العبادة المهجورة

منذ 2014-06-18

الانكسار حالة تسيطر على القلب، يستشعر الإنسان خلالها بذله وافتقاره وعبوديته لله تعالى.

يقسم علماء الشريعة العبادات في الإسلام إلى قسمين: عبادات الجوارح وعبادات القلوب، أما عبادات الجوارح فهي الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها من النوافل، وأما عبادات القلوب فهي الإخلاص والنية والتواضع والذل والانكسار بين يدي الله تعالى.


أما عبادات الجوارح فمعظم المسلمين يطبقونها ويتقربون إلى الله تعالى بها، وهي مع أهميتها وارتباط أركان الإسلام بها، إلا أن غاياتها وأهدافها الوصول إلى الخضوع والتذلل لله، وإظهار الفاقة والمسكنة والعبودية له والتزام أمره ونهيه، وهي للأسف العبادة المهجورة المنسية لدى كثير من المسلمين، مع افتقارنا وحاجة كل مسلم إليها، إنها عبادة الذل والانكسار والتضرع بين يدي الله تعالى.


الانكسار حالة تسيطر على القلب، يستشعر الإنسان خلالها بذله وافتقاره وعبوديته لله تعالى، والعبودية كما يرى العلماء من أعلى المقامات عند الله تعالى، وعندما يرى الله من عبده هذا الشعور بصدق، يغفر له ذنبه، ويفك كربه، ويقبل عبادته وطاعته.


يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: كلما ازداد القلب حبًّا لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبًا وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلية، فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يلتذ ولا يُسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه (الفتاوى الكبرى [5/ 188] و العبودية [1/34]).


إن العبد ذليل ومفتقر إلى الله تعالى من كل وجه، فهو مفتقر إلى الله تعالى في النعمة والنقمة، في العسر واليسر، وإنما يريد الله تعالى من عبده ان يراه متذللًا إليه، منكسرًا بين يدعيه طواعية منه ومحبة، فهل يعي المسلم ذلك؟!!

يقول ابن القيم: إنَّ مقام العبودية هو بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلًا للّه وانقيادًا وطاعة، ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لقهره، ذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه وإنعامه عليه (مفتاح دار السعادتين ومنشور ولاية العلم [1/ 289]).


والناظر في أحوال المسلمين يستغرب من طبع الإنسان المسلم، و تعتريه الدهشة من سلوكه وتعامله مع أوامر الله تعالى ونواهيه، فكثيرًا ما يقلب الموازين وينكس المعايير التي وضعها الله تعالى له، ففي الوقت الذي أمره الله تعالى فيه أن لا يذل لعبد أبدًا مهما كان قويًا أو غنيًا، نراه لا يتقيد بذلك، فتراه يتضعضع لغني من أجل ماله، أو يذل لقوي خوفًا من بطشه وجبروته، أو يخضع لامرأة من أجل شهوته وأهوائه، بينما الواجب عليه أن لا يذل ولا ينكسر ولا يخضع ولا يتضعضع لأحد إلا لله وحده، وحينما يأمره الله تعالى بالانكسار إليه والتضرع بين يديه يتعالى ويستكبر.


إن المسلم المتبع لا المبتدع له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد كان شديد الضراعة والانكسار والذل بين يدي الله تعالى، في جميع أحواله وأوقاته، في وقت الابتلاء و والمصيبة المحنة، وكذلك في وقت الامتنان والراحة والمنحة، في الغنى و الرخاء و السراء، وكذلك في الفقر و الشدة والضراء، في مشهد فريد يستدعي التوقف عنده مليًا.

في ذلك العام الذي توفي فيه عمه أبو طالب، الذي كان يدفع عنه أذى قريش، وتوفيت فيه زوجته خديجة، المرأة الصالحة التي كانت سنده ورفيقة دربه منذ بدايات دعوته، فسمي ذلك العام بعام الحزن، وتكاثرت الهموم والأحزان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزادت تلك الأحزان بما لقيه من أهل الطائف، من الأذى والطرد والاستهزاء والسخرية، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن لجأ إلى العبادة المهجورة في زمننا هذا، نعم لجأ إلى الله تعالى بذل وانكسار، وعبرت الكلمات التي قالها بما في قلبه من الحب والرضا والذل لله تعالى:
«اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس، أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله » (رواه الطبراني وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، و بقية رجاله ثقات).


وفي عام فتح مكة، ذلك العام الذي أعز الله تعالى به نبيه وصحبه، وهزم الشرك وأذله، مما يستدعي العزة والأنفة والرفعة، كأي فاتح ومنتصر وفائز، ترى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في غاية الانكسار والتواضع والذل لله تعالى، لا في قلبه فحسب، بل في جوارحه التي تأثرت بما في القلب من تواضع وانكسار لله تعالى.

فقد ورد في كتب السيرة النبوية "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام، وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل، ودخل وهو يقرأ سورة الفتح مستشعرًا بنعمة الفتح وغفران الذنوب، وإفاضة النصر العزيز" السيرة النبوية (عرض وقائع وتحليل أحداث [4/78]).


كم نحن اليوم بحاجة لهذه العبادة القلبية العظيمة، في وقت تزايدت فيه الكروب وادلهمت فيه الخطوب، وأصبحنا بأمس الحاجة لمن ينقذنا وينتشلنا مما نحن فيه، فأين نحن من الانكسار والتضرع لله تعالى في هذه الأوقات، وأين نحن من هذه العبادة القلبية في ظلمة الليل والسحر، حيث استجابة الدعاء وحلاوة المناجاة.

لقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم حالة فريدة للانكسار والخضوع والذل لله تعالى، ألا وهي حالة السجود، فقال صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء»  (مسلم [1/350] برقم [215]).

وفي حديث آخر عن رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِىُّ قَالَ كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِى «سَلْ». فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِى الْجَنَّةِ. قَالَ «أَوَغَيْرَ ذَلِكَ» قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ  «فَأَعِنِّى عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» (مسلم [2/52] برقم [1122]).


فحالة السجود من أكثر الحالات المعبرة ماديًا ومعنويًا عن الذل والانكسار لله تعالى التي لا ينبغي أن تبذل إلا لله تعالى، فالمسلم لا يذل إلا لله، ولا يسأل حاجته إلا من بيده ملكوت السماوات والأرض.

يقول ابن رجب الحنبلي: واعلم أن سؤالَ اللهِ تعالى دون خلقه هو المتعيّن؛ لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على دفع هذا الضرر، ونيلِ المطلوب، وجلبِ المنافع، ودرء المضارّ، ولا يصلح الذل والافتقار إلا الله وحده، لأنه حقيقة العبادة (جامع العلوم والحكم [481/1]).

 

د. عامر الهوشان