إحسان الظن بالله - (6) الحمد لله على أنه لم يعطني ما تمنيت
متى فتح لك باب الفهم في المنع، عاد المنع عين العطاء. متى أعطاك أشهَدَك برّه، ومتى منعك أشهدَك قهره، فهو في كل ذلك متعرّف إليك ومقبل بوجود لطفه عليك. إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه...
ذكرنا أن البلاء يعينك على أن تبني حبك لله على أسس سليمة، وقلنا أن من هذه الأسس تأملَ أسماء الله وصفاته.
البلاء يعينك على فهم هذه الأسماء والصفات.
- سنتكلم بداية عن صفة الحكمة، حكمة الله تعالى في الابتلاء.
- سبحان الله! ترى الغافل يشككه البلاء في حكمة الله، بينما المؤمن يزيده البلاء يقيناً بحكمة الله!
قال ابن عطاء الله السكندري: "متى فتح -أي الله تعالى- متى فتح لك باب الفهم في المنع، عاد المنع عين العطاء. متى أعطاك أشهَدَك برّه، ومتى منعك أشهدَك قهره، فهو في كل ذلك متعرّف إليك ومقبل بوجود لطفه عليك. إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه".
إذن، قد تُحرم من نعمة... فإن وفقك الله للتفكر في حكمته عندما حرمك، فإن هذا التفكر سيعود عليك بعطايا هي أعظم بكثير مما حرمت منه، وسترى أن الله تعالى يعرفك بأسمائه وصفاته من خلال هذا البلاء. أما الذي لا يرى البلاء إلا شرًا محضًا فمصيبته في قلة التفكر وقلة فهم حكم الله.
قال ابن القيم: "ولو أنصف العبد ربه، وأنى له بذلك، لعلم أن فضل الله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها أعظم من فضله عليه فيما آتاه منها! فإنه ما منعه إلا ليعطيه".
المفتاح للتفكر والفهم هو أن توقن أن لله في كل شيء حكمة. تجاوز الشك في وجود الحكمة. أيقن بحكمة الله ثم تفكر: ما هي هذه الحكم؟ وستفتح لك حينئذ كنوز عظيمة.
والمفتاح الآخر أن توقن بجهلك في مقابل حكمة الله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة من الأية:216].
في كل مرحلة من مراحل البلاء الذي مررت به كنت أتمنى أن يتوقف البلاء عند هذا الحد وأعود إلى حياتي كالمعتاد. قبل تحويلي إلى السجن كنت أتمنى ألا أحول، وقبل محاكمتي كنت أتمنى ألا أحاكم، وقبل الحكم علي كنت أتمنى ألا يحكم علي، وقبل صدور قرار نقض الحكم بعد خمسة أشهر كنت أتمنى أن ينقض الحكم قريبًا وألا تطول المدة.
وفي كل مرحلة كنت أظن أن الأنفع لي أن يقف البلاء عند هذا الحد. لكنني في كل مرحلة كنت أكتشف أن استمرار البلاء كان أنفع لي من توقفه! والآن لو سئلت: هل تتمنى لو أن كل هذا الذي حدث لك لم يحدث؟ فجوابي: لا والله! بل أنا سعيد جدًا بأن الله تعالى لم يحقق لي ما تمنيته ودعوت به من الخروج المبكر من الأسر، بل اختار لي أفضل من اختياري لنفسي.
أحمد الله على أن استمرت نعمة البلاء هذه المدة كلها لأقطف منها الهدايا الربانية العظيمة.
قال ابن القيم: "ومن الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بها عليه واختارها له فيملّها العبد ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم -لجهله- أنه خير له منها. وربه برحمته لا يخرجه من تلك النعمة ويعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه".
ثم قال: "فإذا أراد الله بعبده خيرًا ورشدًا أشهده أن ما هو فيه نعمة من نعمه عليه ورضّاه به وأوزعه شكره عليه".
والحمد لله وصلت إلى هذه المرحلة في أواخر بلاء السجن. لم تعد المسألة صبرًا فحسب، بل أصبحت أشكر ربي على ما أنا فيه من نعمة البلاء.
قبل تجربة الأسر كنت أتساءل أحياناً عن الحكمة في تقدير البلاء على علماء ودعاة يفيدون الناس بدعوتهم وهم أحرار، كالإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم وسيد قطب وغيرهم. كنت أفهم بعض الحكم من ذلك لكني كنت أتمنى أن يطمئن قلبي أكثر. كنت أفهم جانبًا من الحكمة نظريًا لكنني بتجربة البلاء فهمتها عمليًا.
إذا ابتليت ووفقك الله للفهم فسترى مصداق قول معاوية رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري: "لا حكيم إلا ذو تجربة".
سترى كيف أن من يعمل للإسلام تبقى في شخصيته حلقة مفقودة لا تكتمل إلا بالتضحية، عندما يقدم ثمن دعوته.
سترى كيف أن الله يفتح على الأسير في سبيله فتوحات ما كانت تخطر بباله خارج السجن. ستفهم كل كلمة من الكلمات التالية العظيمة لسيد قطب رحمه الله، الذي حبس وأعدم في سبيل الله.
قال سيد رحمه الله: "فلا بد من تربية النفوس بالبلاء ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد وبالجوع ونقص الأموال والأنفس الثمرات. قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155].
لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف، والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى. فالتكاليف هنا هي الثمن النفيس الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تَعز في نفوس الآخرين، وكلما تألموا في سبيلها وكلما بذلوا من أجلها كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها.
كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها وصبرهم على بلائها.
ولا بد من البلاء كذلك ليَصْلُب عود أصحاب العقيدة ويقوى. فالشدائد تستجيش مكنون القوى، ومدخور الطاقة، وتفتح في القلوب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن إلا تحت مطارق الشدائد.
والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون والران عن القلوب. وأهم من هذا كله، أو القاعدة لهذا كله الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها، وتتوارى الأوهام -وهي شتى- ويخلو القلب إلى الله وحده لا يجد سنداً إلا سنده.
وفي هذه اللحظة قد تنجلي الغشاوات، وتنفتح البصيرة، وينجلي الأفق على مد البصر: (لاشيء إلا الله، لا قوة إلا قوتُه، لا حول إلا حولُه، لا إرادة إلا إرادتُه، لا ملجأ إلا إليه...) لذلك إن الله قد وضع الابتلاء لينكشف المجاهدون ويتميزوا، وتصبح أخبارهم معروفة، ولا يقع الالتباس في الصفوف، ولا يبقى مجال لخفاء أمر المنافقين، ولا أمر الضعاف الجزعين" انتهى كلامه رحمه الله.
إذن هذه من حكم الله تعالى في ابتلاء الدعاة. صحيح أنهم لو بقوا خارج السجن لربما تمكنوا من مخالطة الناس وقراءة المراجع وبث المؤلفات أكثر. لكن الله تعالى يريد أن يخلص نياتهم ويبث الحياة في كلماتهم، فكما قيل: "فعل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل".
- لا يعني هذا أنك ستحيط بحكمة الله في البلاء كلها أو أن لك ألا تحسن الظن حتى تدركها. فالله تعالى قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء من الأية:85].
- فلن تدرك إلا قليلاً من حكم الله تعالى. لكنه سبحانه برحمته أطلعك على شيء من حكمته ليطمئن قلبك.
- يسهل علينا فهم هذه المعاني في البلايا الخفيفة نسبياً، لكن القلب قد يساوره الشك عندما يرى أناساً ابتلوا بلايا عظيمة جدًا. سنتكلم عن هؤلاء في الحلقة القادمة بإذن الله.
خلاصة هذه الحلقة: ثق بحكمة الله في ابتلائك، وسيكشف لك كنوزاً عظيمة.
- التصنيف:
- المصدر: