أنماط - (59) نمط الأخ جنب الحيط
قبل سنوات كان البدء..
وواهًا لأيام البدء..!
أيام كان قلبه فيها مُتقِدًا بالحماس وعيناه دومًا مستعدة لذرف دمعات ساخنة..
دمعات ندم وتوبة على فات واشتياق لما هو آت وخشية من حساب بعد الممات..
كان ورعًا يترك المشتبهات مخافة الوقوع في المحرَّمات وكان شديد الحرص على إرضاء مولاه، راميًا بسهام خيرٍ في كل مرمى.. لا يحقر عبادة ولا يُقلِّل من شأن قُربى ولا يسمع عن باب طاعة إلا سابق إليه..
كان إذا سمع النداء هبَّ مُسارِعًا للإجابة، وإن فاتته الجماعة حزن واستغفر وعاهد الله ألا تفوته بعدها..
ما غضب يومًا من نُصحٍ ولا استكبر على ناصح.. بل كان هينًا لينًا في أيدي إخوانه محبًُا لهم راغبًا في صحبتهم، حريصًا على مودتهم مُتلهِفًا للقياهم والاجتماع بهم في حِلق العلم ومواطن الخير..
كم كان رقيق القلب، قريب التأثر وقَّافًا عند حدود الله.. كم كان شغوفًا بكتاب ربه.. مقبلًا على حفظه وتلاوته وصحبته.. مُشتاقًا إلى حمله كاملًا في صدره.. مُتخلِّقًا به في جوارحه..
كم كان غيورًا على حُرمات ربه مهمومًا بأمر أُمَّته حريصًا على رفعتها وراغِبًا في صلاح حالها وهداية أبنائها..
كم كان رائعًا!
لكن..
ماذا أصابه؟!
الشكل هو هو.. والهيئة شبيهة لكن العينين مختلفتان..!
بريق الحماسة قد انطفأت جذوته في مقلتيه حتى كادت تخبو!
نعم هو نفس السمت إلا أنه صار كأنما هو قشرة تكاد تتشقَّق وعند أول محك تتصدَّع.. لتظهر عندئذ من تحت تلك القشرة أخلاق قديمة ظن أنها قد اندثرت منذ زمن بعيد!
ولقد صارت دمعاته عزيزة واختلاجات قلبه عند الموعظة نادرة.. وصار الامتثال وتصحيح المسار أملًا بعيد المنال!
أين مصحفه صغير الحجم الذي ما كان يفارق يده أو جيبه؟!
أين مسواكه وأوراده ونوافله؟
بل أين فرائضه؟!
ها هو النداء يعلو داعيًا للفلاح.. لكن الهبة القديمة قد اختفت وحل محلها التثاؤب واستبدلت بالمعاذير والشواغل!
وها هي معايب إخوانه قد تبدَّت إليه وتعاظمت في عينيه.. ليحل التربص محل المودة ولتستبدل الأحقاد بالمحبة الإيمانية القديمة!
ماذا حدث؟!
ماذا دهاه؟!
أَفطال عليه الأمد فقسى قلبه وجفَّت عيناه وتبلَّدت مشاعره وبلي ثوب الإيمان في جوفه؟!
أم أنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه.. وأسلم القياد لنفسه الأمارة وعدوه اللدود.. فانسلخ من الآيات التي أوتيها وصار من الغاويين!
معقول؟!
ولماذا؟!
ما الذي غيَّره؟!
وما الذي يستحق؟
وماذا ينتظر ليعود؟!
وهل يضمن أن يمهل ليعود؟!
يعود لأيام البدء..
وما أجملها من أيام..
ألم يأن بعد أن يعود إليها؟!
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
- التصنيف: