسط المحيط وملائمة لمصلحته هو كان كائنًا حيًا، أما عندما تخور قِواه ولا يصمد أمام التغيير المفروض عليه من الوسط فنستطيع القول بأن هذا الكائن قد مات! إنك إن اصطدت سمكةً ميتة من البحر لوجدت ما تبقى من لحمها مالحًا.
التكيُّف:
ماذا نقصد بالتكيُّف؟
مثال: كائنات حية عديدة في الطبيعة يكون لونها مطابقًا للون الوسط الذي تعيش فيه. لماذا؟ كي تختبئ من أعدائها وفرائسها، فمن المصلحة ألا يراها كلاهما وإلا ماتت فريسةً أو ماتت هالِكة من الجوع. ولكن تكيُّفها هذا لم يجعلها مثل الوسط الذي تكون فيه في جوهرها وطبائعها الأصيلة، بل إن لها هويتها الخاصة التي لولاها لما تمايزت عن باقي الكون.
إذن ما هو دور التكيُّف؟
إن التكيُّف الذي خلقه الله تعالى في الكائنات هو الذي يحافظ على هويتها من الزوال، أي يحافظ عليها من الموت.
ولكن ماذا لو أن تلك الكائنات لها أيضًا من المحتوى والطبيعة الباطنة ما يُطابِق محتوى وطبيعة الوسط المحيط؟ هل تكون بذلك أكثر تكيُّفًا وبالتالي أكثر حِفاظًا على حياتها؟!
في تلك الحالة لن يقترِب أي عدو منها! نعم بالطبع، هذا صحيح! ولكن سيكون ذلك على حساب وجودها نفسه، فكون محتواها وطبيعتها بالكامل كالوسط المحيط هو ضياع لهويتها، أو بمعنىً آخر، هو ضياع لذاتها!
* نستنتج مما سبق أن الحياة تحتاج الهوية بدرجةٍ أولى وتحتاج للتكيُّف بدرجةٍ ثانية، ليس لذات التكيُّف، ولكن للحفاظ على الهوية.
الهوية الفكرية للإنسان وعلاقتها بالتكيُّف:
إن الإنسان لو كان ذا مبادئ وعقائد لا تهتز مع رياح الظروف ولا مخالطةِ أناسٍ مغايريين له في مبادئه وعقائده الأصيلة الداخلية، إنه حينئذٍ يكون "حيًا فِكريًا"! لماذا؟ لأنه يكون له شخصيةً وهويةً فكريةً وعقائدية.
ولكن هل يمنع وجود شخصية صلبة لا تتغيَّر بالداخل تكيّفَ العوامل المتغيِّرة من فكرِ الإنسان مع البيئة الفكرية المحيطة ومع الزمان والمكان؟
الإجابة: لا، لأن التكيُّف مع ظروف العصر مع الحفاظ على الهوية تجعل الإنسان صلبًا فكريًا من الداخل ومرنًا فِكريًا من الخارج وهذا يتيح له التعايش في المجتمعات الغريبة عنه فكريًا دون أن تزول هويته فيها أو بلفظٍ آخر دون أن يموت فكريًا فيها!
ولكن ماذا عن وجود إطار فكري خارجي قابل للذوبان بدلًا من كونه مرنًا؟ ماذا عن وجود ذلك الإطار الهش وسط أعاصير الأوساط الفكرية المحيطة؟ إنه الذوبان، ومن ثم الوصول للقلب الفكري والعقائدي للإنسان وذوبانه هو الآخر في تيارات الأوساط المحيطة. هل هذا تكيُّفًا يساعد على الحياة؟ لا، إنه "تكيُّفٌ" قاتِلًا يجعل الإنسان يذوب فِكريًا بالكامل في الأوساط الفكرية المغايرة له ومن ثم يختفي فيها، فلا تجد له شخصية ولا هوية وذلك هو الفناء بعينه!
المسلم وسط المجتمعات غير الإسلامية:
ينبغي على المسلم في المجتمعات غير المسلمة أن يمارس كلًا من الحفاظ على هويته من الداخل ومرونته من الخارج في الآن ذاته بحيث لا يذوب فيها فيموت فِكريًا ولا يتصلَّب فيها رافِضًا للتكيُّف فيموت أيضًا بانكساره. وليس هذا منافيًا للإسلام أبدًا، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام يمتلكون عقيدةً لا تُنخر بحالٍ ولكنهم في الآن ذاته حافظوا على شعائرهم ودعوتهم في طي الكتمان حتى قويت شوكتهم فأعلنوا كل هذه الأمور، وفي هذا مثال رائع على التكيُّف غير المضيع للهوية والهوية غير القاتلة لنفسها بعدم تكيُّفها.
مناسبة الإسلام لكل زمان ومكان وضحد العلمانية:
يقول العلمانيون: هل تريدون أن تُطبِّقوا علينا دينا نزل من أكثر من 1400 سنة؟ كيف هذا والدين ثابت والإنسان يتغيَّر.
وأقول أنكم أخطأتم في معطيات المسألة فلا الدين ثابتٌ بالكلية ولا الإنسان متغيُّرٌ بالكلية.
الإسلام هو بمثابة كائن حي نزل إلى كائن حي وهو الإنسان. فكما أن الإنسان قادرٌ على التكيُّف بدون ضياع هويته فالإسلام كذلك. إن الإنسان الذي أنزل الله له الإسلام يتعامل مع باطنه الثابت الذي لا يتغيَّر وذلك لِما له من صفاتٍ دفينة، وغرائز متوطنة، ويتعامل أيضًا مع الأجواء المحيطة التي تتغيَّر..
كذلك الإسلام ففيه الجزء الثابت وهو ما نزل به نص صحيح صريح لا يحتمل التأويل وفيه الجزء الذي سُكِتَ عنه أو نُوِّه عنه بنصوصٍ صحيحةٍ غير صريحة تحتمل التأوليل أو اختلاف الأفهام فيها، وهذا الأخير هو الجزء المُتكيِّف من الإسلام.
فالإسلام عقيدة وشريعة.. والعقيدة وما نزل من الشريعة بنصوصٍ صحيحةٍ صريحةٍ يمثلان لُبّ الإسلام الذي يتميَّز به عن باقي المِلل والنِّحل وتقوم به هويته. أما الجزء من الشريعة الذي يحتمل التأويل ففيه سعة لاختلاف الأفهام باختلاف الظروف والزمان والمكان، والجزء الذي سكتت عنه الشريعة هو من باب المباحات أو المصالح المرسلة التي يُترك للناس تحديدها بالشورى بينهم ويكون مُلزمًا للجميع بكونه جزءًا من الشريعة بعد التشاور والاتفاق عليه. أقول أما الجزءان الأخيران فهما يُكسِبان الإسلام مرونة قوية تحميه من الانكسار وسط موجات التغيُّر.
وبهذا يتضح أنه طالما وُجد الإنسان فالإسلام صالح له لأنه نزل له، يُكسِب المسلم هويته التي لا تتغيَّر ويُكسِبه التكيُّف الذي يستطيع به مجاراة تغيُّرات الأحوال وذلك من هوية وتكيُّف الإسلام ذاته.
الخلاصة:
لا تذب مع الوسط المحيط فتموت ولا تُفرِّط في التكيُّف معه فتموت أيضًا - ولكن كن صلد اللبّ، مرنَ القشرةِ سميكَها، حتى يكون لك هوية فتكون حيًا ويكون لك تكيُّفًا مع الظروف فتُحافِظ على حياتك التي اكتسبتها من هويتك.
والله أعلم.
أحمد كمال قاسم
كاتب إسلامي
- التصنيف: