تدبر - [297] سورة الروم (1)

منذ 2014-08-03

تعالت الصيحات في شِعاب مكة وطرقاتها الضيقة: {غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2-3]..

- من هذا؟!

- الصوت ليس غريبًا..

- لماذا يصيح ابن أبي قحافة بهذا الشكل؟

- وكيف علم أن الروم قد غُلِبت؟

- إن بيننا وبين الفرس والروم ومعاركهم مئات الأميال!

- وكيف علم أنهم سيغلبون من جديد بعد بضع سنين؟

- لا بُدَّ أنها تلك الكلمات التي يُردِّدها صاحبه على مسامعه صباحا ومساءً..

{غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}..

استمرَّت الصيحات تُجلجل بثقةٍ في أرجاء مكة..

كرَّر الصديق أبو بكر رضي الله تعالى عنه صيحاته المستبشرة بالآية الكريمة في طُرقات مكة والملأ من المشركين يضربون كفًا بكف..

كانت فارس يوم نزلت هذِه الآيةُ قاهرينَ للرومِ وكانت قريشٌ تُحِبُّ ظُهورَ فارسَ لأنَّهم وإيَّاهم قوم وثنيون ليسوا بأَهلِ كتابٍ ولاَ إيمانٍ ببعث ولا نشور؛ لذا فقد وقفوا لأبي بكر مُشكِّكين يقولون: فذلِكَ بينَنا وبينَكُم زعمَ صاحبُكَ أنَّ الرُّومَ ستَغلِبُ فارسَ في بضعِ سنينَ..

أفَلا نراهنُكَ على ذلكَ؟

قال بيقين المؤمن المُصدِّق بموعود الله الذي لا يهزّه تشكيك ولا يُزعزِعه مِراء أو تسفيه: "بلى".

قبل الصديق رهانهم وكان ذلك قبل تحريمِ الرِّهانِ..

فارتَهنَ أبو بكرٍ والمشرِكونَ وتواضَعوا قيمة الرِّهانَ لكنهم طلبوا منه تحديدًا قاطِعًا يجزم فيه بالعام الذي تنتصر فيه الروم على عدوها..

وهنا كانت الزلة..

ولا معصوم إلا نبي..

لقد كان الوعد الرباني في الآية على التراخي ولم يكُ على التعيين والتحديد لكن أبا بكر رضي الله عنه سمَّى أجلًا وحدَّد موعِدًا، وما كان له أن يفعل لكن يُقدِّر الله أن يزل تلك الزلة وليتعلَّم المسلمون درسًا ما أعظمه..

لقد حدَّد البضع هنا بستِّ سنين وراهنهم الصديق على ذلك..

ومضت الأعوام وحدثت المتغيرات ووقعت الوقائع ثم جاء أجل الرهان..

ولم تنتصِر الروم..

ليس بعد..!

رغم مُضي الأعوام الستة كما وعد أبو بكر لم ينتصروا بعد..

تهلَّل المشركون وظنوا أن قد أثبتوا خللًا في وعد الله فأخذوا رَهنَ أبي بكرٍ فرحين بباطلهم مستبشرين بتكذيبهم ودخل على الصديق يومئذ غمٌ عظيم..

لكن اليقين بموعود الله أبدًا لم يهتز..

إن الذي زلّ هو الصديق وهو بشرٌ يُخطئ ويُصيب على مكانته وقدره ولعله تسرَّع لشدة يقينه وتصديقه..

لكن المسلمين -كما في رواية الأثر عند الترمذي بسندٍ صحيح- قد عابوا عليه تحديده..

فما هكذا تعامل الوعود الربانية والبشريات النبوية..!

خصوصًا تلك التي بغير تعيين وتحديد وقد جاءت على التراخي..

صحيح أنه ما دخَلَتِ السَّنَةُ السابعَةُ إلا وقد ظهرَتِ الرُّومُ على فارِسَ وتحقَّق موعود الله وآمن خلق كثير بعد تلك الآية والنبوءة القرآنية المتحققة..

لكن ما يعنينا هنا أن أبا بكر كان قد وعى الدرس..

تمرّ الأعوام ويأتي موقف الحديبية ويُعلَن وعدٌ نبوي آخر بالاعتمار ويستبشر المسلمون وتتهلَّل أساريرهم..

ها قد حان الوقت لنرى بيت الله الحرام وكعبته المشرَّفة من جديد..

ها قد آن الأوان لنُلبي النداء ونُهِل محرمين مُكبِّرين مُهلِّلين ولنطوف بالبيت العتيق..

فلنسق الهدي ولتسابق قلوبنا لتهفو إلى أم القرى..

لكن جاء المنع وعاند أئمة الكفر..

ثم كان الصلح في الحديبية..

لا عمرة إذًا هذا العام!

- "أليسَ كان يُحَدِّثُنَا أَنَّا سنَأْتِي البيتَ ونَطُوفُ به؟"..

هكذا صاح الفاروق عمر في صاحبه ورفيق كفاحه الصديق رضي الله عنهما..

"ألم يعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأتي البيت مُحرمين محلقي رؤوسنا ومُقصِّرين!"..

فيجيب بيقين الواثق الذي وعى الدرس وفهم كيف التعامل مع الوعود والبشريات: "بلى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّك تَأْتِيه العامَ؟

- "لا".

أجاب عمر نافيًا التحديد..

هنا صدع بها أبو بكر بحسمٍ لا يساوره الخلل ولا يأتيه الملل ولا الزلل: "فإنك آتِيه ومُطَوِّفٌ به"..

وهكذا يعامل الوعد..

تصديقٌ ويقينٌ ولو بعد حين..

تبشير مُطلَق كما علَّمنا الله وعلَّمنا رسوله صلى الله عليه وسلم..

وإن الاستثناء لهو التحديد بزمانٍ أو لشخصٍ مُعيَّن وهذا لا يكون إلا بوحي..

لكن إياك أن تجزم بتحديد ما لم يُحدِّده الله جل وعلا، وإياك أن تتألّى على غيب أو تُضيِّق واسِعًا أو تقطع بما لا تعلم.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
المقال السابق
[296] سورة العنكبوت (5)
المقال التالي
[298] سورة الروم (2)