تدبر - [62] سورة الأعراف (6)

منذ 2014-07-07

{مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود من الآية:27]..

لا جديد تحت الشمس..!

هذا ما يقولونه منذ ألف سنة إلا خمسين عامًا!

بل هذا ما يقوله وسيقوله العالون المتكبِّرون في كل زمان ومكان..

هي نظرة العلو والاستغراق في استعظام النفس والاستكبار في الأرض..

هي عجرفة فرعون، وعلو النمرود، وغرور ملك الأخدود، وكِبر قوم عاد وثمود..

وكأنها صفات وراثية تتكرَّر في متكبري كل جيل، لتقف حائلًا بين المترفين المنعمين وبين الهداية لصراط الله المستقيم..

ألفاظ تتكرَّر في كل جيل باختلافات بسيطة لا تُغيِّر المعنى الثابت، ولا تهز الفكرة الراسخة في قلوب الطاغين..

فكرة الاغترار والاستعلاء بالقوة، بالجاه، بالنسب، بالسلطان، بالمال..!

إنها الفكرة التي ستدفع فرعون لأن يقول بعد قرون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيَ أَفَلَا تُبْصِرُونَ . أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف من الآية:51-52]..!

والتي ستدفعه بعد ذلك لأن يقول: {إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء من الآية:54]..

إنها الفكرة التي ستدفع أهل مدين لأن يقولوا لشعيب عليه السلام: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود من الآية:91]..

والتي ستدفع أكابر قريش لأن يقولوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]..

والتي ستدفع مترفي كل قرية وأكابر مجرميها ليمكروا فيها، لا لشيء إلا استكبارًا في الأرض، ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

لقد خبر نوح عليه السلام هذه الأفكار الاستعلائية جيدًا، وعلِم أنها الحائل الأكبر الذي حجب الهداية عن أولئك المستكبرين.

كيف لا! وهم يسمعونه مثلها منذ مئات السنين..

هل انتهيتم؟ متى سوف تنتهون؟

هل فرغتم من طرح شبهاتكم؟

فليتكلَّم نبي الله إذا..

فليقذف بالحق من عند ربه، ليدمغ طبقيتكم المقيتة التي لا محل لها في واحات الهداية المظللة بظلال الأخوة الإيمانية الوارفة، والتي لا تميز غنيًا ولا فقيرًا ولا قويًا ولا ضعيفًا ولا سيدًا ولا عبدًا..

الكل أمام الهداية سواء كأسنان المشط، لا يتفاضلون إلا بقبولهم لهدى الله الذي أنزل إليهم..

فليرد نبي الله نوح، لعل الوقر يزول عن آذانهم، وتخرج قلوبهم من أكنتها..

{يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ . وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ . وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [هود:28-30]..

وهل وصلت بكم الجرأة أن تطلبوا من نبي مُكلَّم ورسولٌ صاحب عزم أن يرد الناس عن دينه لأجل فقرهم؟!

وماذا يقول لربه إن فعل؟!

بماذا يجيب من أرسله بالهدى للعالمين حين يلاقونه ويلاقيه؟

أفيطردهم لأنهم فقراء؟!

هل تطلبون دينًا طبقيًا لا مكان فيه للبسطاء؟!

وحتى لو كنتم تتهمونهم بالسفول والدنو، فقد أقبلوا على الله وأنابوا إليه، فهل نقطع عليهم طريق هدايتهم بسبب رقة حالهم؟! أي منطق هذا؟!

بل أي ظلم وأي تجبُّر؟

وكأنكم أيها الأكابر الأغنياء! ترون أن أولئك البسطاء لا يرقون لمنزلة البشر، ولا يستحقون عيشًا كريمًا لا في الدنيا ولا حتى في الآخرة..!

لكنه الكِبر والعلو!

الكِبر الذي تمكّن من نفوسكم!

والعلو الذي استشرى في مجتمعكم فاستحققتم ما سيصيبكم!

استحققتم أن تُطهَّر الأرض منكم، وتغسِل ظاهرها من تعاليكم!

وليأتِ جيل جديد قد طَهُر من تلك الأفكار المريضة!

ولينشأ مجتمع لا مكان فيه لتفاضل بجاهٍ أو بمالٍ أو بنسبٍ أو بمنصبٍ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من كتابي: (العودة إلى الروح).
 

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
المقال السابق
[61] سورة الأعراف (5)
المقال التالي
[63] سورة الأعراف (7)