أنماط - (63) نمط المذبذب الغافل بين البينين لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك

منذ 2014-08-10

صِنفٌ يُحقِّر نفسه ولا يشارك في الخير ولا يحسم أمره أو يفصل في اختياره فيسلك سبيلًا إلى نهايته.. أهل الأعرف الذين سُمِّيت السورة باسمهم وقفوا في المنتصف، لم يعرفوا إلى أين يذهبون في الآخرة كما تذبذبوا ولم يعرفوا طريقهم في الدنيا: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}...

صِنفٌ يُحقِّر نفسه ولا يشارك في الخير ولا يحسم أمره أو يفصل في اختياره فيسلك سبيلًا إلى نهايته..

أهل الأعرف الذين سُمِّيت السورة باسمهم وقفوا في المنتصف، لم يعرفوا إلى أين يذهبون في الآخرة كما تذبذبوا ولم يعرفوا طريقهم في الدنيا: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف من الآية:46]..

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف من الآية:46]..

يعرفون الصنفين الآخرين بسيماهم لأنهم كانوا يختلطون معهم في الدنيا ويرون خياراتهم وأعمالهم بيد أنهم لم يصاحبوا أيًّا منهم مصاحبة كاملة: {وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف من الآية:46].

ما أجمعها من كلمة.. {يَطْمَعُونَ}..

كلمة يظهر منها استشرافهم للدخول ورغبتهم في التنعم بنعيمها لكنه الآن مجرد طمع فهم يعلمون أنهم ليسوا أهلًا لها بعد بتميعهم في الدنيا وتثاقلهم عن سلوك سبيلها: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف من الآية:47]..

يخافون من هذا المكان الموحش القاسي ويدركون أنهم ليسوا بمعزلٍ عنه بسبب تقصيرهم وبعدهم عن طاعة الله
{وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف من الآية:48]، كانوا يُردِّدون في الدنيا أنهم أصحاب المال والمنصب والجاه ويتعالون على المنعمين الآن: {أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف من الآية:49]..

ثم ينتقل الكلام إلى أهل الجنة: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف من الآية:49]، بعدما تكلموا مع أهل النار وتلاوموا فيما بينهم الآن ينظرون إلى أهل الجنة ويقولون: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف من الآية:4]..

أنتم الفائزون اليوم بعد أن كانوا يقسمون أنكم لن ينالكم الله برحمة!

ثم تختم تلك المجموعة من الآيات بقطع طمع أهل النار في أدنى فرج: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ . الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:50-51].

بينما تترك الآيات مصير أهل الأعراف معلقًا كما كان قرارهم في الدنيا معلَّقًا، نعم ربما يدخلونها بعد حين لكن متى؟!

بعد كم عام من الانتظار؟!

وأي عذاب نفسي هذا الذي يتعرَّضون إليه وهم ينظرون إلى البشر من حولهم يساقون إلى الجنة وإلى النار وهم باقون منتظرون خائفون ويطمعون.. صحيح أنه عذاب نفسي لم يرد الخبر فيما نعلم أن عذابًا ماديًا يُصاحِبه
لكن في النهاية هو أمر صعب استحقوه بتميعهم ومنتصفيتهم الباردة وحرجهم من سلوك طريق الحق.

للأسف كثيرٌ من الناس لا يُدرِكون خطورة أهل الأعراف.. أذكر موقفًا في الجامعة كان أحد الأساتذة يُبغِض الطلبة المتدينين المتمسكين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فاستهزأ يومًا بأحدهم قائلًا: "نحن أهل الأعراف وقال أنا أرضى أن أكون من أهل الأعراف"...! فاستغربت جدًا، هل يعي هذا معنى أهل الأعراف؟! هل يعرف قدر يوم القيامة: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج من الآية:4]..

من يستطيع أن يقف في الوسط خمسين ألف سنة، أو ألف سنة أو حتى سنة؟! وهو يسمع أن فلانًا بن فلان سيسعد سعادة لن يشقى بعدها أبدًا ويسمع أن فلانًا بن فلان شقي شقاء لن يسعد بعده أبدًا، وهو ينتظر أن يسمع اسمه، عذاب الانتظار وعذاب عدم معرفة المصير هل سيكون في الجنة أم سيكون في النار والعياذ بالله!

{لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} وقوفه يوم القيامة في الوسط على الأعراف لأنه في الدنيا كان في الوسط أيضًا، كان بين بين: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ} [النساء من الآية:143] صفة من صفات المنافقين، يعرف أهل الحق الذين كانوا يدعونه إلى الهدى {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} [الأنعام من الآية:71]، لكنه لم يختر أن يكون معهم ويعرف أيضًا أهل الباطل لكنه لم يختر لنفسه فسيتعذِب عذاب الانتظار والتربص مع من سيكون؟!

لذا نجد من أهم التوجيهات في سورة الأعراف هو الذي يظهر في هذه الآية من مطلع السورة: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} [الأعراف من الآية:2]، لا تتردَّد ولا تتباطأ كثيرًا بل اختر أن تتبع هذا الكتاب {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ . اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف من الآيتين:2-3]..

دعوة للاختيار واتباع السبيل الحق: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3]، السورة تدعوك أن تختار لميزانك ومآلك في هذا اليوم: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:8-9]..

سورة الأعراف تدعوك لسبيل المتقين {يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف:35]..

سورة الأعراف توجه رسالة للجميع، لا يكفي أن تكون صالحًا وإنما يجب أن تكون مؤمنًا مصلحًا لك دور ولك وجود وبذل لهذا الدين ولهذا تأتي الآية واضحة فاصلة: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170]..

التمسك بالكتاب وإقامة الصلاة هذا صلاح، تمسك بطاعة الله عز وجل وتنفيذ أوامره سبحانه وتعالى {يُمَسِّكُونَ} بتشديد السين وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.. يعني شديد التمسك بكتاب الله، وقيل يمسّكون غيرهم. وأقاموا الصلاة ليس فقط أداء الصلاة وإنما يقيمونها: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}..

تأمَّل جيدًا كلمة المصلحين وضعها جنبًا إلى جنب مع كلمة شعيب عليه السلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}[1] لتدرك هذا المعنى الذي أقصده معنى التغيير والإصلاح وحمل رسالة وسلوك سبيل بحقه وإلى منتهاه.
 

ــــــــــــــــــــــــــــ

[1]- [هود من الآية:88].

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
المقال السابق
(62) نمط الدائرون في الدوائر المفرغة
المقال التالي
(64) نمط (السَّبَّابِ) الرداحِ